للماضي غواية وبهاء، يرجع إليه من أصابه الحنين إلى شيء مفقود، ويقصده من رأى في الحاضر خيبة، ويذهب إليه الحائر الباحث عن اجابة. ويرتاده، ربما، من سعى إلى تسلية غير محفوفة بالمخاطر. والمسلسل التلفزيوني السوري الذي ذاع وانتشر في شهر رمضان، وقع في غواية الماضي، فاستدعاه وتأمله وجال في أركانه إلى حدود الاسراف. ولكن ما هو الماضي؟ وقد يظل السؤال معلقاً في الفراغ. فالماضي حقبة من الزمن انطوت، وغاب من يشهد عليها إلا في حالات الماضي القريب. ولأن الماضي فقد من يشهد عليه بدقة، فإن صورته هي صورة من ذهب إليه وأعطاه القوام. فهو موئل القيم والمثل النبيلة، ودرس حكيم يسعف السائل على مخاطبة المستقبل، وهو صوت رشيد يأخذ بيد الحائر إلى مَواطن الامان. والمسلسل التلفزيوني السوري أخذ بهذه الغايات جميعاً، باحثاً عن قول يريد أن يقوله، وعن رسالة يود ايصالها إلى متفرج، ينتظر الجواب الحكيم تارة، ويكتفي بتسلية ملونة تارة أخرى. يذهب هذا المسلسل إلى ماض بعيد واهن الملامح حيناً، ويعود ليحطّ على أرض الماضي القريب حيناً آخر. ف "القصاص" يرحل إلى زمن موغل في بعده، ويذكِّر بزمن الجاهلية الأولى، حيث يصوغ متواليات حكائية تخبر عن أحوال النفس البشرية في ضعفها وقوتها، في دسائسها المتكاثرة وفي نبلها الذي لا ينهزم. ومع أن المسلسل هذا يجتهد في خلق المناخ والألوان والملابس المزخرفة والبيان العربي، فإن تاريخ الحكاية يبقى محتجباً وراء ضباب المخيلة، كأن صاحب القول يُرضي مخيلة مفتونة بالألوان، قبل أن يذهب إلى صفحات التاريخ الحقيقية، إن وجدت. وقد تتراءى خلف صفوف الألوان اشارات ملتبسة، تُسْقط الماضي على الحاضر وتفتش عن درس أخلاقي مريح. غير أن هذه الاسقاطات المرغوبة لا تتحرر من قيود الألوان وجموح المخيلة وسطوة الحكايات الصغيرة، خصوصاً أن الماضي، في محدوديته لا يستطيع أن يحاور الحاضر، في اتساعه وتعقده، حتى وإن كان الماضي المقصود عابقاً بألوان المخيلة الخصبة. وإذا كان مسلسل "القصاص" الذي أخرجه مأمون البني يرحل إلى الماضي البعيد، فإن مسلسل نجدت أنزور الذي لقي نجاحاً باهراً، يكتفي بماضٍ قريب. ف "أخوة التراب" يختار زمن الكفاح العربي ضد "السيطرة العثمانية"، ويعيش أصداء الحرب العالمية الأولى، مروراً بهزيمة العثمانيين وبداية الاستعمار الاوروبي لسورية ولبنان... وعلى الرغم من أن كاتب المسلسل، وهو قصّاص لامع، حاول أن يستعين بمعطيات تاريخية دقيقة، فإن المسلسل قصد عالم القيم والمثل والمبادئ والطبائع البشرية، كما لو كان التاريخ الحقيقي قناعاً لتاريخ آخر مرغوب، يخبر عن الشجاعة والتآزر العربي وغلبة الخير وهزيمة الشر المؤكدة. ولعل هذه الغاية النبيلة هي التي جعلت المسلسل مُثقلاً بالبيارق والرايات وأنين الاجساد المعذبة وصرخات الانتصار... كأن هذا العمل قصد مخاطبة عاطفة المتفرج قبل أن يتوجه إلى عقله. وربما يكون العمل في سعيه