ارتفع عدد محطات الاذاعة والتلفزيون الموجهة التي تبث دعاية اميركية الى دول الشرق الاوسط باللغتين العربية والفارسية، والى يوغوسلافيا والدول الافريقية ليصل الى عشر محطات. اما ادارة هذه الدعاية السافرة فهي في الكونغرس نفسه، حيث تخضع البرامج الموجهة الى الشرق الاوسط لمراقبة دقيقة من اللوبي الصهيوني في واشنطن. لكن المركز الذي ينطلق منه البث هو "اذاعة اوروبا الحرّة" ومقرها براغ. والمدير العام لاذاعة اوروبا الحرة هو توماس واين المدير السابق للجنة الاميركية - الاسرائيلية للشؤون العامة التي تعتبر اللوبي الصهيوني الرئيسي في الولاياتالمتحدة. وتكاليف شنّ هذه الحرب الدعائية منخفضة نسبياً، لانها تبلغ حوالى 400 مليون دولار، او ما يعادل ثمن عشر طائرات مقاتلة من طراز اف - 22، وهو ثمن زهيد في مقابل تحقيق هدف الولاياتالمتحدة من هذه الاذاعات: فرض وجهات النظر الاميركية على العالم. ومن المفارقات ان الولاياتالمتحدة بدأت العام 1942 بث برامج اذاعة "صوت اميركا" التي كان من المفترض فيها ان تحذو حذو برامج الاذاعات الخارجية الموجهة التي بدأتها قبلها بسنوات هيئة الاذاعة البريطانية بي. بي. سي وكان من المفترض ايضاً ان تعتمد الاذاعة الاميركية الموضوعية والحياد في برامجها واخبارها منذ انطلاقها. ففي عام 1942 كانت الجملة الاولى التي نطقها المذيع من صوت اميركا هي: "قد تكون الاخبار طيّبة، وقد تكون سيئة، لكننا سننقل لكم الحقيقة". شتّان ما بين اليوم والامس. اذ سرعان ما ضلّت "صوت اميركا" طريقها، وسرعان ما انحسر عدد مستمعيها، بل وأضحى لزاماً على صوت اميركا ان تُخضع نشراتها الاخبارية لتوجهات السياسة الاميركية، وان تذيع التعليقات التي يُعدّها مجلس ادارتها - كل هذا بمقتضى تشريع استنّه الكونغرس. وقد فوّض الكونغرس اخيراً اذاعة صوت اميركا، واذاعة العراق الحر، والاذاعة الفارسية التي كانت تُعرف سابقاً باسم اذاعة ايران الحرة واذاعة اوروبا الحرّة واذاعة الحرية، واذاعة مارتي، وتلفزيون مارتي واذاعة آسيا الحرة واذاعة افريقيا الديموقراطية وتلفزيون الشبكة العالمية بث حوالي الف ساعة من البرامج كل اسبوع باحدى وستين لغة. ويتجاز عدد العاملين في هذه المحطات العشر 3500 شخص. تضارب الاذاعات الموجهة يقول مارك هوبكنز الذي سبق ان تولى ادارة "صوت اميركا" في كل من لندنوموسكو وبكين وبلغراد: "هناك 10 مديرين يتقاضى كل واحد منهم راتباً مختلفاً عن الآخر، ويشكلون معاً ما يشبه "الحساء السياسي". اما تحقيق النتائج المطلوبة فهذه مسألة اخرى". وخلال الحرب الاخيرة ضد يوغوسلافيا انطلق البث بخمس لغات بينها الصربية والالبانية والكرواتية، واستمر من دون انقطاع. وقد استخدمت الولاياتالمتحدة احدى طائرات النقل العملاقة سي - 130 التي واصلت التحليق بمحاذاة الحدود الصربية مع المجر طوال الفترة واجهزة الارسال الاذاعي في البوسنة لبث البرامج باللغات الخمس. كذلك استعانت وزارة الخارجية الاميركية بأجهزة الارسال في كل من كرواتيا ورومانيا لبث برامج متواصلة. وعلاوة على وجود اكثر من اذاعة واحدة لتوجيه البرامج الى الشرق الاوسط واكثر من اذاعة لتوجيه البرامج الى البلقان فإن هناك تضارباً مماثلاً في الاذاعات الموجهة الى آسيا. ففيما تبث اذاعة "صوت اميركا" برامجها المنتظمة الى القارة الآسيوية نجد ان "اذاعة آسيا الحرة" تبث هي الاخرى برامج مماثلة باللغات الصينية والكورية والبورمية واللاوسّية، اضافة الى البرامج الموجهة الى التيبت. وتتكرر الازدواجية في البث بلغات اخرى ايضاً مثل الروسية والاوكرانية والارمنية والازبكية. اذاً مَنْ هم الذين يستمعون الى هذه المحطات؟ يقول المسؤولون في اذاعة صوت اميركا ان حوالي 80 مليون نسمة يستمعون الى محطة او اخرى من تلك الاذاعات مرة واحدة على الاقل كل اسبوع. اما الغالبية الساحقة من اولئك المستمعين فهي من الرجال في اواسط العمر. ولكن ما الهدف من كل هذه الساعات من البث؟ يقول توماس داين الذي يشرف على البرامج الموجهة الى ايران والعالم العربي ودول شرق اوروبا: "هدفنا تعزيز الديموقراطية ودعم اقتصاد المشاريع الحرة". اما المادة التي يقرر كل مدير في تلك الاذاعات بثها فلا تكاد تخضع لأي مراقبة. كما ان مجلس الادارة المؤلف من تسعة اشخاص، وهو الذي عيّنه الكونغرس للاشراف على هذه الحرب الدعائية لا يضم بين اعضائه سوى صحافي محترف وحيد! ولذا فليس من المستغرب ان يصف هوبكنز مجلس الادارة الجديد بأنه "أشبه بحساء سياسي… لأن كلاً من اعضائه يتقاضى راتباً مختلفاً عما يتقاضاها الآخرون، وكلاً منهم يتجاوز الميثاق القانوني الاساسي لصوت اميركا. فهم يعتقدون بأن لديهم الوسيلة الاعلامية اللازمة للتأثير في طريقة تفكير الشعوب الاخرى والطريقة التي يجب ان ينتهجوها في حياتهم، وفي الكيفية التي يجب ان يحكموا انفسهم بها… لا سيما حين نرى أناساً من امثال السيناتور جيسي هيلمز يعلنون ان اذاعاتنا الموجهة يجب ان تكون بوق دعاية للحكومة الاميركية". ويضيف هوبكنز الذي تقاعد اخيراً: عندما عارضت ادارة الرئيس بيل كلينتون العام الماضي مساعي الكونغرس للبدء في بث البرامج الموجهة من "اذاعة ايران الحرة" الجديدة لأن البيت الابيض كان يحاول آنذاك تشجيع العناصر المعتدلة داخل ايران، سارع السيناتور هيلمز والسيناتور ترنت لوت وعضوا الكونغرس بوب ليفنغستون وبنجامين غليمان الى مطالبة وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت بضرورة الفصل الكامل بين اذاعتي صوت اميركا وايران الحرة وضرورة تركيز الاذاعة الجديدة على بث برامج متشددة ضد ايران. وهكذا بدأت هذه الاذاعة باللغة الفارسية مع "اذاعة العراق الحر" باللغة العربية في بث برامجها من براغ تحت اشراف "اذاعة اوروبا الحرة" وبمعزل تام عن اذاعة صوت اميركا، مع ان التكاليف التحريرية لانتاج ساعة واحدة من برامج الاذاعة الجديدة تصل الى حوالي 135 الف دولار. واضاف: "لاهداف سياسية بحتة ايضاً تقرر نقل مقر اذاعة وتلفزيون مارتي من واشنطن الى ستوديوهات جديدة في ميامي حيث تقيم غالبية الكوبيين المعادين لنظام حكم فيديل كاسترو. لكن هذه المحطة أضحت بلا مستمعين او مشاهدين منذ مدة لأن معظم الكوبيين يشاهدون شبكة سي. ان. ان". تبلغ موازنة هذه المحطات التي تبث دعاية سافرة حوالي 120 مليون دولار في السنة، مقارنة بموازنة صوت اميركا التي تصل الى 106 ملايين دولار في السنة. لكن المجموعتين تشتركان في المرافق والمنشآت التكنولوجية التي تبلغ مخصصاتها الاضافية حوالي 200 مليون دولار. وقد اعلنت اذاعة صوت اميركا، التي تعاقب على ادارتها خمسة مديرين خلال اقل من عشر سنوات انها "قررت الآن التركيز في برامجها الموجهة على دول افريقيا والشرق الاوسط وآسيا". وتقول الاذاعة ان نسبة 20 في المئة من مستمعيها في العالم موجودون الآن في نيجيريا. وقد بدأ المشرفون على صوت اميركا يطالبون اخيراً بإقامة محطة اميركية موحدة للاذاعة والتلفزيون الموجهين الى الخارج، لان مثل هذه الخطوة