يتطرق النقد والصحافة غالباً الى تجارب وأعمال الفنانين التشكيليين، دون المرور في الامكنة التي تحتضن هذه الاعمال وتشهد ولادة تلك التجارب. وقد اختارت "الوسط"، من باب تعويض هذا النقص، تقديم ثلاثة فنانين سوريين، عبر زيارة مرسم كل منهم في دمشق. الاول هو نصير شورى الذي قابلناه قبيل رحيله، الثاني هو نذير نبعة بأشيائه الصغيرة المرتبة بدقة، اما الثالث فهو فاتح المدرس الغارق في فوضى مدروسة من الكلمات والألوان والاشياء. ما هي العلاقة بين الفنان ومرسمه؟ هل محيط الفنان المباشر وإطار ابداعه لوحة من لوحاته؟ هل هما امتداد لحساسية الفنان الداخلية؟ وهل نستطيع القول ان المرسم هو صورة عن الفنان، او صورة عن رسمه؟ المؤكد ان يد الفنان وعينه هما اللتان تنظمان المرسم وتعطيانه طابعه. والمرسم مسألة شخصية وحميمية جداً، خارجة عن المفاهيم والمقاييس العامة والمألوفة. والعلاقة بين الفنان وإطار عمله سؤال قديم، لكنه لم يستنفد ما دام يتجدد مع كل فنان، كما تتجدد قراءة تلك العلاقة مع كل مشاهد جديد وتبعاً لقراءة اعمال الفنان. والتقيت في دمشق ثلاثة فنانين من أكبر فناني سورية وأعرقهم، كل منهم ارتبط بمرسمه لزمن طويل وعايشه. هذه العلاقة المزمنة تترك في المكان صورتها. مع الراحل نصير شورى التقيت الفنان الكبير نصير شورى قبيل وفاته بأشهر. توفي في دمشق في الخامس من تشرين الثاني نوفمبر 1992. كان نهاراً حاراً، لكن الظل استقبلني عند عتبة المرسم بل استقبلتني ظلال. نصير شورى من اوائل الفنانين الذين اسسوا المرحلة الحديثة للرسم في سورية. ولد في دمشق عام 1920، وبدأ يشارك في المعارض منذ عام 1936. لكن انطلاقته الحقيقية بدأت في مطلع الخمسينات عندما نضج اتجاهه الانطباعي. فهو كما قال يومها عن نفسه "مغرم بالمناظر"، ويفضل رسم المناظر الطبيعية على البورتريه، لأنه يحب الالوان، والمناظر غنية بالألوان. غير انه في رسمه للمناظر الطبيعية يقدم حضور النور والظل اللذين لهما الاثر الاول في اللوحة، واللوحة محل لتداخلهما ولعبهما، والاشياء ترقد وراءهما بخفر ووداعة. سكن نصير شورى طيلة اربعين سنة في حي "ابو رمانة" في دمشق، وهو من ألطف الاحياء الدمشقية الجديدة. بيته موجود في الطابق السفلي من البناء، او في الدور الذي يطلق عليه الدمشقيون اسم "قبو". مرسم نصير شورى في بيته. يتداخل المرسم بصالة الاستقبال بنوع من تقاسم الظل والنور. في الركن الظليل تستريح قطع اثاث دمشقي مصدّف، وأشياء من أزمنة قديمة. المرآة تصطاد النور الآتي من النافذة ويحتويه اطارها الصدفي. الصالون واسع تضيئه نوافذ متعددة وكبيرة، يتدفق منها نور النهار. وتبدو هذه النوافذ اشبه بأطر على الحديقة الخاصة الصغيرة التي تشكل ورودها المتألقة تحت شمس دمشق جزءاً في نظام البيت. ما ان تدخل المكان وتتأمل "اللوحات" والفنان النحيل وهو يتحرك بلطف وحذر بين الاشياء، حتى يحضر لهذا المكان المرهف المضيء المتناسق عنوان واضح: الهارموني. الهارموني هي المبدأ الاول هنا، بل ان حياة الفنان امتداد متناغم بين الطفولة والنضج الفني. وطفولة الفنان مستمرة وحاضرة بهذا الاشراق النضير وهذا الصفاء الذي يميز الالوان. وكان شورى يتذكر طفولته كلما اراد الحديث على فنه