هذا انطلق من السياق العربي الراهن، حالماً بنوافذ جديدة تسمح بهواء نظيف. غير أن الحلم، وإن كان نظيفاً، يستوجب رؤية أخرى، تبدأ بالعقل لتنتهي إلى مدار العواطف المتعبة. أمّا "نهارات الدفلى"، فيتقدم خطوة زمنية إلى الأمام، ويتخذ من عام نكبة فلسطين موقعاً له. وما قالته "النكبة" بحث عنه الشاعر الفلسطيني فواز عيد من جديد، حيث المسؤول المتواطئ يهصر عظام العربي الأبي، وحيث الحزن العربي العاجز لا يرد "أرضاً مقدسة"، رغم الغضب والحنجرة المشتعلة والدموع الغزيرة. وفي "خان الحرير"، يرجع الروائي السوري نهاد سيريس الذي أعطى رواية لافتة عنوانها "السرطان"، إلى ماض لا يزال ماثلاً في الأذهان. يختار مدينة حلب في الخمسينات، ويمزج أخلاق المدينة وعاداتها بمناخ سياسي حار، يخترقه الانبعاث العربي ونهوض الحركة الشعبية وأطياف الوحدة المصرية - السورية. ترتد كلّ هذه الأعمال التلفزيونية إلى الوراء فارضةً على مسلسل دريد لحام "يوميات أبو الهنا" نوعاً من العزلة أو الحصار، علماً أنه الوحيد الذي وقف على أرض الحاضر الكئيبة، بعيداً عن أطلال الماضي وشجن الذكريات الدافئة. والسؤال هنا: ما الفرق بين الماضي والتاريخ؟ ولماذا هذه العودة الجماعية إلى دفاتر الماضي؟ وربما تعثر الأسئلة على إجاباتها في تعقّد الحاضر والتباس الأفق المقبل والتحريض الأخلاقي، وفي غياب أستاذ التاريخ الذي يفصل بين التاريخ وأغراض الذاكرة، صادقة كانت أم مجلّلة بالعبث. بهذا المعنى فان المسلسل التلفزيوني السوري، المجتهد والطموح في آن، يتحول إلى سؤال ثقافي حقيقي، يفصح عن الحيرة والتشتت وعن تحويل التاريخ إلى تسلية، لأنه يتحدث عما يظن أنه كان، قبل أن يتأمل الحاضر الذي يفرض العودة إلى الماضي البعيد والقريب معاً. وربما تتجلى عودة الحائر إلى الماضي، في كتّاب هذه المسلسلات. فكاتب "أخوة التراب" حسن م. يوسف، بين أفضل الأسماء التي عالجت القصة القصيرة في العقدين الاخيرين، ونهاد سيريس بدأ ولا يزال روائياً لا تنقصه الموهبة، وفواز عيد شاعر يكتب قصيدة جيدة منذ زمن طويل... كلّ هؤلاء وغيرهم أيضاً، انتقل من عزلة القلم والورقة والجنس الأدبي المحدد إلى شاشة التلفزيون، حيث تأخذ الأفكار شكل التسلية الجماعية المفيدة حيناً، والماسخة حيناً آخر. وقد يكون هذا الرحيل القسري، في معناه الحقيقي، رحيلاً من زمن تاريخي إلى زمن آخر، وانتقالاً من زمن القراءة الفردية المتأنية إلى زمن قراءة غريبة أخرى، تحتاج إلى العين والأذن والجلسة المسترخية قبل أن تحتاج إلى ايقاظ العقل وإعماله وحضور الذات المفكِّرة. ويظل السؤال في مكانه: ما الفرق بين الماضي والتاريخ؟ ولا اجابة نهائية، غير أن غياب الاجابة لا يعني أن التاريخ يساوي الرغبات والمثل الرفيعة والألوان القشيبة. وما الفرق بين ذاتٍ تقرأ نصاً أدبياً وتحاوره، وجماعة أخرى تلبّي نداء التلفزيون قبل أن يصل اليها؟ * كاتب وناقد فلسطيني