عندما أعلن الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، في أحد الأحاديث الصحافية أنه يتكلم مع نباتاته وأشجاره، اعتبره الكثيرون غريب الأطوار، ولكن فئة من المؤمنين بأهمية النباتات في حياة البشر أيدت الفكرة، وأكدت وجهة النظر التي تقول إن النبات مخلوق يحس ويقدر اهتمام الإنسان به. في اسكتلندا أجرى باحث يدعى سكوت ماكلينان سلسلة من الدراسات خرج منها بنتيجة يلخصها في نصيحة واحدة: "إذا كنت حقاً تحب نباتاتك وأزهارك وأشجارك فتحدث إليها"! والفكرة ليست جديدة تماماً، فقد عرف القدماء أن العناية بالنبات تؤدي إلى ازدهاره ونموه. ووُصف الشخص الذي يقدم هذه العناية بخضرة اليد. ولا شك ان الإنسان البدائي - في عالمه المليء بالغابات - قبل ألوف السنين كانت تثير الاشجار الضخمة حيرته وخوفه، ومن هنا ارتبط التراث البشري بالكثير من الأساطير المتعلقة بالنباتات والأشجار. وعرف الإنسان بمرور الوقت أن النباتات ذات مدلولات وقيمة خاصة فاستخدم الصالح منها لاغراض العلاج والتطبيب، واعتقد أن لبعضها قوة السحر. لا يزال الإنسان إلى اليوم مبهوراً بالنباتات والاشجار، بخضرتها المتنوعة التي تبعث البهجة في النفوس بعمرها الطويل الذي قد يمتد إلى مئات الأعوام، بفائدتها المتعددة التي لا غنى عنها. والدليل على ذلك اننا لا يمكن ان نتخيل حياتنا من دون نباتات أو أشجار. النباتات المفكرة ربما طرح السؤال منذ القدم: هل تحس تلك المخلوقات وتفكر؟ العلم لم يوافق، إلا أن خيال الكتّاب والمؤلفين ابتكر الكثير من الروايات حول هذا الموضوع. بعض التجارب التي تمت أخيراً على بعض الأشجار جعلت المختصين يعيدون طرح هذا السؤال، وبدأ قسم منهم يقتنع أو يقنع نفسه بأن الشجر لا يحس فقط، بل تتعدى قدرته على الاحساس إلى ما هو أبعد بكثير، إلى حد التعرف على الأشخاص! وهذا شيء يدعو للعجب فعلاً. ففي ما يخص الاحساس أثبتت التجارب أن أنواعاً من النباتات، وربما كلها، تنمو بسرعة وبشكل أفضل عندما يتهيأ لها الضوء اللازم، خصوصاً عندما تعزف الموسيقى بقربها، إذ تم فصل نوع واحد من النبات إلى قسمين: الأول ترك يعيش طبيعياً، والآخر عزفت له الموسيقى بانتظام، فكان نمو هذا أفضل من القسم الذي لم يستمع إلى العزف. أما التجربة التي حيّرت العلماء ولم يقتنع بها الجميع، فتمت حول شجرة حصلت جريمة قتل قربها فسيق المشتبه به إليها وكانت هناك آلات متطورة لقياس أي حركة غير طبيعية للشجرة، طبعاً الحركات المنتظرة ليس بالامكان ملاحظتها بالنظر أو بالسمع المجرد. وبالفعل عندما اقترب القاتل من الشجرة سجلت الآلات ردود فعل لها وحركات داخلية وكأنها تعرّفت على المجرم وأصابها شيء من الرعب عند اقترابه منها. فإذا كانت الأشجار تملك فعلاً هذه الأحاسيس والقدرة على التعرف والتمييز بين الاشخاص، فإن ألغازاً كثيرة ستحل، خصوصاً في دنيا الاجرام، وستقدم الاشجار خدمة عظمى للقضاء، بحيث تصبح شاهداً قد لا يكذب أبداً. ولكن هذا لا يقرره ولا يجزم به إلا العلم بعد تجارب دقيقة وعديدة، ومن غير الممكن أن تحل الروايات غير العلمية والخيال الجامح والأساطير المتناقلة مكانه. من هذه الاساطير مثلاً ما ترويه حكايات مختلفة في اليابان عن أشجار نبيلة تضحي بنفسها، قاصدة متعمدة، في سبيل حماية البشر. من هذه الأشجار تلك التي تقدم نفسها للحريق أو السقوط بدلاً من بيت أصحابها. في العام 1923 ضرب زلزال بعض المناطق اليابانية، وترددت الروايات بين اليابانيين عن أن بعض الأشجار ضحت بنفسها. وربما كانت هذه الروايات إحدى وسائل التغلب نفسياً