الحاضر: "مسقط رأسي - قال - في حي المهاجرين طلعة شورى، وهو ايضاً حي دمشقي عريق حيث كان هناك بعض البيوت، ولم تكن العمارات الكبيرة وجدت. كانت غرفتي الى جهة الشرق، والشمس منذ ان تشرق، تشرق على وجهي. ومن بيتي اعتدت ان انظر الى الافق. كانت دمشق مختلفة، وبيتنا يحيط به بحر اخضر من الصبار والريحان، وكانت المياه تجري بغزارة في السواقي ونحن صغار، ندخل البساتين، نتنزه ونمضي اوقاتنا فيها. تكونت عندي ملكة اللون منذ ذلك الحين". أخذ نصير شورى يستحضر تلك المشاهد في حنين ظاهر، وعلى ضوء هذا الحنين تتوهج ألوان لوحاته. فيها لمسات استشرافية ظاهرة، استعادة لجمال نقي كامل. استعادة لعالم لم يدنس، هو عالم البداية والاشياء بطفولتها المتجددة. على احد جدران المرسم - الصالون، علقت مجموعة من لوحاته القديمة. مناظر طبيعية وبورتريهات. امام الجدار نصب حامل اللوحات، في حالة تأهب مستمرة لاستقبال في الصالون في غاية البساطة. خزانة الالوان عادية جداً، وكذلك المقعد الصغير الذي يحمل علامات الزمن. لكن على بعد خطوات قليلة، تكتشف عيناك الخشب الدمشقي المطعم بالصدف، والزجاجيات والنحاس القديم. وبين المرسم ومكان استقبال الضيوف، منحوتات يونانية ورومانية كلاسيكية من الجبس. وعلى احد الصناديق رأس فولتير، الكاتب الفرنسي الشهير. وهذه جميعها اشياء استقرت في مكانها منذ عقود، اشياء لها زمانها ومكانتها في العمل اليومي، يُزال عنها الغبار باستمرار. وفي محترف الفنان اليوم ما زالت الاشياء على حالها، لا تكاد تشيخ، تنتمي الى طفولته وشبابه، وشابة ستبقى. ولن يُسمح لغبار الايام ان يغطيها. انها حاضرة مثل طفولته ومن لوازم الحنين وطقوسه. في نص خصه جان جينيه بالفنان جياكوميتي وعنوانه "مرسم جياكوميتي"، يتكلم الكاتب الفرنسي عن هذا الاخير وعن اعماله ومرسمه، وعن علاقته بالناس والاشياء. ويتكلم عن مرسم هذا الفنان الذي كان مشغولاً طول حياته بمسألة الحضور والغياب، مع ما يفترض ذلك من تناقضات معقدة يجب التغلب عليها في العمل. يذكر جينيه كيف ان جياكوميتي كان يقول "شيء جميل!... شيء جميل!" محدقاً، وعلى وجهه ترتسم ابتسامة لطيفة فيما كان يتحدث عن الغبار الذي يغطي زجاجات الزيوت المتراكمة فوق طاولة في المرسم. ويذكر ان جياكوميتي كان يحترم المادة، حتى انه كان يغضب اذا نظفت زوجته الغبار عن النوافذ، ولهذا كان مرسمه قاتماً جداً... عند نصير شورى نحن امام احترام للاشياء يختلف عن احترام جياكوميتي لأشياء مرسمه. في ذلك اليوم الدمشقي الحار، تكلم شورى عن مسيرته الفنية وقال انه مر بثلاث مراحل في حياته الفنية: المرحلة الاولى انطباعية. اما المرحلة الثانية التي بدأت منذ اواخر الستينات، فكانت مرحلة تجريدية. قال ان التجريد منحه "حرية التصرف وحرية التشكيل والتلوين". خلال تلك الحقبة لجأ الى مادة الاكريليك، بدلاً من الالوان الزيتية. "أحببت في الاكريليك الالوان التي لا تتغير". ودامت هذه المرحلة عشر سنوات. اما في المرحلة الثالثة، فقد "عاد الى اصله" كما قال. "رجعت الى الطبيعة. المرحلة التجريدية علمتني خصائص جديدة في اللون. وقد سميتها مرحلة الواقعية الجديدة. انطلق في مقدمة اللوحة من مساحات هندسية أنهيها بأشجار متفاوتة