الرئيس الفرنسي ماكرون يصل الرياض    الخريجي يستقبل سفيري اليابان وجنوب السودان لدى المملكة    الجبير يلتقي الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    مسؤولون يؤكدون التزام المملكة البيئي لتعزيز التنمية المستدامة عالميًا    وزير الدفاع يبحث مع الوزير المنسق للأمن القومي السنغافوري الأوضاع الإقليمية والدولية    أمير المدينة يفتتح مبنى مجلس المنطقة الجديد ويدشن مشروع تطوير مراكز الإمارة    "المملكة" و"لتوانيا" توقعان اتفاقية لتعزيز التعاون في مجال خدمات النقل الجوي    "الصداقة البرلمانية السعودية- التركية" تجتمع بنظيرتها التركية    الأسد: ما يحدث في سورية محاولة لتقسيم المنطقة    نائب أمير مكة يرعى الملتقى العلمي ال24 لأبحاث الحج والعمرة    تشكيل النصر المتوقع أمام السد القطري    وزير الخارجية: الإبادة الوحشية في غزة أكبر اختبار للنظام الدولي    نائب أمير الرياض يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالرياض "مكنون"    وزير الخارجية يلتقي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية العراق    خادم الحرمين وولي العهد يهنئان رئيس الإمارات بمناسبة ذكرى اليوم الوطني لبلاده    محافظ الخرج يستقبل العميد القحطاني لانتهاء فترة عمله مديراً لمرور المحافظة    أمير المدينة يتسلم التقرير السنوي لأبرز إنجازات القوة الخاصة للأمن البيئي    نائب أمير مكة يُدشن مشاريع للهلال الأحمر ويطلع على منجزات خدمة ضيوف الرحمن    رحم الله الشيخ دخيل الله    تحت رعاية خادم الحرمين.. انعقاد «مؤتمر ومعرض الحج» في نسخته الرابعة.. يناير القادم بجدة    الشورى يطالب" العقاري" بدراسة خصم المبالغ المتبقية في السداد المبكر    "سدايا" تصدر وثيقة إطار تبني الذكاء الاصطناعي لتعزيز الاستخدام الأخلاقي لهذه التقنيات المتقدمة بالسعودية    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 27 إلى لبنان    أكاديمية الإعلام السعودية تحتفل بتخريج الدفعة الأولى من المتدربين    بايدن يتراجع ويعفو عن نجله هانتر    المركز الوطني يعتمد تأسيس جمعية " ارتقاء " للخدمات الصحية بمحافظة أضم    الشؤون الإسلامية تواصل تنفذ جولاتها الرقابية على الجوامع والمساجد بأبي عريش وفيفا    وفد من مؤسسة سليمان الراجحي في جولة تفقدية لجمعية التوعية والتأهيل الاجتماعي بمنطقة جازان    ضمن فعاليات شتاء جازان…انطلاق بطولة مكاتب تعليم جازان للرياضات الشاطئية    أسرتا باجنيد وطراد تحتفلان بزواج أحمد    «واتساب» يتيح متابعة القنوات برموز ال QR    أهمية توثيق الأعمال لتجنُّب النزاعات المستقبلية    زواجاتنا بين الغلو والفخامة والتكلُّف والبساطة (1)    آهٍ منك يا "نجم"    100 خدمة عدلية يوفرها تطبيق «ناجز»    ياباني يقتحم ألف منزل للتخلص من التوتر    سعود بن بندر يهنئ مدير اتصالات الإقليم الشرقي    الصندوق الثقافي يُسدل ستار مشاركته في النسخة الثانية من «بنان»    دوِّن أهدافك وعادي لا تحققها    نحو فن مستدام    ميلا الزهراني.. بدوية في «هوبال»    الخصوصية الثقافية والعلاقة مع الآخر    تركي آل الشيخ يطلق الإعلان التشويقي لمواجهة أوزيك وفيوري في موسم الرياض    الأخضر السعودي والعودة للطريق الصحيح    في افتتاح الجولة 12 من دوري" يلو".. الفيصلي يستقبل الجندل.. والنجمة يواجه جدة    الإعلانات غير المأذون لها.. إلى متى؟    الشتاء والاعتدال في الشراء    فواكه تسبب «تآكل» الأسنان    5 أمور لا تفعلها على مائدة الطعام    الراحة في النوم على الأريكة.. ماذا تعني ؟    احذر.. مواضيع غير قابلة للنقاش أمام الأطفال    32 جولة رقابية لوزارة الصناعة يوميا    إلزامية الداش كام    التصحر مرة أخرى    آسيا.. «مجنونة»    أمير تبوك يزور الشيخ أحمد الخريصي في منزله    القصة القصيرة في القرآن    الأمير تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر لدى المملكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أعمال الفترة الأخيرة" في معرض عالمي . جورج براك : مسرح مكتمل بغموضه
نشر في الحياة يوم 03 - 03 - 1997

معرض جورج براك في لندن هو بلا شكّ حدث ثقافي بارز على المستوى العالمي. فالأكاديمية الملكية تعرض حاليّاً خمساً وأربعين لوحة من أعمال الفترة الأخيرة لهذا الفنّان الذي يعتبر بين كبار القرن العشرين، والذي اشترك مع بيكاسو في تأسيس المدرسة التكعيبيّة. لكنّ براك حافظ على مرونة في التعاطي مع العالم العضوي، ولم يتمسك باظهار حساسية آلية صارمة، ماضياً في ارساء اتجاه تجريدي لا يخلو من الغنائية. هنا وقفة عند لوحات تنضح بالروح الخفيّة للأشياء.
