عندما يحدث خلاف في الرأي على شأن من الشؤون الداخلية الاردنية يعمد الملك حسين الى خطاب يعلن فيه وجهة نظره، فتؤيده الغالبية وتصمت المعارضة وتطوى صفحة الخلاف. اما عندما يتعلق الامر بقضية تخص الشؤون الحياتية للمواطنين، مهما كبرت، فان جولة للملك حسين في محافظاتالاردن لمدة اسبوع على الاكثر كفيلة بحلها. هكذا تبدو العلاقات بين الحكم والشعب في الاردن منذ نهاية الخمسينات حتى اليوم، اذ لم يحتج العاهل الاردني الى اسلوب ثالث لحل اي اشكال طوال كل تلك السنوات، فالشعب يلجأ اليه دوماً لتخليصه من "حكومة مستبدة" او من مسؤول تطاول عليه، وهو يلجأ بدوره الى الشعب متى تعرضت البلاد لريح عاتية، سواء من الداخل او من الخارج. وآخر تطبيق لهذه المعادلة جرى قبل اسبوعين عندما القى الملك حسين خطاباً متلفزاً اعلن فيه تعديل قانون الانتخاب بطريقة الصوت الواحد للناخب الذي كان صوت المعارضة قوياً في مقاومته طوال الاشهر الثلاثة السابقة، فارتفعت اصوات الاردنيين مؤيدة التعديل وصمتت المعارضة تماماً. وفي لقاء له مع نخبة من الصحافيين الاردنيين حضرته "الوسط" في اليوم التالي للخطاب ناشد العاهل الاردني "الغالبية الصامتة" ان تتحرك، "وان تدفع بقيادات جديدة نقية نظيفة مؤمنة لتتحمل المسؤولية". لكن كلامه حمل معاني خطيرة، اذ قال: "في مرحلة من المراحل، اخيراً، عادت بي الذاكرة الى الخمسينات... وبصراحة خشيت ان تكون هناك مؤشرات مقلقة ومزعجة الى احتمال اقرار ممارسات ادت بنا جميعاً الى التعثر ازاء مسيرة آمنا بها وركزنا عليها وكانت آمالنا كبيرة بالنسبة الى نجاحها في ذلك الوقت... الظروف اختلفت ولكن يبدو لي ان كثيرين لم يريدوا لهذه التجربة ان تنجح ولا لهذه المسيرة ان تصل الى غاياتها وأهدافها". فما الخطر في ما قاله الملك حسين؟ لقد سبق للعاهل الاردني نفسه ان اجاب على هذا السؤال باسهاب في كتابه "مهنتي كملك" اذ شرح فيه الظروف التي سادت في الخمسينات حيث كانت الاحزاب السياسية الاردنية آنذاك في أوج نشاطها، فتصاعدت التجاوزات الى درجة كادت تطيح العرش الهاشمي، ومنذ ذلك التاريخ تعلم الملك حسين كيف يلجأ الى الشعب والجيش لحسم الخلاف ولكن بالطرق السلمية. وليس من قبيل المصادفة ان نواباً في المجلس الحالي ووزيراً واحداً على الاقل في الحكومة الحالية معن ابو نوار كانوا من قادة التمرد على الملك حسين في الخمسينات وهم اليوم من أشدهم ولاء لحكمه. وعلى اية حال فان تجربة التسعينات تختلف اختلافاً جوهرياً عن تجربة الخمسينات، فالمعارضة في التجربة الاولى لم تميز بين معارضة الحكم ومعارضة الملك، اما اليوم فانها "لعبة" بين سلطات الحكم، لكن الملك هو رئيس للسلطات ولا يصله من المعارضة سوى شكوى سلطة من افتئات الاخرى عليها... فيتدخل لاعادة الامور الى نصابها. ومن هنا تأتي اهمية كلام الملك حسين على وجود "مؤشرات مقلقة" اعادت الى الذاكرة تجربة الخمسينات. ومرة اخرى يتجه اصبع الاتهام الى "اعداء الديموقراطية"، وهؤلاء - كما يقول اكثر من مسؤول اردني، والملك حسين نفسه - نوعان: اعداء خارجيون او داخليون يرتبطون بالخارج، واعداء داخليون بسبب خوفهم من التجربة او بسبب عدم فهمهم لها. وهذا الكلام المختصر يكفي للدلالة الى المقصود من القلق والخشية من تكرار تجربة الخمسينات. وعلى رغم كل ذلك فان الملك حسين رحب في لقائه الاخير