الابعاد. ما ازال مرتبطاً بالمنظر، لكنني اتصرف بحرية". وينهض شورى عن كرسيه، يأتي بمجموعة من اللوحات المائية. يقول: "عندما اسافر لزيارة اولادي، آخذ دائماً ألواناً مائية معي. عملت قليلاً جداً بالاكواريل. ورمسي بالاكواريل حتى اليوم ينتمي الى المرحلة الانطباعية القديمة. تنطبع المناظر في ذاكرتي، وأحياناً ارسم ما رأيته غيباً. حتى عندما اكون في الطائرة، انظر الى الارض المزروعة والمقسمة وأرسمها. وفي شمال الولايات حيث يمكث احد اولادي، اتذكر انني امضيت خريفاً كاملاً وتشربت ألوان الاشجار النارية". جلسنا طويلاً في مرسمه حيث كل شيء مدروس وموضوع في مكانه بعناية. وتحدث عن حبه للموسيقى الهادئة، وعن نفوره من الضجيج والصخب، وقال انه يفضل الرسم عندما تكون معدته فارغة، لأنه ان اكل وامتلأت معدته بطلت قدرته على الرسم. وراح شورى يتذكر اجمل اوقاته في التدريس، لا سيما عندما اعطى بعض دروس الرسم الى اطفال لا يتجاوزون السادسة، فكان هؤلاء تلامذته المفضلين. كان نصير شورى يتكلم، فتفيض ملامحه صفاء وبراءة. كان يغمض جفنيه نصف اغماضة ليحيل الاشياء الى الضوء. يغمض كي يتجلى الجوهر. يغمض كما لو انه ما زال ذلك الطفل الذي تشرق الشمس بوجهه ويحدق في الافق. مع نذير نبعة يحتل مرسم نذير نبعة غرفة في منزله، في الدور الاعلى من بناء أنيق من اربعة ادوار، بين حي ابو رمانة وحي الروضة، في شارع محاذ لنهر بردى، او "على كتف النهر" كما يقول أهل دمشق. البناء من العمارات القديمة الجميلة التي لم تستطع الابنية الجديدة ان تضاهيها. بناء ابيض: أبيض من الخارج، وأبيض من الداخل. من الشارع تدخل الى حديقة، ومن بعدها، تأخذ سلماً واسعاً يصعد بك الى الدور الاخير حيث يسكن الرسام. واذا كنت اركز على اناقة البناء فلأن هذا يدهشك اذ اصبحت هذه الاناقة نادرة الوجود في مباني دمشق الجديدة. عندما يهبط ليل دمشق الصيفي، يستقبل نذير نبعة ضيوفه على شرفته المطلة على جزء من المدينة. الجدران في الداخل تحتلها لوحاته، ولوحات شلبية زوجته، ولوحات الاصدقاء. دمشق في الخارج، ودمشق في الداخل ايضاً، في كل كرسي وديوان من الخشب المصدف، في الصناديق القديمة، في كل آنية من زجاج الأوبالين، في كل مصباح نحاسي... منزل نذير نبعة ليس منزلاً دمشقياً تقليدياً، مع انه يحتوي على جميع العناصر الدمشقية، التي اعيد تنظيمها وترتيبها وفقاً لرغبة الفنان وحساسيته. وفي هذا الاطار تشعر انك موجود داخل منمنمة، بسبب الاهمية المعطاة للتفاصيل الصغيرة والدقيقة. ولم استغرب وجود دميتين يابانيتين في هذا الاطار. ففي الثقافة اليابانية تحتل التفاصيل الدقيقة مكانة كبيرة، لا بل ترتقي الى مستوى الاشارة الفلسفية. لوحات نذير نبعة المعلقة على الجدران تعلن عن بداية مرحلة جديدة في رسمه. كانت المرحلة السابقة كما يقول محاولة لتجسيد مفهوم الجماليات الدمشقية غير الاكاديمية، كما انها كانت مرحلة جرد تاريخي لكل التفاصيل والمفاهيم والاحاسيس الجمالية العربية. وفي اعمال تلك المرحلة، كان للمرأة حضور دائم. ومنديلها الذي يحتل غالباً جزءاً كبيراً من اللوحة، انما هو الأرض، وعلى هذا المنديل بألوانه وثنياته بأضوائه وظلاله، عبر عالم كامل من الاشكال والرموز من الخطوط