ستوفر على دافع الضرائب الاميركي اكثر من خمسين مليون دولار في السنة. كذلك بدأت صحف اميركية عدة تطالب علانية باغلاق جميع محطات الاذاعة الحكومية الاميركية الموجهة "لأن العالم اجمع يشاهد الآن شبكة سي. ان. ان". جهل وتبذير ويقول الخبير الاميركي مارك هوبكنز: "كان الهدف من صوت اميركا اذاعة الاخبار والبرامج الموضوعية. اما اليوم فقد حلّت البرامج السياسية التي يريدها الكونغرس مكان ذلك الهدف لتحقيق ايديولوجية واضحة. وفي اعتقادي ان الاذاعات العالمية الموجهة التي يشرف عليها الكونغرس مثال واضح على الجهل وعدم بُعد النظر والتبذير". ويرى هوبكنز ان الدعاية الاميركية السافرة عبر تلك الاذاعات "لن تساهم الا في تعزيز التحامل الراهن في العالم على الولاياتالمتحدة… كما ان مديري تلك الاذاعات ليست لديهم اي فكرة اطلاقاً عن الدور او الهدف الذي يجب ان تقوم به او تحققه الاذاعات الخارجية الموجهة. والمشكلة اننا لم نشاهد اطلاقاً اغلاق اي محطة اذاعة يقرر الكونغرس تمويلها وافتتاحها. ومع استمرار الثورة التكنولوجية سنرى ان محطات الاذاعة والتلفزيون العالمية مثل بي. بي. سي والاذاعة الالمانية ستصل الى خيرة المستمعين من اكاديميين وطلاب ومسؤولين حكوميين وصنّاع قرارات من خلال البرامج الاذاعية والتلفزيونية التي تبثها عبر شبكة الانترنت والتكنولوجيا الرقمية، وبسرعة اكبر وكلفة اقل. وفي هذا ما يجعل الرقابة الحكومية او محاولات التشويش على الارسال امراً في غاية الصعوبة". اما برنت سكاوكروفت مستشار الامن القومي السابق ولورانس ايغلبيرغر وزير الخارجية السابق فقد اصدرا بياناً مشتركاً جاء فيه: "في اعتقادنا ان الاذاعات الاميركية الخارجية الموجهة استنفدت غرضها الآن ولذا يجب اغلاقها جميعاً". واعاد المسؤولان السابقان الى الاذهان ان الرئيس كلينتون وعد حين تولى الرئاسة في كانون الثاني يناير 1993 باغلاق اذاعة اوروبا الحرة واذاعة ليبرتي لاقامة علاقات افضل مع موسكو لكن هذا لم يحدث حتى الآن. ويقول جون لينون مدير محطة تلفزيون الشبكة العالمية: "لقد أمر الكونغرس باستخدام المخصصات المالية لمساندة المضطهدين في العالم. لكن الكونغرس يناقض نفسه تماماً حين يقول الآن ان على جميع الاذاعيين والاذاعات الاميركية خدمة اهداف السياسة الخارجية الاميركية. وفي هذا ما يعني ان البرامج التي تبثها هذه المحطات متحيزة وغير موضوعية". وكتب جورج كينان المحاضر في جامعة هارفارد والسفير الاميركي السابق لدى موسكو وبلغراد في عهد الرئيس اليوغوسلافي الراحل جوزيف بروز تيتو الذي يبلغ الخامسة والتسعين من عمره، في هذا الشهر في مجلة "نيويوركر" المتخصصة في مراجعة الكتب: "أطالب حكومتنا بأن تنأى بنفسها عن التدخل في شؤون الدول الاخرى الداخلية. علينا ان نظهر قدراً اكبر من التواضع في نظرتنا الوطنية. علينا ان نتذكر دائماً ان التعامل مع الشعوب والتفاعل معها، مثل التعامل مع الافراد والتفاعل معهم: اي ان اعطاء المثل الاعلى اقوى كثيراً من فرض الافكار المسبقة. اذ ان الصفوة في الدول التي تؤلف ثلثي سكان العالم اي الصينيون والروس والهنود والعرب وغيرهم من المسلمين والأفارقة تعتبرنا اعظم خطر خارجي يهدد مجتمعاتهم. وما ينبغي علينا ان نفعله في هذا الوقت ان نحاول تحجيم انفسنا واعطاء الحجم المتواضع والصحيح لاحلامنا وطموحاتنا بصورة تتلاءم مع امكاناتنا لزعامة العالم. وبأمانة وصدق اقول لكم اننا لسنا ابداً على تلك الدرجة من العظمة او القوة"