مع ان باريس تشغل منذ خمسة عشر عاماً المركز الاول في تنظيم المعارض والمؤتمرات العالمية على كل صعيد، فهل لأول مرة تقيم معرضاً للشوكولاته على رصيف برانلي المطل على نهر السين، عند اقدام برج ايفل. ولم يكن هذا المعرض الذي استقطب جمهوراً غفيراً من الناس، صغاراً وكباراً، على مدى ايام عدة، ليقل أهمية عن أكبر المعارض الاخرى في تنظيمه وأهدافه. صحيح ان الناس تمتعوا كما لم يحلموا به من قبل بتذوق اشهر انواع الشوكولا وبرؤية كيف يتم صنعها في أكبر المصانع الفرنسية العريقة، الا ان تاريخها ودورها الاقتصادي والكتب الصادرة حولها ومشاركة المركز الثقافي المكسيكي في التظاهرة ورعاية عمدة باريس جان بيري للمعرض، أضفى هالة اعلامية كبيرة على هذا المعرض الاول من نوعه وجعل الصحافة والشاشات الصغيرة تتناوله باسهاب. كانت الشوكولاته دخلت فرنسا سنة 1615، في الوقت ذاته الذي دخلت آن النمسوية وابنة ملك اسبانيا فيليب الثالث الى البلاط الفرنسي. كانت آن البالغة من العمر اربعة عشر عاماً في ذلك الوقت تزوجت من الملك لويس الثالث الذي كان في عمرها. كانت الشابة الصغيرة تحب شراب الكاكاو واللذيذ الذي كان دخل الى البلاط الاسباني سنة 1528، بعدما كان كريستوفر كولومبس تذوقه للمرة الاولى سنة 1502 في جزيرة غواناجا، هندوراس حالياً. كان سكان الجزيرة الأصليون قدموه له كشراب يدعى "كزوكولاتل". وشارك البلاط الفرنسي ذوق ملكته الشابة مجاملة لها، لكن ايضاً ولعاً بالشراب اللذيذ. وهكذا اشتد التلذذ بالكزوكولاتل الذي صار اسمه شوكولاته، مع الزمن. فقد سمح لويس الرابع عشر باستعمال شراب الشوكولاته في البلاط رسمياً. وعهد الى ضابط من ضباط الملكة ويدعى د. شابو، في 28 ايار مايو 1659، بامتياز مقايضة الكاكاو وتصنيعه وبيعه. وفي سنة 1660، تزوج لويس الرابع عشر من ماري تيريز النمسوية، وكانت شابة مأخوذة بالشوكولاته. وحباً لها، أدخل الملك شجر الكاكاو في جزر الأنتيل الى ممتلكاته. وفي سنة 1679، رسا المركب "الظافر" في مرفأ برست الفرنسي حاملاً اول شحنة من فول الكاكاو الى فرنسا. كان انتشار الشوكولاته، حسب ما جاء في كتاب كريستيان كونستان، بطيئاً خارج البلاط الملكي. ولم يتعرف النبلاء عليها في الأرياف الا بعد سنة 1664. لقد كانت الرسوم المفروضة على الشوكولاته مرتفعة، وبقيت من نوع المنتجات الراقية التي ينعم بها اصحاب الذوق الرفيع جداً. بعد موت لويس الرابع، شوهد الوصي على العرش فيليب دورليان يشرب الشوكولاته في فنجان خاص اثناء قيامه بمهماته، أما الملكة ماري انطوانيت، زوجة لويس السادس عشر، فكانت تشرب الشوكولاته ممزوجة بالسكر والفانيليا. في سنة 1705 تذوق الصغير فولتير أول فنجان شوكولاته من يد الأديبة نينون لونكلو. وصار الأديب الكبير مدمناً عليها حتى انه في السنوات الاخيرة من حياته وحتى موته سنة 