من المُرجّح أن البشر لم تمرّْ بهم فترة امتحنت فيها أخلاقهم وإنسانيتهم وإباؤهم كما مرَّ ويمر به المجتمع الإنساني منذ عام، وقد تمتد هذه المحنة إلى شهور أو أعوام، ومن المؤكد أن هذه المحنة لا تتوزع بين الناس بالتساوي في درجتها ومقدار إيلامها وحدة وقعها وما يلحقهم من المساءلة عن فواجعها ومواجعها، إذ ليس الجار والقريب ومن تجمعه بمن تقع عليه الكوارث رابطة الدم ووحدة اللغة واتحاد الدين والتاريخ مثل من يفصل بينهم وبين المصابين انعدام أو ضعف الصِلات وانفراج المسافات وإن كان يجمع الكل رابطة الإنسان بأخيه الإنسان. ما يحدث في سورية منذ 12 شهراً سلسلة من الكوارث الدامية تزهق فيها الأنفس وييتم الأطفال وتُرمّل النساء ويُفجع الناس في فلذات أكبادهم أو في آبائهم وأمهاتهم، إن العشرات والمئات تُهدُّ عليهم منازلهم وهم في مضاجعهم ولا تكشف الأنقاض إلا عن جثث وأشلاء، والأسوأ حظاً من هؤلاء - إذا كان بين الشرور مفاضلة - هم عشرات الآلاف أسرى من يصنع هذه الكوارث ويُصِرُّ على صنيعه، يقبض عليهم ليذوقوا الموت المجزأ تعذيباً ينتهي بإزهاق روح المتعرض له، ما يتعرض له الناس في سورية اليوم مما يسميه كثير من الناس أزمة - غباءً يغبطون عليه أو تعمداً حجباً للحقيقة أو تهويناً لها - من بقية الأزمات التي يتعرض لها الناس في حياتهم المألوفة مثل أزمة الماء والغاز والكهرباء وارتفاع الأسعار. المشهد خطير يسقط كل ما يدعيه البشر لأنفسهم من نخوة وكرامة وانتصار لمظلوم ودفع لظالم، إنه مشهد فئة عادية لم تتردّد ولن تتردَّدَ في استئصال كل المطالبين بالانعتاق من أسار ذل ورق قهر ومذلة عبودية ظلوا تحت هذه الأرزاء مدة نصف قرن من الزمن يريد لها آسرها وقاهرُها أن تدوم، إن العالم يشاهد كل يوم مشاهد لا تهجع في ليل ولا تنقطع في نهار، فلا يتألم إلا في داخله ألماً تشعر به قلة منهم ولا تدمع لأكثرهم عين فدموعهم لا تعرف السفر، فضلاً عن أن تكون لديهم نخوة تقمع ظالماً وتنتصر لمظلوم، إن المصابين يطلقون نداءً لا يجد مجيباً واستغاثة لا تجد ناصراً واستنجاداًً لا يخفُّ له من ينجده. أسوأ ما يُردد ويقال وادعاه لإثارة اشمئزاز ما تردده وتلحَّ عليه فئات شريرة مستثمرِة أو فئات مستثمرَة أو مستأجرة، وهو أن زوال أو انهيار حكم طاغية مستبد أو قاتل لا يكف عن قتل تهديد لاستقرار ذلك البلد المنكوب بحاكمه وزعزعة لأمنه، بل قد يكون انهياراً لأمن المنطقة بأسرها، يردد ذلك سماسرة النظام القائم والمستفيدون من عهد الحاكم الظالم، ويُردد ذلك معهم بالتبعية أو بطبيعة القطيع فئة أو فئات أخرى من البشر، مع أنه لم يعرف التاريخ أن شعباً أسقط طاغية مستبداً، فتحول ذلك الشعب بعد سقوط الطاغية إلى وحوش يأكل بعضهم بعصاً ويفتك بعضهم ببعض، وإذا كان من المؤكد أنه يحدث لكثير من الثورات فورة، فإنها تكون فترة لا تطول فضلاً عن أن تدوم ثم يبقى بعد ذلك ما يأتي من