مع الصحافيين بالمعارضة الدستورية عندما قال: "لا يمكن ان نعيش اكذوبة التأييد الكامل لسياساتنا...". الديموقراطية والمفاوضات والاقتصاد ويشعر الحكم الاردني اليوم بأن عليه مواجهة ثلاث قضايا اساسية والتعامل معها بكفاءة شرطاً لاستمرار نجاح مسيرته وتعزيز اركانه، وهي على رغم تنوعها، الا انها تتداخل وتتشابك لتشكل التحدي الكبير للاردن في هذه المرحلة، وهي: ترسيخ المسيرة الديموقراطية وتوضيح قواعد لعبة الحكم داخلياً، من خلال الاستعداد للانتخابات النيابية المقبلة وبداية نشاط الاحزاب السياسية المرخص لها حديثاً. مفاوضات السلام التي تتطلب جهوداً كبيرة للحيلولة دون ان تسفر عن حلول على حساب الاردن والعرب عموماً والحديث عن "علاقة ما" مع الفلسطينيين. الوضع الاقتصادي الذي اسفر عن ديون خارجية كبيرة نسبياً وحجم بطالة مرتفع وازدياد جيوب الفقر. اما عن العلاقات العربية فيعتبر الاردن انه بدأ ينجح في تجاوز آثار حرب الخليج الثانية على علاقاته العربية. والمراقب للسياسة الاردنية يجد ان القيادة الاردنية بدأت اخيراً بطرح مصطلحات جديدة في تعاملها مع الهموم الثلاثة الأساسية، مثل: "المخاض السياسي" في المنطقة وانتظار ما سيسفر عنه. "الفيديرالية" الى جانب "الكونفيديرالية" عند الحديث عن العلاقة المستقبلية مع الفلسطينيين. وكذلك "الاردنيون من شتى الاصول والمنابت" و"المهاجرون والانصار" في التمييز بين اللاجئين الفلسطينيين والممنوعين بمئات الألوف من العودة الى الضفة الغربية من جهة، والفلسطينيين الذين اختاروا العيش في الاردن والاستقرار فيه حتى اصبحوا جزءاً لا يتجزأ منه، من جهة اخرى. مخاض الشرق الاوسط ويدرك الاردن جيداً ان "المخاض السياسي" في المنطقة بعد زوال الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وقيام فكرة النظام العالمي الجديد، وبعد كارثة الخليج، وبعد دخول مفاوضات السلام سيكون صعباً، لكنه سيولد نتائج حاسمة وتغييرات جذرية في الجغرافية السياسية للمنطقة. والتحدي الاكبر الذي يشعر به الاردن حيال هذه المسألة هو ان عليه الا يكون متلقياً فحسب للتغيير، بل ان عليه المشاركة قدر الامكان في الصياغة. ويشعر الحكم الاردني بأن نصيبه من التغيير سيكون كبيراً وانه مؤهل، في المقابل، لاداء دور كبير ايضاً ومؤثر في العملية، وهذا الشعور ناجم عن اسباب عدة: - ارتباطه بالقضية الفلسطينية والرغبة الدولية في التحدث معه واشراكه في الشأن الفلسطيني، خصوصاً ان قرارات الاممالمتحدة تتحدث عن دول احتلت اراضيها، والاردن كان متحداً مع الضفة الغربية عام 1967 عند وقوع الاحتلال الاسرائيلي. - اهمية الدور الاردني في انجاح مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية وانجاز جدول الاعمال في المسار الاردني - الاسرائيلي على رغم عدم التوقيع عليه بعد. - تحييد العراق عن اللعبة السياسية في المنطقة والشكوك الغربية الدائمة في سورية ما يجعل الاردن واثقاً من انه امام دور كبير سيلعبه قريباً. ولكل هذه الاسباب قام الملك حسين بجولة في الغرب شملت اوروبا وأميركا، ويستعد الآن لجولة في الشرق تشمل الصين واليابان. كما انه تحرك عربياً فزار سلطنة عمان اكثر من مرة وأوفد ولي عهده الامير حسن الى دولة قطر، كما زار سورية ومصر واليمن وأرسل وفداً رفيع المستوى الى اسرة الدول المستقلة. اما التحرك الاهم