بدأت محاكمات نورمبيرغ سنة 1946 ودين فيها 22 مجرم حرب نازياً. ويبقى ان نعرف متى ستننهي. في حزيران يونيو 1991 جرت محاكمة "نورمبيرغية" في فرانكفورات, وكان المتهم جوزف شفامبرغر, من قادة الحرب النازيين. هذا الرجل اعتقل في الارجنتين سنة 1990 وأعيد الى المانيا حيث وجهت اليه تهمة قتل 43 يهودياً, والمساعدة في قتل 3,374 آخرين. وبعد محاكمة استمرت 11 شهراً دين شفامبرغر الشهر الماضي بقتل 25 يهودياً, وبالمساعدة في قتل 641 آخرين. وحكم عليه بالسجن مدى الحياة, مع امكان حصوله على عفو بعد 13 سنة من سجنه. غير ان الرجل في الثمانين, وهو مريض, مما يعني انه سيموت في السجن. وبدا ان المدعي العام ألفرد شترايم والقضاة الثلاثة الذين حكموا عليه كانوا واثقين من ذنبه. ونفى هو بشدة ان يكون قتل يهودياً او غير يهودي. وربما كان الرجل مذنباً, وربما كان بريئاً, فنحن لا نعرف غير ما يقوله الادعاء وما ينكره هو. الا اننا نعرف قضيتي جون ديميانيوك وأندريا ارتوكوفيتش, ولا نقول سوى انه من الصعب, ان لم يكن المستحيل, توقع محاكمة عادلة عن جرائم ارتكبت قبل نصف قرن. اعتقل ارتوكوفيتش, وهو وزير خارجية سابق لكرواتيا, في كالفيورنيا وأعيد الى يوغوسلافيا سنة 1986. وحوكم الرجل ودين بالقتل الجماعي وحكم عليه بالاعدام, الا انه توفي في السجن سنة 1988 قبل أن يعدم. ومنذ ذلك الحين وابنه رادوسلاف, وهو عميل بورصة في لوس انجليس, يجمع الادلة بما يكفي للتشكيك في صحة المحاكمة والحكم فلديه ما يؤكد وجود تزوير وتلاعب في الشهادات التي قدمت ضد ابيه. ولا بد ان اكثر القراء لا يزال يذكر ديميانيوك الذي اعتقل في اوهايو وارسل الى اسرائيل في السنة نفسها التي ارسل ارتوكوفيتش الى يوغوسلافيا. وكان ديميانيوك افضل حظاً فالادلة ضده ثبت التزوير فيها قبل ان ينفذ حكم الاعدام فيه, والقضية كلها قيد المراجعة الآن. وهناك حوالى 30 المانياً اميركياً اعتقلتهم السلطات الاميركية وأعادت اكثرهم الى بلدهم السابق للمحاكمة. كما ان كثيرين غيرهم اعتقلوا في مختلف انحاء العالم وأعيدوا للمحاكمة, ونعرف ان اسرائيل خطفت ادولف إيخمان من اميركا الجنوبية وحاكمته وحكمت عليه بالاعدام ونفذ الحكم. وإيخمان كان مذنباً بالتأكيد, ولكن كم عدد الابرياء بين المعتقلين الآخرين؟ في كل مرة يعتقل رجل بتهم نازية, نرى امامنا شيخاً كبيراً متهالكاً لا يكاد يستطيع المشي. وإذا جاء شهود له او عليه فهم في مثل سنه وضعفه. ولا نتصور ان مثل هؤلاء الناس لا يزالون يذكرون الى درجة قاطعة حوادث جرت قبل نصف قرن ومات اكثر الشهود الآخرين عليها. الألمان يقولون لتبرير خوفهم من اسرائيل واليهود الاميركيين ان العدالة مهما تأخرت ضرورية من اجل ذكرى الضحايا. وهو كلام جميل لو ان العدالة مضمونة في مثل هذه المحاكمات "النورمبيرغية" المستمرة بعد 46 سنة من محاكمات نورمبيرغ. ولعل الذين يدعون الى العدالة "المفتوحة" التي لا تنسى المجرمين او تغفر لهم مع مرور الوقت يتذكرون انهم آخر من يرمي الناس بحجر. وسابقة المحاكمات "النورمبيرغية" تعني ان يتمكن الفلسطينيون بعد سنة او عشر سنين او في سنة 2050 من ملاحقة الاسرائيليين الذين ارتكبوا مجازر بحقهم من دير ياسين الى الصقولة ومن كسر الايدي والارجل وقتل الناس في صحن الحرم القدسي الشريف. وبريطانيا التي تركت بصماتها الاستعمارية في كل زاوية من العالم، قد لا تتحمس كثيراً لمحاكمة رجال مسنين خرفين، اذا فكرت ان الهندي او الافريقي او القبرصي وغيرهم قد يطالبون بمحاكمة جنود الاستعمار والسياسيين الذين ارسلوهم. وربما قام الفيتناميون والكوريون غداً وهم يطالبون بمحاكمة الاميركيين المسؤولين عن احتلال بلادهم وتدميرها، وأكثرهم لا يزال حياً، وستجد فرنسا وهولندا وايطاليا شعوباً كثيرة تذكرها بما اقترفت أيديها. هذه السطور ليست دفاعاً عن اي مجرم، وانما هي مجرد ملاحظات على استمرار محاكم نورمبيرغ بعد نصف قرن على بدئها، واستحالة تحقيق العدالة بعد مضي هذه السنوات الطويلة على الحوادث موضوعها. وفي النهاية فالعدالة لا تستحق اسمها حتى تكون لجميع الناس.