على خطر الزلازل. ومن أشهر الروايات الخيالية عن النباتات المفكرة قصة "يوم الثريفدس" للمؤلف جون وندهام، وفيها يتخيل المؤلف أن مخلوقات غريبة على هيئة النباتات غزت الأرض، وتسببت في اصابة كل من ألتقاها بها أو رآها بالعمى. وارتبطت بعض النباتات، خصوصاً الأعشاب، بأفكار ومعانٍ خاصة تعبر عنها، فالريحان مثلاً ذو مغزى مختلف لدى بعض الشعوب، فهو دليل المحبة عند الايطاليين، ويعتبره الانكليز غذاء العقارب، بينما يعتبره أهل اليونان رمز الكراهية والحظ التعيس. وهكذا الحال بالنسبة للكثير من الأعشاب والنباتات. ومن الأساطير الأوروبية الطريفة ان الشيطان عندما حلت عليه اللعنة وخرج من الجنة، خطا أول خطوة على الأرض بقدمه اليسرى فنبت الثوم، وتلاها بالقدم اليمنى فنبت البصل! أما نبات "الشبت"، وهو عشب معروف يستخدم في طهو الطعام كالبقدونس، فإنه يرتبط بفكرة الاخصاب، ولذا تنصح المرأة العاقر بتناوله على رغم عدم جدواه طبياً من هذه الناحية. وفي بعض الأحيان، كانت أشجار معينة تمثل رمزاً لفكرة ما، ففي فرنساوبريطانيا مثلاً كان يعتقد أن شجرة الدردار Ash هي عدو الثعابين، وتستند هذه الفكرة إلى أقوال المؤرخ المعروف بليني الذي كتب مقاله حول خشية الثعابين من الاقتراب منها أو حتى الاقتراب من ظلها على الأرض، وكانت مثل هذه الأقوال كفيلة بأن تضمن لشجرة الدردار مكانتها بين النباتات والأشجار في أوروبا، بل أن البعض لا يزال يتخذ من ورقها أو غصنها زينة للمنازل بغية درء الشرور عن البيت. شجرة أخرى نالت الاعجاب منذ القدم، وهي شجرة البندق، حتى أطلق عليها اسم شجرة المعرفة، بينما فازت شجرة الزيتون بلقب السلام، وارتبطت في منطقة حوض البحر المتوسط بمعاني الصداقة والتجارة النزيهة والمودة والجمال بين أبناء الحضارات القديمة في العالم. وليس من المصادفة أن غصن الزيتون ظهر على الكثير من عملات تلك الدول، ولا يزال يستخدم إلى اليوم شعاراً لكثير من الهيئات الدولية والاقليمية. سنديانة اليزابيث أما أطرف الأفكار التي ارتبطت بإحدى الأشجار فهو الاعتقاد السائد لدى الانكليز بأن شجرة السنديان أو البلوط تحمي من خطر البرق! وربما يرجع السبب في ذلك إلى حجم السنديانة الضخم وفروعها الكثيفة العالية التي تمكن الشجرة من الثبات في وجه عاديات الزمن من رياح وأمطار وبروق ورعود. ويطيب للانكليز أن يرددوا المثل القائل بأن السنديانة الضخمة نبتت من بذرة صغيرة، وهم يحبون تلك الشجرة ويعتبرونها رمزاً للقوة والأصالة. ويقيمون الحداد ويتبادلون التعازي إذا ماتت إحدى السنديانات. ويزيد من شدة الاحساس بالخسارة، إذا كانت السنديانة ذات أهمية تاريخية من أي نوع. لذلك ليس من العجيب أن ترثي جريدة "التايمز" سنديانة ليزا في أوائل العام الماضي. وليزا هو اسم التدليل الخاص بالملكة اليزابيث الأولى. وأطلق الاسم على السنديانة قبل قرون عدة عندما كانت الملكة طفلة صغيرة تلعب تحتها وتتسلق فروعها، كما أنها كانت تختبئ في فتحة كبيرة موجودة في جذع الشجرة الضخم، وقد استخدمت هذه الفتحة في ما بعد كسجن يوضع فيه كل من يخالف القواعد المرعية في حديقة القصر الملكي في غرينتش حيث توجد السنديانة. الغريب أن علماء النبات ذكروا أن هذه السنديانة ماتت قبل ما يقرب من مئة عام، بعد عمر يقدر بسبعمئة عام، ولكنها لم تسقط تماماً إلا أخيراً. ويتخذ العلماء من هذه الشجرة دليلاً على قوة السنديانة وصلابتها، بينما تؤكد حكايتها فكرة أن الأشجار تموت واقفة. ولكن ما هو مصير السنديانة المهمة؟ بعد اجراء مسابقة بين سكان الحي، قرر مجلس البلدية قطع الشجرة إلى أجزاء صغيرة تذكارية تباع، يكون من اشتراها كمن اشترى قطعة من التاريخ على أن تستخدم النقود في رعاية الحديقة التي كانت توجد فيها السنديانة، وزراعة أخرى غيرها. البلوط واللون الأحمر بالمصادفة البحتة اكتشف شون ماكانت رئيس برنامج الأبحاث في ايرلندا أن الضوء الأحمر يساعد على زيادة معدل نمو شجر البلوط، أو السنديان، ثمانية أضعاف المعدل العادي. وكان يجري البحث على بعض المحصولات الغذائية كالبطاطس والبنجر ومدى تأثرها بالأضواء المختلفة، لكنه اكتشف ان بعض فسائل البلوط التي كانت توجد في المختبر بالمصادفة قد نمت بسرعة كبيرة أثارت الدهشة، فغيّر فريق العاملين مسار البحث وركزه على البلوط. ويطمح شون ماكانت والفريق العامل معه في إعادة زرع أعداد كبيرة من السنديان أو البلوط في ايرلندا وإن كان يعترف بأنه لم يتوصل إلى سر استجابة الشجر للضوء الأحمر بالذات من دون غيره! ويقول شون: "كانت السناجب في قديم الزمان تنتقل في غابات ايرلندا من شجرة إلى أخرى لمسافات كبيرة جداً من دون أن تلمس أقدامها الأرض، وطموحنا الآن أن نغطي أرض ايرلندا بالأشجار والنباتات بالدرجة نفسها التي كانت عليها". والعناية بزراعة الغابات لا تحد من العناية بالنباتات والأشجار الموجودة حالياً على وجه البسيطة، أو على الأقل هذا ما تنادي به جمعية خيرية بريطانية تسمى "الأرض المشتركة". ولا ترمي هذه الجمعية إلى التبشير بفكرة الحفاظ على البيئة ومحاربة المطر الحمضي الذي يقتل الخضرة والنبات، لكنها تهدف إلى تأصيل فكرة العناية بالخضرة، ومن ثم تنمية الحس بالجمال، لدى المواطنين. ويؤمن أعضاء الجمعية ان النباتات والأشجار مخلوقات ذات حس مرهف، لذلك فهي تدعو إلى إقامة يوم لأزياء الأشجار، وفي هذا اليوم يقوم كل شخص مهتم بالفكرة بتزيين الأشجار المحيطة به، لا بالأضواء الكهربائية أو البالونات، ولكن بكل ما يخطر له على بال من فساتين وتنورات وسراويل وقبعات وأساور ورسوم وحلي، كل بحسب ذوقه ومدى ميله للشجرة أو النبتة التي يحبها. وفي إحدى مدارس يورك قام التلاميذ بتجربة أولية لتلبيس الأشجار الموجودة في فناء المدرسة استعداداً لاعلان تاريخ محدد في شهر كانون الأول ديسمبر كيوم وطني لتلبيس الأشجار. ويقول مارتن رايت، المسؤول عن الجمعية: إن تقليد تلبيس الأشجار معروف في عدد من البلدان منذ زمن قديم، وما علينا إلا إحياء التقليد كي يشعر الناس بارتباطهم بالخضرة والنباتات من حولهم، وفي هذا أفضل حماية للبيئة من دون ان تنفر الناس من محاضرات جافة عن أهمية الخضرة على كوكب الأرض. الأشجار الذكية وسواء أكانت الأشجار والنباتات تحس بالملبوسات التي تخلع عليها أم لا، فإن الجميع يعرف فائدة الخضرة على البسيطة، وكيف ان الاشجار والنباتات تمتص نسبة كبيرة من ثاني أوكسيد الكربون، وبذا تحقق التعادل اللازم لاستمرار الحياة على الأرض. وآخر ما أعلنه فريق من الباحثين التابعين لشركة تويوتا للسيارات، هو ابتكار نوع جديد من الأشجار اطلقوا عليه اسم "الاشجار الذكية"، والسبب في هذه التسمية أن تلك الأشجار قادرة على امتصاص نسبة أكبر من ثاني اوكسيد الكربون، ما يساعد على خفض نسبة التلوث وعلى الحفاظ على البيئة. وصرح ماساكي أوهاشي، مدير قسم التنمية التقنية في شركة تويوتا أن الأبحاث المشجعة لانتاج الشجرة الذكية ينتظر ان تؤتي ثمارها خلال خمس سنوات، كما ذكر أن هذا النوع من الاشجار تم استنباطه عن طريق تهجين أنواع عدة من الأشجار التي تعرف بقدرتها العالية على امتصاص ثاني اوكسيد الكربون. وعلى