والتمائم والاشارات. يتميز مرسم نذير نبعة بالدقة. وهو عبارة عن غرفة صغيرة، جدرانها بيضاء، ويهيمن عليها الجو نفسه الموجود في البيت. لكن الاشياء تأخذ هنا طابعاً شخصياً، اكثر من الامكنة الاخرى في البيت. هنا وهناك، ترى صندوقاً صغيراً، مرآة مصدفة صغيرة على الجدار، مصباحاً قديماً... على احد الجدران خزانة صغيرة مقسمة الى مربعات صغيرة تحتوي على فاكهة مجففة، وأزهار، وألوان للرسم، وتحف صغيرة. يهيأ لك للحظة انك داخل بيت للدمى. تشعر ان الاشياء هنا اخذت مكانها من دون تخطيط مسبق. لكن ثمة علاقة بين محتويات المرسم جعلت منه لوحة اخرى من لوحات نذير نبعة. فهذا المرسم يعكس ميلاً للعمل المتقن الدقيق. نحن هنا امام فنان يختزن إرثاً حرفياً عرقياً. فهذا التقصي للأشياء، هذه الالفة مع الاشياء، هذه الاحاطة، هذه الاضاءة المتعددة المتكررة، هي مزيج من محبة للمكان، وسيطرة عليه. ومن هذا الازدواج، او هذا الصراع، ينطلق الفن عند نذير نبعة، وبين جاذبية هذين القطبين ترتسم مراحله. زوجته شلبية فنانة كبيرة معروفة ولها مكانتها الخاصة. تميزت بفن عفوي وحسية لونية عالية. وشخصيات لوحاتها انثوية، تقدم رؤيتها لعالم شاسع من الحضور الانثوي بسحره وعذاباته. ولا يمكن الكلام على نتاجها ومناخها الفني في سياق الكلام عن الفنان نذير نبعة. ولا بد لها من وقفة خاصة. نذير نبعة رجل اقرب الى الصمت. صمت من لا يخفي شيئاً. يترك الاشياء تتكلم. حبه للتفاصيل وحسيتها يذكر بكتابة مارسيل بروست. كل عنصر متميز عن الآخر، مفرد، وحيد. ولا تقوم علاقة بين الشيء والآخر الا بعد تأكيد هذا التفرد وهذه الوحدة. لكن حب التفاصيل لا يعني ان نذير نبعة ينحصر في اطار مادي ضيق، بل على العكس. الدخول في التفاصيل هو كمحاكاة المدى. ففي الحالتين الباب مفتوح امام اللانهاية. وفي الحالتين، يتطلب ذلك رحابة صدر وانفتاحاً وقدراً كبيراً من الحب. ونذير نبعة رجل متورط جسدياً في رسمه. راح نذير نبعة حتى النهاية في مرحلته السابقة. كانت رحلة طقوسية في الاشكال والألوان، وبعد نموها ونضجها، وبعد ان تقصى امكانياتها وتحققت له السيطرة عليها. انتقل الى مرحلة جديدة هي حب الارض ومداها الافقي، وذلك بأسلوب تجريدي. هذه الارض هي المرأة. وأسلوبياً، الارض مشغولة بطريقة شبيهة بالأسلوب الذي عالج به نذير نبعة المنديل في المرحلة السابقة. اي ان حركة اليد والريشة هي نفسها: هذا هو توقيع الفنان. فالمهم في النهاية ليس الموضوع، بقدر ما هو نوعية علاقة الفنان به وتعامله معه، ومن ثم حضور هذا الاخير وانعكاس هويته وشخصيته في اللوحة. مع فاتح المدرس مرسم فاتح المدرس ليس في بيته، بل هو بعيد جداً عنه. المرسم موجود في قبو. على مدخل المرسم، في الخارج، علقت على الجدران ملصقات لمعارض فاتح الشخصية او معارض اخرى اشترك فيها. وعلى الباب، مجموعة من الاوراق البيضاء، وضعت كي يكتب عليها من مر بالمرسم ولم يعثر على فاتح. واذا كان موجوداً في مرسمه، فالباب لا يغلق. تدخل المرسم كأنك تدخل كهفاً غريباً. في هذا المرسم الممتلئ باللوحات والكتب والطاولات الكبيرة والصغيرة، لا تكاد تجد ممراً للعبور. في كل ناحية، على الجدران، على المكتبات، ألصق الرسام اوراقاً كتب عليها افكاره ووقعها "فاتح": "المطر لا يهطل على الفقراء"، "في قلب كل انسان طيب قاتل محترف"، "الانسان اجمل من العقل"... والنوافذ في مرسم فاتح اشبه بالطاقات. نور النهار لا يدخل هذا المرسم، وقد سد النوافذ، وعوض عن ضوء النهار بنور المصابيح الكهربائية. بعد السلام، وقبل اي كلام، استأذن فاتح وقام يعد القهوة، واذا به يجب على الهاتف. يدق احدهم على باب المدخل المفتوح دائماً، يرد سيد المكان بصوت قوي "تفضل!"