الخليج العربي الذي نعرفه الآن هو غيره قبل 30 أو 40 سنة مضت. الخليج الحالي الذي نعرفه زيارة أو قراءة أو مشاهدة أو سمعاً هو غير الخليج الذي كان. كل شيء تغير، باستثناء الانسان. صحيح أن الانسان تطور حضارياً ومدينياً، لكنه بقي على تمسكه بتراث الأجداد وتقاليدهم. أما الوطن أو الأوطان إن شئت، فقد أصبحت شيئاً آخر. نبدأ بمسقط، العاصمة، التي كان اسمها يطلق على الدولة، إذ كانت تسمى سلطنة مسقط وعُمان ثم اختصرت الى سلطنة عُمان وبقي اسم مسقط حكراً على العاصمة. ومسقط محافظة كبيرة كانت في السابق تضم مجموعة من القرى أو المزارع، وتطورت القرى وأصبحت ولايات تضمها محافظة مسقط. وهي تتكون من مسقط ومطرح أبو شر والسيب والعامرات والقريات. في الخمسينات لم يكن عدد سكان محافظة مسقط يزيد على 52 ألف نسمة. ومع الزمن تحولت الولايات الى ضواح لمدينة مسقط، بل أصبحت أحياء لها، فيما بقيت مسقط الأساسية شبه قرية صغيرة، لكن مع أبنية حديثة وبينها قصر السلطان قابوس بن سعيد. وتوسعت مسقط، فقامت فيها أحياء جديدة وبنايات كبيرة وفنادق فخمة. بل يمكن القول ان مسقط الحديثة تختلف كلياً عنها قبل 30 سنة. لكنها حافظت على طابعها التاريخي وأسواقها التقليدية وحاراتها وبيوتها الضيقة ذات الأبواب الخشبية الضخمة وطرازها المعماري المميز الذي تمت صيانته والابقاء عليه. كانت مسقط أساساً امتداداً ساحلياً لم يكن يتجاوز الكيلومتر الواحد يمتد بين قلعتي الجلالي والميراني، وأصبح طولها اليوم 50 كيلومتراً بدءاً من مطرح وروى والقرم والخوير وبوشر حتى السيب التي يقع فيها المطار الدولي. داخل المدينة شارع رئيسي يبدأ من روى الى مطرح، نزولاً نحو الميناء، حيث تقع السوق الشعبية القديمة التي تشبه الى حد ما سوق الحميدية في دمشق، وترى فيها باعة الأحذية والألبسة والمواد الغذائية من رز وسكر وفواكه وحرفيين. وتجد خليطاً من الناس بلباسهم الوطني. وتطل نهاية السوق على ما يمكن تسميته "الكورنيش"، حيث يقع الميناء تظلله قلعتا الجلالي والميراني على قمة جبل، وقد بناهما البرتغاليون غداة احتلالهم مسقط. وقد سوت الدولة الكورنيش فزرعت فيه الأشجار والورود وزينت الجبل بحبال من الأنوار الكهربائية. ويكمل الكورنيش طريقه حتى مسقط الأساسية، حيث قصر السلطان وبيوت قديمة احتفظت برونقها ومنها بيت الحاكم البريطاني السابق وبيت آل الزواوي - أشهر عائلات مسقط - وغيرها. وهي بيوت لم تعد مسكونة، بل تمت المحافظة عليها للتاريخ والتراث. شارع آخر يمكن تسميته "الطريق السريع"، يمتد من مطرح مروراً بالخدير والقرم. من الجهة اليمنى المسجد الكبير الذي بناه السلطان، وتقع فيه بنايات الوزارات، خصوصاً مبنى وزارة الخارجية الذي فاز في 1995 بالجائزة الأولى في مسابقة المدن العربية التي تنظمها مؤسسة الآغا خان، ومبنى بلدية مسقط الذي فاز بالجائزة نفسها لسنة 1994. وتجد قبل هذه المباني منتزه شاطئ السيب، ومساحته 32500 متر مربع، وفيه خدمات متنوعة للعائلات. والى اليسار تقع مدينتا قابوس والاعلام. ونزولاً الى اليمين يقع فندق انتركونتيننتال والمدينة الديبلوماسية حيث مباني السفارات ومنازل السفراء. ويستمر الطريق السريع مروراً بمطار السيب الدولي ويواصل الى نزوى وصحار. كانت مسقط مدينة مسوّرة لها أبواب، وكان السلطان السابق سعيد بن تيمور والد السلطان الحالي، يمنع الخروج والدخول ليلاً. ولم تكن الانارة موجودة، بل كان يحرم على السكان حمل الفوانيس ليلاً عند الخروج للتزاور. ولم تكن في مسقط مدارس ولا مستشفيات أو مستوصفات بل كان المريض يلجأ الى "الطبيب" الشعبي الذي كان يعالج بالاعشاب والسحر. هكذا كانت العاصمة. فكيف بقية المدن والقرى؟ لم تكن هناك حتى طرق بالمعنى المتعارف. ولكن في مطلع السبعينات قام السلطان قابوس بحركته التصحيحية. وبدأ عملية التغيير: شق الطرق وبدأت حركة العمران وبنيت المدارس والمستشفيات وأنشئت المستوصفات وأضحى الدخول والخروج مباحين ومدّت أسلاك الكهرباء وبدأ عصر الحضارة لتدخل مسقط التاريخ الجديد. بعد محافظة مسقط تأتي محافظة ظفار التي انطلقت من عاصمتها صلالة مسيرة النهضة. وتعتبر ظفار سلّة الغذاء للسلطنة بحكم امكاناتها الزراعية والحيوانية والسمكية. ومحافظة ظفار منطقة جذب سياحي، خصوصاً خلال الخريف الذي يمتد من حزيران يونيو حتى أيلول سبتمبر كل عام. إذ في هذا الوقت تتساقط الأمطار الموسمية ويتحسن الجو. وفيها جبال شاهقة وأحراج وغابات. قديماً، يوم كنا نمر بصلالة كنا نشاهد تلالاً من سمك السردين مرمية قرب شاطئ البحر. فكنا نعجب لكن عجبنا زال عندما علمنا أن هذه الأكوام تجمع ليصنع منها علف. وتبعد صلالة عن مسقط ألف كيلومتر ويربطهما طريق سريع كما أقيم خط للطيران. وتتصل محافظة ظفار من الغرب بالمنطقة الوسطى، ومن الشرق والجنوب ببحر العرب، ومن الجنوب الغربي بحدود السلطنة مع اليمن، ومن الشمال والساحل الغربي تتصل بصحراء الربع الخالي. وصلالة التي كانت تعيش من صيد الأسماك والزراعة تحولت مدينة صناعات وتجارة. وفيها ميناء ريسوت الذي يؤمِّن التجارة للمنطقة. والجبال المجاورة لصلالة مرتفعة وكان يتسلقها العمانيون كما يفعل اليمنيون مع جبالهم. وفي الخريف ترى الجبال ملتحفة بالضباب. وقد شق فيها طريق معبد. وظفار هي أرض اللبان والبخور ولا تزال آثار موانئ البخور واللبان موجودة تغمرها مياه البحر، خصوصاً مدينة البليد وسمهرم. وصارت المنطقة سياحية لأبناء الخليج العربي، يفد اليها عشرات الآلاف منهم. وأقيمت فيها فنادق وشقق سكنية مفروشة للإقامة الأسرية. مسندم ثغر الخليج في أقصى شمال سلطنة عمان تقع محافظة مسندم الاستراتيجية لأنها تطل على مضيق هرمز، الممر الدولي المهم بالنسبة الى النفط والتجارة. وهو ضيق لا يصلح للملاحة الدولية إلا في الجزء الذي يقع ضمن المياه الاقليمية العمانية. ومسندم بعيدة عن العاصمة. وأثناء الحرب الايرانية - العراقية عندما كثرت الاشاعات عن إمكان نسف الايرانيين مضيق هرمز والتهديد باغلاقه، زرت مسندم ونقلتنا الطائرة من مطار السيب الى مطار ترابي عادي في خصب. ورأس مسندم وهو جبل يعلو البحر بألف وثمانمئة متر، تحته شاطئ ضيق لا يتعدى الأمتار. وقد أقيمت لصق الجبل بيوت صغيرة يقطنها السكان وكلهم صيادو أسماك. والى جانب البحر تقع خصب وهي قرية صغيرة، كان فيها مبنى واحد كبير خصص للوالي. وبمواجهتها البحر حيث كان يرسو طراد تابع للسلطنة. وقد خضنا هذا البحر بمركب صغير ولم نبتعد حتى لا نخوض في المياه الاقليمية الايرانية وهي ضحلة، وجبل رأس مسندم يقف الى جانب البحر كالجدار الأسود. فيه طرقات يعرف كيف يسلكها السكان مع خطورة السير عليها. وارتفاع الرأس مهيب المنظر. وخصب ذات العشرين ألف نسمة يسكنها صيادون وموظفو شركة لصيد الأسماك وتعليبها أنشئت بالاشتراك مع الجزائر. زيارة مسندم لا تنسى، حيث تقع بوابة النفط عبر المياه العمانية. صور الفينيقية ونزوى صور العمانية غير صور اللبنانية. صور العمانية هي الأساس ويقال ان فينيقيي لبنان جاؤوا منها. تربطها بمسقط طريق سريعة تمر بقرى جميلة منها "بركة الموز" وهي نبع ماء عذب أطلق عليه اسم الموز لزراعة أشجار الموز هناك. على ساحلها مراكب يصنعها الأهالي. وهي لم تتطور نسبة الى بقية المدن. أشهر المدن التاريخية في عمان نزوى التي كانت لفترات مقراً لإقامة الأئمة. وفيها قلعة تاريخية حوفظ عليها وقبلها بقليل اقيمت على الطريق استراحة حديثة. ومع نزوى تأتي مدينة صحار الأثرية وفيها منجم للنحاس يعمل بطريقة بدائية وكان يصدر النحاس الى الخارج. مهما كتب عن عمان فلن نستطيع تغطيتها كلها لأن عمان كانت امبراطورية. وهي واسعة تبلغ مساحتها 206 آلاف كيلومتر مربع. كانت الى زمن ليس ببعيد تسيطر على شرق افريقيا زنجبار وممباسا وتحكم لنجة على الساحل الباكستاني وبندر عباس الايرانية. سقى الله عمان وسقى فندق "الفلج" الذي استقبلنا عند زيارتنا الأولى قبل ثلاثين سنة. لقد تجاوزه الزمن بعدما قام قامت فنادق تضاهي أفخم فنادق العالم. عمان بلد قام من أحضان التاريخ وركب معالم الحضارة وتطوراتها وكل ما فيه اليوم شاهد على ذلك