لعلّ لوحات جورج براك التي تعرض حالياً في قاعة الأكاديمية الملكية في لندن، هي الأنضج بين نتاجه، وإن أضاع اقتصار المعرض على "أعمال الفترة الأخيرة" فرصة مؤكدة للتثبت من هذا الاستنتاج. ولكن براك يُذكر في الغالب لدى نقاده بثلاثة أعمال مهمة هي "المحترف" و"طاولة البليارد" و"الطائر" وهي من نتاج تلك الفترة.
وجورج براك 1882 - 1963 أحد أبرز ممثلي المدرسة التكعيبية، ارتبط اسمه ببيكاسو، وتساوقت رؤاهما الفنية أيّام الشباب، واختلطت أساليبهما في سنوات ما قبل الحرب الأولى، حتّى انحسار وهج هذا التيار في نهايتها. وفي الوقت الذي اندفع بيكاسو في انتاج غزير منوع ومشاركة فاعلة في الحياة السياسية والثقافية، بقي براك متباطئاً وفياً لتجاربه الأولى في دراسة الشكل والمنظور، فكانت اللوحة تعتمل لديه أفكاراً وحالات واختبارات عقلية.
إنّه المعرض الأوّل لأعمال براك المتأخرة في بريطانيا، إذ تضمّ المجموعة في الأكاديمية الملكية، 45 لوحة رسمها في العقدين الأخيرين من عمره. وتشغل الطبيعة الصامتة المساحة الأكبر في هذه الأعمال، كما هو الحال في مرحلته التكعيبية أو في ما بعدها، فهي المختبر الذي أعانه على سبر أبعاد المكان ووصف الفضاء، وعلى المضي في البرهنة على امكانية نقض مفاهيم عصر النهضة في محاكاة الطبيعة التي جاءت التكعيبية لتمثل الثورة الأكثر تطرفاً في معاداتها. فللفنّان أن يأخذ من الأشياء ما يريده. إذ ان إحساسه بالحيز وطريقة رؤيته للمكان، يمليان عليه تصوراً يحدّد المسافات والمنظور، على عكس ما يفعله التصوير الطبيعي أو تقاليد عصر النهضة في الاستجابة إلى خدع المسافات التي تكرر زاوية واحدة للمنظور.
ولكي يتوصل براك إلى تلك الاختبارات كان يرسم من الموضوع الواحد لوحات عدّة، ينتقل فيها من حالة إلى أخرى ومن فكرة إلى ثانية، مؤكداً وحاذفاً ومضيفاً لرؤيته أفكاراً وتصورات جديدة. فما من موضوع يكتمل لديه الا بمجموعة من اللوحات. ويرى الفنّان أن الأشياء الساكنة تمنحه فرصة كافية لترتيب علاقات جديدة في ما بينها، ولخلق علاقات أخرى بينها وبين ذات الفنان. فالطبيعة الصامتة برأيه أكثر صلابة من الوجود البشري، وهي تسمح للفنان باختراقها وتفكيك أجزائها واعادة بنائها لتمنح حياة جديدة.