، فيدخل من هو بحاجة الى نصيحة او توصية. بعد عودة الهدوء وشرب القهوة والسؤال عن الاهل والاصدقاء، ينتقل الحديث الى الرسم. "لماذا الرسم والشعر طالما ان الحياة غنية؟ وجدت ان فاعلية العقل الانساني بإمكانها ان تغني حركتنا في الوجود. اذا اعتبرنا ان كل انسان نموذج في ذاته، فكيف نتعرف على الانسان بالمطلق؟ هنالك نماذج بالملايين، متشابهة مع فروق بسيطة جداً. لكن هنالك ايضاً نماذج بالملايين، متشابهة مع فروق بسيطة جداً. لكن هنالك ايضاً نماذج بشرية تمتلك شرارة مضيئة. لهذه الاضاءة في الخارج فعل السحر تماماً. او هي السحر الذي يضيء ما في داخلنا. تلك هي عظمتها". كل شيء هنا، فوق كل شيء. على تماثيل كلاسيكية من الجبس وضع فاتح المدرس قبعات. الكتب تحتل اغلب الجدران. على الطاولة امامي لا اجد مكاناً لوضع فنجان القهوة. لكن هذه الفوضى تبدو وكأنها مدروسة، او على الاقل ارادية. يتكون مرسم فاتح المدرس من غرفتين: الغرفة الاولى هي المرسم الحقيقي، حيث اللوحات وحاملات اللوحات والالوان والانوار القوية. هذه الغرفة الاولى التي تدخلها مباشرة من الباب الخارجي تختص بالرسم. وهي تفضي الى غرفة ثانية فيها بعض الكراسي الخيزرانية لاستقبال الزوار، وتحتوي على كم هال من الاشياء تستغرب كيف تمكنت من احتوائها! المكان اشبه بخزان اللاشعور، حيث تتراكم آثار الزمن الماضي. وربما كان هذا المرسم هو الاثر الوحيد الباقي من مرحلة فاتح السريالية، وهي اولى مراحله الفنية. والكتابة حاضرة في هذا المرسم. كتاباته المعلقة على الجدران اشبه بلافتات، لافتات للصدمة، للاعلان عن شاعر لم يتنازل عن الكتابة. لكن الكتابة هنا ديكور للرسم، اطار فكري، خلفية تتربع في صدر المكان. هنا يحضر الى الذهن ما قاله جان جينيه في وصف مرسم جياكوميتي: "موجود في الطابق الارضي، وقد ينهار بين لحظة واخرى. وهو مكون من الخشب المنخور المسوّس والبودرة الرمادية. التماثيل من الجبس، يظهر في طرف منها خيط الكتان او طرف حبل حديدي. اللوحات المرسومة بالرمادي فقدت منذ زمن بعيد الهدوء الذي كان يهيمن عليها عند بائع الالوان. كل شيء ملطخ، مهمل. كل شيء عابر وقد ينهار، كل شيء يميل نحو الذوبان والانحلال، كل شيء يطفو: لكن هذا كله يبدو كأنه مأسور في واقع مطلق. عندما اغادر المرسم الى الشارع، لا يعود يحيط بي اي شيء حقيقي. هل اقول ان في هذا المرسم رجلاً يموت ببطء، يستنفد قواه، وأمام اعيننا يتحول الى مجموعة من الآهات". فاتح يتكلم، كأنما يبث حديثاً للأجيال. كلامه ايضاً تعويض عن كتابة دفع بها بعيداً عن مقدمة اهتماماته: "أعتقد ان الذي يعمل في مجال الفنون الكلمة، الصورة، الصوت ينجز عملاً واحداً فقط طول حياته، له صيغة محددة، اي له شكل محدد فالصوت ايضاً شكل. الا