1778 لم يعد يتناول غير عشرات الفناجين من الشوكولاته بين الساعة الخامسة صباحاً والثالثة بعد الظهر. عشرات الكتب عن الشوكولاته، ومن بينها أبحاث جامعية، كانت معروضة في جناح خاص بالمعرض. من بينها: "فضائل الشوكولاته العلاجية" لميشال شودان، "أسرار الشراهة الشوكولاتية" لبييار هرمه، "سحر الشوكولاته" لايرين فران، "الشوكولاته ولع مفترس" لمارتين جولي، "بيت الشوكولاته" لروبير لانكس و "قاضمو الشوكولاته" لفاليري روزونكيست. لكن لم تكن هذه الكتب التي يعتبر مؤلفوها من الخبراء في حقل تاريخ الشوكولاته وصناعتها، هي الظاهرة الثقافية الأهم في المعرض، بل ايضاً نادي الشوكولاته الذي خصص أعضاؤه جناحاً خاصاً في المعرض حمل اسم النادي بالذات "قاضمو الشوكولاته". وكان هذا النادي تأسس سنة 1981، وهو معترف به رسمياً نظاماً وهدفاً. فإرادة اعضاء النادي من عشاق الشوكولاته، هي الدفاع عنها واستخدام جميع الوسائل لترويج صناعتها وتحسينها. وقد احسن الاعضاء استقبال أهل الاعلام والرد على الاسئلة الصحافية واشباع رغبة مجانين الشوكولاته. وكان النادي الذي يبلغ عدد اعضائه مئة وخمسين عضواً اصدر سنة 1994 كتابه الثاني عن الشوكولاته، ويتكلم الكتاب على أشهر صناعها وعلى افضل وسيلة لمشاركة "مجانين الشوكولاته" همهم التعرف الى اسرارها وتاريخها. فالنادي يعتبر ان هاوي هذه الحلوى هو مستهلك منتظم لها ويعرف التمييز بين مختلف انواعها، كذلك اصولها وانتاجها وجديدها. والهاوي هذا فخور بولعه للشوكولا ولهذا فهو يقاسم اشقاءه في الهواية افكاره في ابتكار وصفات "شوكولاتية" وفي البحث عن عناوين جديدة لمصادرها ومصانعها بهدف التعمق في جذورها. فالأبحاث حول الشوكولاته، حسب معلومات النادي، دلَّت على ان صناعتها بقيت حرفية خلال القرن السادس عشر والقرن السابع عشر. كان العمل في تصنيعها شاقاً بدءاً من حبات الكاكاو وحتى اعدادها للاستهلاك. كان العمل يدوياً، وكان العمال يطحنون حبات الكاكاو راكعين ويعجنون مسحوق الشوكولاته وقوفاً. ولم يكن العامل يستطيع انتاج اكثر من ستة كيلوغرامات من الشوكولاته في اليوم. وظهرت اول آلة لطحن حبوب الكاكاو وخلطها سنة 1778. وقد تراجعت تجارة الشوكولاته اثناء الثورة الفرنسية، لكن نابليون بونابرت كان يتناولها وهو يعمل حتى ساعة متأخرة. استفادت صناعة هذه الحلوى من الازدهار الاقتصادي في القرن التاسع عشر، وانتشرت زراعة أشجار الكاكاو في افريقيا شاطئ العاج وغانا، وفي آسيا سري لانكا وماليزيا وسوماطرا وجاوا وفي المحيط الأوقيانوسي جزر سالومون وغينيا الجديدة. وحقق الهولندي كونراد فان هوتن تصنيع طحين الكاكاو سنة 1828. ودخلت صناعة الشوكولاته سويسرا سنة 1831، وأسس رودولف لندت مصنعاً لها في مدينة زوريخ سنة 1831 ولا يزال المصنع مستمراً حتى اليوم. وظهرت صناعة الشوكولا بالحليب