باب:"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيبقى في الأرض"، حدث ذلك بعد كل ثورة على ظلم وإسقاط لظالم ثم تلا ذلك ألقُ صبح وإشراقة نهار جديد نعمت فيه هذه الشعوب بالحرية الدائمة والعدالة القائمة والحقوق المصانة، حدث ذلك في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وكل أو جل أجزاء أوروبا، كما حدث ويحدث في يومنا هذا عندما وقع التغيير في بلاد عربية، فلم يقتل بعضُ الناس بعضاً ولم يأكل بعضهم بعض، على أن هذه الأحداث تؤكد أن من النعم والمنن ما ينبت في مواقع المحن، ذلك أنه قلَّ أن يظهر للدول العربية موقف يتميزون به بين الدول مثل موقفهم من هذه المحنة ذات الجوهر الأخلاقي إذا استثنينا منهم دولاً قليلة لا يفسر موقفهم، إلا أنه من توفيق الله لهم إلى الخذلان، فالدول العربية - والمملكة العربية السعودية في مقدمهم - هي الأعلى صوتاً والأقوى دعوة لكبح الظالم ومناصرة المظلوم، ومتابعتهم السياسية في هذا الشأن عمل ينبغي أن يُذكرَ فيُشكر، على أن هذا العمل وحده مهما كان صوت أصحابه عالياً ودعوتهم صادقة لن ينجي نفوساً من الموت ولن يحمي مقتولاً عن قاتله، ومن ناحية أخرى فإنه من الخطأ والغفلة أن يُنتظر من الدول ذات القوة الفاعلة أن تتحرك خطوة في هذا الاتجاه، فكل جهد يبذل في هذا الاتجاه تجاهل للواقع أو التماس لعذر يعلق عليه الإخفاق، ذلك أن موقف هذه الدول موقف يسترون دافعه بظاهر من القول وهو أنهم لا يجيزون لأنفسهم التدخل في شأن داخلي في بلد لذلك وجدوا في موقف روسياوالصين - وهما الدولتان الحانيتان جداً على الإنسان الراعيتان لحقوقه وحريته ? العذر لتسويغ موقفهم واتخاذه غطاءً لدافع يخفونه ولا يفشونه ويعملون له ولا يتحدثون عنه وهو أنهم لا يودون وليس مما يسرهم سقوط النظام القائم في سورية إذ ليس ما يضمن أن من يخلفه سيقوم بحماية إسرائيل كما يحميها هذا النظام حتى من قذف حجارة وقد احتلت جزءاً من بلده وهذا كما هو واضح شرف ينفرد به لا يعرف أن أحداً سبقه إليه، والغرب يرى في بعد اليهود - أي بعضهم - عنهم مطلباً طالما عمل عليه وتاق إليه لما خبروه من طبيعة هذه الفئة من الناس لقد أجلوا من كل أو جل البلاد الأوروبية مرات عدة خلال القرون الماضية وأحرقت التوراة في ميادين المدن الأوروبية مرات عدة وإذا وجدوا في مدينة فإنهم يقيمون أو يلزمون بالإقامة في أحياء معزولة، والى القرن ال18 وأوائل القرن ال19 كان يوجد في الولاياتالمتحدة متاجر وأماكن أخرى يمنع فيها دخول الكلاب واليهود، وما حصل لهم في ألمانيا في عهد هتلر ليس مبتوت الصلة بهذا الموقف، ولعل رواية تاجر البندقية مرآة تعكس هذه الحالة، وهنا يجب القول إن هذا الأمر لا يجوز أن يُسحب على جميع اليهود وفيهم من دون شك من وهب وقار العقل وفضيلة العدل وجميل المسلك ولكنها فئة من الصهاينة الذين أجازوا لأنفسهم أن يفنوا أو يشردوا شعباً من أرضه توزع بين قتيل وشريد