وللخروج عن متعارفات الرسم، جرّب براك كل بدع الحداثة: من استخدام الكولاج والحروف والتعليقات داخل اللوحة، إلى استخدام الرمل وتلوينه لتظهر تضاريس اللوحة بشكل مجسّد. وتخلو الأعمال الأخيرة من الجزء الأكبر من تلك البدع. فهي الاستراحة الأخيرة للمحارب الذي رسى فنه في اكتمال صورته، على مشارف الثمانين. وبراك حسب الناقد هربرت ريد، من التكعيبيين المرنين الذين بقي بحوزتهم أثر من العالم العضوي، أي أن تكعيبيته لم تتمسك باظهار حساسية آلية صارمة، وظل في فترة ما بعد التكعيبية على هذا النهج. هناك في لوحته فتنة تزيينية يوفرها منظور هارموني، وهناك ايحاء قوي بروح الأشياء الخفية ومناخات آسرة، يظهرها اللون وطريقة التحكم بالايقاع. وبراك درس فن الديكور مطلع شبابه، وكانت تلك مهنة أبيه، وبقي الجانب الذوقي من هذا الفن يظهر في لوحاته. والأفكار الفنية التي شغلته، أنتجت على حقبات طويلة ثروة تشكيلية نضجت على نار هادئة. فإذا به منذ الأربعينات في مصاف الفنانين الكبار في قرننا، ويضعه بعض النقاد بعد ماتيس وبيكاسو.
في أعماله المعروضة منذ الحرب العالمية الثانية، يبدو المكان الداخلي ملعب مخيلته الأرحب. فباستثناء لوحة واحدة موضوعها شاطئ البحر لا يخرج الفنّان من اطار الغرف، حتى الطيور في لوحاته تبدو كأنها تطير في أثير مكان مسور. ونافذته التي يعيد رسمها مغلقة أو مفتوحة، مهيئة لفعل من هذا النوع، ومحجمة عنه بقوة. داخل مرسمه، أو في غرفة البليارد أو الاستراحة، أو في المطبخ، يحدد جورج براك عالمه بخطوط مستقيمة ومنحنية، أو بمتعرجات غنائية. فهناك مركز جذب، في الغالب فوق طاولة أو على مبعدة منها. وهذا المركز تتراكم حوله الأشياء، وتنطلق في حوار صامت بينها. وينظر إليها الفنان من زوايا متضاربة تجعلها في حالة مواربة أو سطوع.
وفي العام 1939 يرسم براك لوحة تحوي جمجمة على مائدة، يقبع جنبها صليب ومسبحة صلاة. الحرب تأتي هنا من خلال ترميزها المباشر. ولكنها تظهر خلال الاحتلال النازي لفرنسا بصيغ أخرى، فهي تشكل ما يشبه قوة ضغط أو قسر يوجهها الفنان إلى أشياء الغرفة. طاولة البليارد تظهر من قاع اللوحة مرة، وبعيني طائر مرة أخرى، لتتعامد خطوطها في وسط يسحبها إلى الداخل. أما ألوانه فمستريحة، في الغالب، على البني الغامق وتدرجاته والرمادي والأسود والأخضر العكر، وإن ظهر الأحمر أو الأصفر فوجودهما الساطع يحدث تضاداً مبهراً لا يؤكده الفنان باستمرار لأن براك لا يبدو مولعاً بمغامرة اللون. أناقة لونه تبدو محتشمة، كأي مصمّم ديكور ينتبه إلى مهابة الألوان المكتومة. ويحدث الأصفر الفاقع في "غرفة مضيئة للبليارد" احساساً بوطأة وجوده وكثافته، كأنّه يقول المادة الصلبة أكثر منه خفة الضوء وشفافيته.