للمرة الأولى في سويسرا سنة 1870. وكان مبتكرها يدعى توبلر الذي اصبح شريكاً لنستله بعدما اشتهرت الواحة "الشوكولاتية" المرتبطة باسمه في كل مكان. صدر مرسوم في فرنسا سنة 1910 يتعلق بتنظيم صناعة الشوكولاته ونسبة المواد التي تدخل فيها وأظهر المعرض ان فرنسا اليوم هي البلد الرابع في صناعة الشوكولاته والثامن في استهلاكها. وصارت هذه المادة في فرنسا موضوع اطروحات جامعية منذ سنة 1961. وتروي احدى هذه الاطروحات ان شجرة الكاكاو كانت غذاء مقدساً، وان الشوكولاته بالذات تحمي من تسوس الاسنان. وقد كرّست الاستاذة الجامعية ايليز كاسبار أربعين سنة من حياتها للعلوم الطبيعية، وأصدرت كتاباً بعنوان "الانسان والشوكولا"، وفيه ان شجرة الكاكاو حملها الملك كيتزالكواتل من حقول ابن الشمس وقدمها الى اصدقائه وعلمهم زراعتها. لكن الكاكاو مرتبطة في جذورها التاريخية بشعوب المايا، والكلمة مشتقة من الاسم الآزتيكي "كاكاوكاوتيل" التي تعني القوة والحيوية. شجرة الكاكاو وحضارتها يتراوح طول شجرة الكاكاو بين خمسة الى عشرة أمتار، وتعود أصولها الى اميركا الجنوبية. وهي تنمو على حالتها الفطرية في الغابات الرطبة في مناطق الأمازون والأورينوك. وكانت شعوب المايا اول من أدخلها الى اميركا الوسطى في عصر سحيق يعود الى ثلاثة آلاف سنة، والى المكسيك بشكل خاص، وأصبحت هذه المادة مهمة جداً في الثقافات القديمة. فقد كانت ترمز الى القلب الانساني بالنسبة الى الشجرة والى الدم بالنسبة الى الشوكولاته. وكان الكاكاو يستعمل ايضاً لأمور تتعلق بالطقوس اثناء الاحتفالات الخاصة بالخصوبة. وفي مناسبة عيد الشهر السادس عشر الآتيموزتلي، كانت شعوب المايا تضع امام صور الجبال، من بين ما تضع، كوسا وحبوب الكاكاو. كذلك استخدمت هذه الحبوب في التجارة كعملة وبقيت هذه العادة سائدة حتى القرن السادس عشر. كانت "دوطة" المرأة تعادل مئة حبة كاكاو، وكان العبد يساوي القيمة ذاتها. اما ثمن الأرنب فكان عشر حبات كاكاو وثمن اليقطينة اربع حبات. هذا فضلاً عن ان المقاطعات كانت تدفع ضريبة مرتين في السنة للملك احمالاً من فول الكاكاو. كان نضج حبوب الكاكاو يستغرق ثلاثة اشهر، حيث من الواجب حماية اشجاره من الهواء واحاطتها بظلال بواسطة اشجار تدعى الأم الجلادة والأم اللطيفة والأم الشجاعة وأم الكاكاو. وتزهر اشجار الكاكاو طوال السنة وقطافها الجذري يحدث مرتين سنوياً، وتحتوي حبوب الكاكاو على 50 في المئة من المواد الدهنية تدعى زبدة الكاكاو، وتستعمل كافايين الحبوب في الطب. ولتحضير الشوكولاته، يتم تحميص الحبوب وسحقها ويضاف الى المسحوق الماء والفانيليا. وكان سكان المكسيك الاصليون يستعملون دهن الكاكاو لعلاج الجروح، وهو يستعمل اليوم لمنع الشفاه والبشرة من الجفاف. وقد اكتشف تحميص الكاكاو بالمصادفة. ففي يوم احرق شاب هندي فول