ان هذا العمل الواحد، الذي ينجزه طول حياته، موزع على جملة أمكنة مثل عقد يربط عناصره خيط اسمه الزمن. اذا حذفنا عامل الزمن، لن يعود للطوق العقد وجود بل سيصبح عبارة عن حبات مبعثرة، فعناية الفنان الدقيقة بعاملي الزمان والمكان، يعطي خصوصيته لهذا القسم من العمل، في المكان المحدد، وفي الزمن المحدد. فاتح المدرس فنان كبير لكنه جاء الى الفن، كما يبدو جلياً، من موقع فكري وشعري، بقدر ما انطلق من علاقة حسية بالألوان. لا نقول هذا لأنه كتب الشعر منذ البداية، ثم القصة فيما بعد. اذ انه نشر قصائد تميزت بنكهة جديدة منذ اواسط الاربعينات. وعام 1958 تعرف بسارتر وترجم له ثلاث قصائد. لكن الازدواج عنده بين التصوير وبين الفكر والشعر لم يحسم بمرور السنين. لوحاته تحرض الفكر وتحتمل القراءة المسهبة مع انها لا تترجم الفكرة، والارجح انها تسبقها. وبمرور السنين تكونت لديه لغة لونية او شكلية، لغة خاصة به. لوحته ذات هوية لا تخطئها العين. القوام الطيني للألوان، ابيض الحوّار، تزاوج اللونين التقليديين في شمال سورية اي الاحمر والاسود، تجريدات اشكال تستحضر ثقافات قديمة، تتراوح بين الدمية والطفل والمحفورات التاريخية والشخصيات الشعبية... وكلها تنقل صمتاً دهرياً يختزن آلاماً موغلة في القدم. في هذه التجريدات يبحث عن المستمر المتواصل في اختلاف الازمنة. ينهض فاتح المدرس، ويتوجه الى مسجلة صغيرة يضع فيها شريطاً ويسمعني قطعة موسيقية ألفها، او بالاحرى ارتجلها على البيانو تحية لمدينة سورية، مع ذلك يواصل الكلام: "تحديد الهاجس يعني تحديد رؤية الغد، الزمن القادم. ورؤية الزمن القادم وحدها لا تكفي. يجب ان نحدد ايضاً رؤية المكان القادم. ورؤية المكان القادم من أشق الامور. الفنان يرفض المكان المتشابه. هل نستطيع ان نقول انه هو الذي يضع شروط الزمان او المكان المقبل بالنسبة لعمله؟ واذا حالفه الحدس، فهل يستطيع ان يحدد معالم المكان المقبل ليتملك رؤية الشرطين الضروريين لخصوصية العمل الفني؟ هذا هو الهاجس حقيقة. ان استهلاك الزمان والمكان من افدح الاحزان التي يعيشها الفنان. ان استمرارية التحرك في الحلبة نفسها امر منهك، اعني استمرارية البحث عن المكان الذي هو العمل الفني والزمن جزء منه. ربما ظن احدهم ان التفاعل مع هذين الشرطين اشارة لاستمرار الحياة لكن هنالك هواجس اخرى. المعركة بين الخير والشر في تحقيق عمل جمالي. قولي لي كيف نستطيع خلق عمل جمالي دون صراع بين الخير والشر؟ الصراع جميل. من اجل القيام بعمل جميل اذاً، يجب ان نحترق. بدون احتراق، لا تصلح الامور. اعني عملية احتراق حقيقية. احتراق فيزيولوجي محض. اعتقد ان الفنان، لو لم يكن كذلك، لأمكنه، ان يعيش مئتي سنة". انتهت القطعة الموسيقية التي ألفها فاتح. خرجنا معاً من المرسم الى مكان غريب، الى كهف آخر، يختصر وضع الفن في علاقته بالمؤسسات، ويولد الحزن في النفس: انه "مديرية الفنون الجميلة" في دمشق، حيث يصاب الزائر بالذهول: غرفة كبيرة تحتوي على مقتنيات وزارة الثقافة من لوحات الفنانين السوريين. أكداس وأكوام من الاعمال الفنية المرمية من دون اية عناية، يغطيها الغبار. تماثيل موضوعة كيفما اتفق، منها ما انكسر، ومنها ما لا يزال ينتظر دوره.