منوال أبحاث الشجرة الذكية، خرج علماء وكالة "ناسا" الأميركية للفضاء بنصيحة مفادها ضرورة استخدام النباتات المنزلية لامتصاص الجراثيم والغازات والروائح غير المرغوبة في المكاتب والمصانع والمنازل. وجاءت هذه النصيحة من تجربة يقوم بها العلماء حالياً ويحاولون فيها بناء قاعدة معيشية ثابتة على سطح القمر، ولعمل ذلك واجهتهم مشكلة خلق أفضل وأقرب بيئة ملائمة لحياة البشر، خصوصاً ان هذه القاعدة الفضائية ستكون مشحونة بالأجهزة والمعدات التي يصدر عنها الكثير من العادم الملوث للجو، وهكذا فكر العلماء في استخدام النباتات المنزلية لامتصاص كل هذه الغازات الضارة وتنقية المكان. ويفسر الدكتور بل ولفرتون الباحث في وكالة "ناسا" عمل النباتات المنزلية بأن أوراقها تقوم بامتصاص الغازات الضارة، وأنها تمررها إلى الجذور حيث توجد أنواع مختلفة من البكتريا والميكروبات التي تعيش على هذه الغازات. ويقول الباحث الأميركي إن الأبحاث أكدت أيضاً أن نباتات وأشجار الغابات الاستوائية أفضل من غيرها، نظراً لأن طبيعة هذه النباتات تجعلها قادرة على امتصاص غازات أكثر لوجود ميكروبات أكثر حول الجذور وفي التربة. وفي عودة إلى العائلة المالكة في بريطانيا، نلاحظ أنه إذا كان الأمير تشارلز ولي العهد ممن يقضون وقتاً في الحديث إلى النباتات والورود والأزهار، فإن أمه الملكة اليزابيث هي صاحبة الرقم القياسي بين المشاهير في زرع الأشجار في العالم! وليس معنى هذا الكلام أن الملكة تعمل في وظيفة "بستاني" في أوقات فراغها، ولكن طبيعة عملها كملكة يحتم عليها زرع الأشجار، ولو تذكارياً وبصورة رمزية للغاية. ويقدر العارفون بخفايا القصر الملكي أن اليزابيث زرعت على مدى سنوات حكمها الأربعين ما يقرب من غابة صغيرة، وإن كان من الصعب حصر العدد بالضبط، ولكن يبلغ عدد الأشجار التي تزرعها الملكة كل عام حوالى تسع أشجار. ويقال إن تقليد زرع الشجرة لدى افتتاح مبنى أو هيئة جديدة يعود إلى أكثر من مئة عام، عندما كان جد الملكة الحالية، وكان آنذاك مجرد وريث للعرش، يحضر مرة حفل افتتاح أحد المباني، واطلق بالون هوائي كبير احتفالاً بالمناسبة، لكن خللاً أصابه وكاد الأمر ينتهي بمأساة، عندئذ تقرر أن يقوم ضيف الاحتفال بزرع شجرة بدلاً من اطلاق البالونات والمناطيد. وقديماً كانت الملكة فيكتوريا تستخدم معولاً من الفضة الخالصة لردم التربة أو حفرها أثناء زرع الشجرة، لكن الملكة اليزابيث تستخدم حالياً معولاً من الصلب اللامع، وتقوم باهالة التراب بصورة رمزية لفائدة كاميرات التصوير فقط، ثم يأتي أحد الخبراء بعد ذلك لانجاز المهمة. وأكثر الأمور احراجاً بالنسبة إلى الهيئة الداعية للملكة لزرع شجرة أن تموت الشجرة أو تذبل، عند ذاك يقوم المسؤولون في هدوء باستبدالها بشجرة أخرى من دون أن يخبروا أحداً. ولكن المشكلة التي يواجهها مسؤولو مبنى البلدية في جزيرة آيل أوف مان، مشكلة فريدة من نوعها، فقد قامت الملكة اليزابيث وزوجها دوق أدنبرة في العام 1989 بزرع شجرتين على مدخل مبنى البلدية، فازدهرت إحداهما وترعرعت، بينما الشجرة الأخرى بطيئة النمو ضعيفة المظهر، وهو ما لم يتوقع حدوثه أحد. ويعتبر المسؤولون ان هوية من زرع الشجرة الضعيفة الملكة أم زوجها سر من الأسرار يجب عدم افشائه، كذلك تواجههم مشكلة حساسة وهي أنهم لا يستطيعون استبدال الشجرة الضعيفة بغيرها لمجرد أنها ضعيفة البنية والشكل! ويضحك كن بارنيز، بستاني البناية، وهو يقول في خبث: "من يدري، ربما كانت الأشجار مخلوقات ذات عقل وذكاء، كما يقول البعض!"0