الكاكاو، ففاحت رائحة طيبة منه. وقال الشاب في نفسه: "اذا كانت رائحة الحرق عبقة بهذا الشكل، فلا بد من ان يكون المذاق كذلك". هكذا انتشر تحميص الكاكاو شيئاً فشيئاً. وجرت العادة بعد ذلك الحصول على عجينة الكاكاو بواسطة المسحوق الذي كان يضاف اليه الماء والبهار المكسيكي. كذلك توصلت شعوب مناطق الكاكاو الى انتاج شراب برغوة من المسحوق كان يُشرب بارداً ويبدو ان فائدته كانت مقوية ومغذية. والشراب عرف بالتشوكواتل، وصار يُقدم في القرن السادس عشر الى الامبراطور الازتيكي "موكتيزوما" في اقداح ذهبية ممزوجاً بالعسل. وكان الشراب الثمين يحفظ في جرار فخارية. وحين قتل الاسبان الامبراطور المذكور سنة 1521، عثروا في كهف قصره على عشرين ألف طن من فول الكاكاو. ومنذ ذلك الحين راح الاسبانيون يرسلون بمعلومات عن الكاكاو الى اوروبا، حتى ان شحنة وصلت منه الى احد كبار المسؤولين هناك فلم يجد فيها ما يثير اهتمامه. غير ان اسبانيا اقبلت على استعمال شراب الكاكاو الذي وصل اليها كعجينة جاهزة سنة 1527. فالمقيمون الاسبان في الجزر الكولومبوسية المكتشفة حرصوا على عدم كشف سر تحضير العجينة إلا بعد زمن طويل، وبعدما اعتمد البلاط الاسباني شراب الكاكاو شراباً رسمياً. وخصوصاً بعد ان اقر الاطباء بفضيلته المنشطة والعلاجية في شفاء الجروح والحروق والبواسير. ولم تنتظم شحنات الكاكاو الى اسبانيا الا في سنة 1585. الشوكولاته في اوروبا وصلت حبوب الكاكاو الى المانيا سنة 1641 عن طريق العالم فولكامر الذي كان تذوق الشراب الشوكولاتي اللذيذ في مدينة نابولي. وفي سنة 1657 اكتشف الانكليز شراب الكاكاو وتبنوه وزرعوه في مستعمراتهم وخصوصاً في ماريكا سنة 1660، وقد بلغ ارتفاع اشجار الكاكاو هناك خمسة عشر متراً، وكانت الشجرة الواحدة تحمل مئة الف زهرة في السنة. غير ان ما يصير ثمراً منها لا يصل الى اكثر من ثلاثين حبة تشبه جوزة الهند، وتضم بين 25 الى 45 حبة كاكاو. ويعتبر تجفيف حبوب الكاكاو اهم عملية تخضع لها صناعة الشوكولاتة. وهو يتم اصطناعياً بتعريضه لتيار هوائي او طبيعياً تحت اشعة الشمس. في صدر المعرض لوحة كتبت عليها عبارة العالم بريان سافاران التي قالها سنة 1826: "يا لحظ الشوكولاته التي عبرت العالم على شفاه النساء وماتت ذائبة في افواههن". على جانبيها وحولها اصطفت اجنحة اشهر "الشوكولاتية" الذين عبروا عشرات السنين مع الشوكولاته وسمحوا هذه المرة لحلم البعض ان يتحقق في تذوقها من انتاجهم. من فالون الى لونوتر ومن بوالان الى سيلليتية، لكن ايضاً الى هيفان ولورا تود وكل منهما نال اكثر من جائزة في عالم الشوكولاته والى هذا الحشد من الناس ممن اقبلوا على المعرض من كل عمر وفئة، لا للحشرية لكن عشقاً لها. وهذه المرة سيتذكرون ابداً ان الشوكولاته ليست مذاقاً طيباً فقط، بل هي حضارة شعب قديم بأكمله.