وطريد وما زال يعاني من هذه الحال إلى عهدنا الحاضر، وقد كانت المشكلة لدى الغرب ومنه أميركا أنه لم توجد في ذلك الوقت وما قبله أرض تؤويهم ووطن يحتويهم، وقد كان من سوء حظ الفلسطينيين والعرب عموماً بسبب ضعفهم ووجود شبهة حق اليهود فيها أن جعل الغرب يجد فلسطين مكاناً ملائماً للجلاء الأخير وهذا ما يجعل موقف الغرب من هذه القضية موقفاً غير قابل للتغيير لأنه مبني على حسابات واعتبارات يحرص عليها ويرعاها وليس من بينها بالضرورة دواعي الأخلاق، ومن غفوة العقل وخمود المدارك أن ينظر إلى هذا الموقف المتثائب الذي يقفه الغرب يقدم خطوة ويرجع خطوات سببه الورع السياسي والحرج من التدخل بالقوة في دولة أخرى. ما مر يبين بوضوح أن كل جهد يقوم به المسؤولون العرب أو سواهم لجعل الغرب هو المنقذ لآلاف البشر من سلسلة الموت ينطبق عليه قول الأول: المستجير بعمرٍ عند كربته كالمستجير من الرمضاءِ بالنارِ بعد كل ما تقدم ألا تستطيع الدول العربية - بجانب ما قامت به - أن تقوم بجهد أفعل وعمل أفضل وهو إمداد المدافعين عن حريتهم بالمال وبما يدفعونه عن أنفسهم ما يتعرضون له من إفناء وهدِّ منازلهم عليهم وهم في مضاجعهم وهنا يجب أن يقال لا يجوز أن يعتذر عن ذلك بإغلاق الحدود وثقل القيود، فالممنوعات حتى التي عقوبتها الإعدام تصل إلى البلاد المانعة لها فلم تختف من بلد يوماً أو أيام ولم تنقطع عنها شهراً أو عام، وقدرة الدول أكبر من قدرة الأفراد ووسائلها أوسع وأنجع لو أرادت الإمداد، كما يجب أن يكون لها موقف حازم تجاه الدول التي وقفت في جانب القاتل تغريه بالقتل وتعينه عليه مثل الصينوروسيا، ومن المعلوم أن بين الدول العربية وهاتين الدولتين علاقات تجارية كبرى فهي تستورد من الدولتين بمئات البلايين في كل عام، والعمل على إيقاف هذا التعامل أو تقليله من أفعل الوسائل الناجعة لكي تراجع هذه الدول مواقفها، ولا ينتظر أن تتزحزح واحدة عن موقفها خطوة بتأثير المواعظ أو المناشدات. مما هو في دائرة اليقين معرفة أن كلاً من الفريقين سواء القاتل أو المقتول قد وصلا إلى نقطة اللارجوع، ذلك أن تراجع أو خضوع أو استسلام فريق من أي الطرفين يعني إسلام نفسه لمصير وبيل، ويبقى مع ذلك فارق كبير واحد هو أن النظام وعصابة القتل معه يملكون الوسائل الفاعلة والمستعملة من مال أو سلاح لإنفاذ غرض أصحابها على أن الطرف الآخر لا يملك ما يوازي ما عند خصمه بأي مقياس من الموازاة، لذلك فإن أي جهد يبذل أو عمل يعمل في ما يسمى الحوار والمصالحة ليس إلا جهداً مهدوراً يعرف حتى المنادون به أنه لا يراد منه سوى إعطاء القاتل أمداً أطول لحصد أرواح المزيد من شعبه والإجهاز على المزيد من المقاومين له، إذ هو ينطلق من قاعدة"أما أحكمكم أو أقتلكم"كما قال في إحدى مقالاته الأخ الصديق تركي الدخيل. * أكاديمي سعودي. محتجون على نظام الأسد خرجوا للتظاهر على رغم هطول الثلوج في دمشق. رويترز