في مجموعته الأولى المخصّصة ل "طاولة البليارد" 1944 - 1952، يعالج الفنان ايقاع المكان. فالحيز يبد منحصراً في بؤرة مهتزة، تتقاطع خطوطها الشاقولية عبر ميَلانها إلى الداخل لتتجه نحو عين الناظر. وطاولة البليارد مع لوحة "عباد الشمس" و"المنظر الطبيعي"، كلها رسمت بوحي من فنّ فان غوغ الذي كان براك شديد التأثر به كما يقول. في سلسلة لوحاته اللاحقة "المحترف أو المرسم" 1949 - 1956، وصل فن براك إلى مرحلة من النضج والمتانة والدقة، ما جعل عدداً من النقاد يعتبر تلك الأعمال أهم ما أنتج. ومجموعة "المرسم" كانت التطبيق الأمثل لتصورات براك عن السكون والحركة في حياة الأشياء، كما انها بطريقة ما، تؤكد تحدّيه لتصور يرى أسبقية الموضوع على الذات الفنية. فأشياء المرسم، بوجودها الفج الفوضوي، بإمكانها أن تُبعث بصورة أخرى على يد الفنان. وهي هنا امتلكت حرية في التحرك لتغدو مسرحاً مكتملاً بغموضه، هذا الغموض الذي يمكن أن يدرك بمستويات مختلفة. فهناك وطأة الغياب في ترديدات اللون والايقاع، وهناك حضور قوي للأشياء. في الوقت الذي نستمتع بلعبة التعرف إلى ملامح المكان، يصعب علينا أن نتخيلها على قدر من الصلابة بحيث يمكن الامساك بوجودها العيني. إن الشفافية تجعلها تهرب إلى سرية عالمها. الدورق المائل قليلاً، وكأس الماء، وحامل اللوحات، واناء الألوان، والمزهريّة، والستائر المتعرجة، والطائر الذي يصاحب معظم أعمال براك، يخترق فضاء الغرفة في هروب حلمي.
يقول براك في وصف لوحاته عن "المحترف": "إن الامساك بالخصائص المتنافرة للأشياء مجتمعة يحتاج الكثير من الدأب. فالمحترف غارق دائماً في الفوضى يعج بالحاجيات. كنت أنظر اليها من كل الزوايا، وأضع الخطط لكي تطور تلك الحاجيات حياتها الخاصة. وكان هدفي إيجاد وحدة بينها، لا معالجة كل وحدة على حدة". إن معالجة الشكل وتحليله ودراسة أبعاده ، لا يمنعه من أن يجعل للوحاته امتدادات أخرى في ذهن المتلقي، تستثير خياله وتدفعه إلى أن يمضي إلى صوغ تصور عنها. فهناك في أعمال براك رموز شعرية، تعزز الاعتقاد بأن تعامل الفنان مع الأشياء الصماء يبقى في النهاية وسيلة لتأكيد الحضور الانساني الموارب، ورموزه التي تتكرر وتغدو اشارات إلى لمسات الحياة الحاضرة في الأشياء: آلة الماندولين والغيتار والطائر.
ويمضي براك في اختباراته على الطائر كرمز يرافق شيخوخته، ليتقرب من التجريد ولتتكثف شعرية هذا الرمز في قدرته على الاستجابة إلى مكونات اللاوعي. إن الحديث عن الرمز في فن براك محفوف بالمخاطر. ذلك أن تصوره يرتهن بعاطفة ما، أو باستعادة ثقافة الذاكرة. وأعمال براك لا تتنكر لعاطفة صاحبها ومتلقيها، ولكنها معنية أولا بتجريد الأشياء من عناصر التعبير المتداول. هناك آثار للصنعة العقلية بمرجعيتها في الفن الهندسي، ولكنها ليست من الصرامة بحيث تمنع الناظر من البحث عن مقاربات روحية ورموز واضحة. وبراك نفسه يؤكد على أن استخدامه الطائر على سبيل المثال، و لشرح ما في نفسه من قول.
وهناك بين النقاد من رأى في بعض أعمال براك نزعة صوفية، لجهة تكثيف المعنى أو الرمز. وفي كل الأحوال يبقى عمل براك "الطائر" في حالاته المختلفة اتجاه إلى التجريد لا يخلو من غنائية ما. في لوحته "تحليقة كاملة" هناك تناغم بين الكتلة السوداء والاثير الأزرق الذي يلفها، الطائر الأسود يقصد تلك الكتلة ليخترقها بصلابة. ولا يحدث التضاد بين اللونين في هذه اللوحة، لأن شفافية الفضاء الممتد تنفذ إلى الكتل السوداء لتجعلها في تناغم مع هذا الكون الأثيري. ويكتمل مناخ اللوحة بطائر آخر أبيض وشفاف، يبدو كما لو أنه الصورة الحلمية للطائر الأول.
طيور براك أصبحت شيفرات في ذاكرة الرسم العالمي، ولم تعد تهويمات لروح الفنان تسري في المكان المغلق إلى عوالم لا تسورها حدود


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.