اللافت فهو التركيز الاردني على تركيا التي اوفد اليها الملك حسين الاسبوع الماضي ولي العهد بعد اسبوعين من زيارته شخصياً لها. ويرى المراقبون ان هذا التركيز نابع من قناعة الاردن بالدور التركي المقبل في المنطقة ليس بسبب الرغبة الدولية في تحجيم الدور الايراني، ولا بسبب ضعف الدور العراقي فحسب بل لسبب جوهري يتعلق بخطة لدمج تركيا في تركيبة جديدة لمنطقة الشرق الاوسط كشفت ملامحها المفاوضات المتعددة الاطراف بين العرب واسرائيل. الوضع الداخلي ويؤكد العاهل الاردني ان الهم الداخلي الأساسي هو "بناء الاردن القومي الديموقراطي". وهو استعد له بتعديل قانون الانتخاب على رغم صوت المعارضة القوي، وفي المقابل اعلن "انني اقبل هذا التحدي بكل ثقة بأن الانتخابات التي ستأتي ستكون مثالية الى ابعد الحدود ونزيهة بكل معنى الكلمة، والاردن مفتوح امام الجميع ليرى ويتابع وينتقد اذا كان لديه اي مبرر". وقال في لقائه مع الصحافيين: "انا وحكومتي لسنا مع أحد او ضد أحد لكننا مع حق هذا الشعب في ان يعيش...". ويرى المراقبون هنا ان بناء الاردن الديموقراطي يعني تنظيم الساحة السياسية الداخلية حيث يوجد فيها 17 حزباً رسمياً، اضافة الى عدد من التنظيمات غير المشروعة التي يرتبط عدد منها بالخارج، وكان اخطر افعالها اخيراً اعداد "حزب التحرير الاسلامي" غير المرخص له خطة لاغتيال الملك حسين اكتشفت قبل تنفيذها بشهرين. وكرر العاهل الاردني مجدداً ما قاله قبل عامين من ان "الازدحام يعيق الحركة"، فهو يأمل بأن يفرز المخاض السياسي الداخلي تنظيمات سياسية محدودة قد لا يزيد عددها على اربعة، لكنها واضحة ومؤثرة في السياسة الداخلية، بل انه يراهن على ذلك. اضافة الى ذلك فان تجربة مجلس النواب السابق كشفت اهمية تحديد اسس الفصل بين السلطات من جهة وتبسيط قواعد لعبة الحكم بين الغالبية والمعارضة من اجل تأمين حالة من السلم الدائم بينهما لئلا يحتكم احدهما الى العنف في صراعه مع الآخر، خصوصاً ان مجلس النواب المقبل قد يتعامل مع قضايا ساخنة تحتاج الى قرارات هادئة وموضوعية. ومن اجل كل ذلك تجري الاستعدادات ويحذر العاهل الاردني من تكرار تجربة الخمسينات التي شهدت توتراً ادى الى تدخل الحكم في المعركة وحسمها لمصلحته مع حظر النشاط السياسي للاحزاب منذ ذلك التاريخ. الكونفيديرالية او الفيديرالية ويشعر الاردن بأن مفاوضات السلام تحتاج الى جهد وصبر كبيرين، مثلما تحتاج الى خبرة ودهاء في التعامل مع المفاوض الاسرائيلي الذي يسعى الى الحصول على كل شيء في مقابل اقل شيء ممكن. والاردن بوضعه الحالي ليست له قضية على الارض يحلها مع اسرائيل سوى مساحة محدودة من الأراضي في وادي عربة واقتسام المياه في نهري الاردن واليرموك. لكن دوره في المفاوضات اكبر من ذلك بكثير، اذ انه يوفر المظلة للوفد الفلسطيني ويتفاوض مع اسرائيل جنباً الى جنب مع الفلسطينيين. ومن هنا يأتي التحدي الكبير امام الاردن، فالفلسطينيون عادوا الى طلب العلاقة الكونفيديرالية معه بعد جهودهم المتواصلة التي اسفرت عام 1988 عن قرار عمان فك الارتباط القانوني والاداري مع الضفة الغربيةالمحتلة، والادهى ان جهات دولية في مقدمها الولاياتالمتحدة واسرائيل، باتت تدعم هذا الطلب، وهنا لبّ المشكلة بالنسبة الى الاردن. وعن هذا الموضوع بالذات قال الملك حسين ثلاث عبارات استرعت الانتباه: "هذا شيء داخلي بيننا وبين الفلسطينيين يجب الا تفيد منه جهات اخرى"، "كل شيء وهذا الموضوع بالذات سنبحثه في حينه"، "الكونفيديرالية او الفيديرالية مع من؟". وتلخص الجمل الثلاث الموقف الاردني من طرح الكونفيديرالية، اذ ان الاردن يشعر بأن الحديث عن الكونفيديرالية سابق لاوانه لان مثل هذه العلاقة تقوم بين دولتين، والاردن دولة، فما هي الدولة الاخرى التي سيقيم العلاقة معها؟ وأين حدودها على الارض ؟ لذلك يرى ان الوقت غير مناسب للحديث عن هذا الموضوع. اما الفلسطينيون فيركزون على البحث فيه لانهم يريدون اشراك الاردن في اتخاذ القرار في شأن ما ستسفر عنه مفاوضات السلام، الامر الذي تشعر عمان بأنه مأزق سيرتب على الحكم فيها صعوبات ليس في الاراضي العربية المحتلة فحسب بل داخل الاردن هي في غنى عنها. ويلاحظ المراقب ان المسؤولين الاردنيين باتوا يقاومون الحديث عن الكونفيديرالية بالحديث عن الفيديرالية، اي الوحدة الاندماجية الكاملة، وبالحديث ايضاً عن استفتاءين في الاردن وفي الأراضي المحتلة شرطاً للقبول باقامة هذه العلاقة. وفي المقابل فان المسؤولين الاردنيين يشعرون بالمخاوف نفسها التي يبديها الفلسطينيون، وهي ان تسفر المفاوضات عن مرحلة انتقالية تدوم ولا تتطور وتصبح هي الحل النهائي، وهو السؤال الذي وجهه الاردنيون والفلسطينيون الى راعيي المؤتمر، ولم يجدوا الاجابة بعد، ويبدو ان هذه النقطة بالذات ستشكل مأزقاً لمفاوضات السلام. 8 مليارات دولار يرزح الاردن تحت ديون خارجية تبلغ نحو ثمانية مليارات دولار. وفي محاولة لجس النبض على الاقل طلب الملك حسين من الرئيس الاميركي بيل كلينتون عندما زار واشنطن قبل نحو شهرين، تدخل الولاياتالمتحدة لشطب هذه الديون، كذلك طلب رفع الحصار عن ميناء العقبة الذي بات ينذر بخطر اقتصادي كبير. الا انه لم يجد استجابة اميركية بعد للطلبين. لكن ثمة شعوراً اردنياً بأن هذين الموضوعين وغيرهما من الهموم الاقتصادية ستجد طريقها الى الحل ضمن الترتيبات الجديدة للمنطقة والمشروطة بنجاح مفاوضات السلام. وفي الاردن نحو 130 الف عاطل عن العمل، استناداً الى ارقام ديوان الخدمة المدنية ووزارة العمل، وفي مقابل ذلك يوجد رقم مماثل لعمال عرب وآسيويين، الامر الذي تصفه الحكومة الاردنية بالبطالة الهيكلية، اذ توجد فرص عمل لا يقبل عليها الاردنيون. الى ذلك فان الاقتصاد الاردني لا يزال يعاني من بعض الاختلالات التي خفت حدتها منذ شروع الحكومة، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، في تطبيق برنامج للتصحيح الاقتصادي مضت حتى الآن اربع سنوات ناجحة منه، كما يقول رئيس الصندوق. وقد نجمت ازمة الاردن الاقتصادية عن توقف المساعدات الخارجية، خصوصاً العربية منها وتضاؤل تحويلات الاردنيين في الخارج، الامر الذي ادى الى فراغ سلة العملات الاجنبية وتآكل احتياطات الذهب عام 1988 فحدثت الازمة في العام التالي. ... اعلن الملك حسين امام الصحافيين الاردنيين قبل ايام: "لو لم أكن أؤمن بقدرة انساننا الاردني على ان يميز الامور المطروحة عليه وان يرتقي الى المستوى المطلوب لكنت اعلن امامكم الآن فشلي في الاربعين عاماً التي قضيتها معكم...". هكذا يبدو العاهل الاردني واثقاً بأن كل المصاعب والهموم التي تواجه بلاده اليوم هي في طريقها الى الحل. فهل يراهن على ذلك لأنه صاحب الغالبية؟