تصاب بالحيرة وأنت تمسك ب"الريموت كنترول"حينما تقلب في القنوات الفضائية بين ما معظمه غثّ، وآخر ممل، وكثير منهم يبث برامج لا علاقة لها بفنون الإعلام وضوابطه، وقنوات أخرى تعزز مفهوم القبلية والعنصرية، وقنوات تلفزيونية تدعو إلى الطائفية وشتم الأديان والصحابة، وتحتار ماذا تشاهد، وربما خلال أسبوع تصاب بتشنج وبعاهة إذا بقيت متسمراً أمام هذه القنوات التي تهبط من السماء دون ضوابط ولا قيود. قبل أسبوع نشرت وكالات الأنباء خبراً، أخذه الكثيرون بسخرية وتندر، بينما الواقع يكشف مدى حرص الكثير من المجتمعات على عدم تلوث شعوبها ببعض الأفكار والمفاهيم الخاطئة، التي قد تؤثر في مسيرة التنمية في البلاد. يقول الخبر: إن الهيئة المسؤولة عن التنظيم الإعلامي في الهند أوردت قائمة ب24 قناة تلفزيونية من ضمنها القناة السعودية، على أن بثّ هذه القنوات غير ملائم، كونها تحوي ما يتعارض مع المتطلبات الأمنية، وتضمنت قائمة الحظر إضافة إلى القناة السعودية 14 قناة باكستانية تبث من باكستان، وأخرى تبث من دبي، إضافة إلى قناة نيبالية وقناة بنغلاديشية. ونقلت صحف هندية محلية أن هيئة تنظيم الإعلام تعتزم وضع قوانين صارمة على شركات"الكيبل"المحلية، تحظر فيها بثّ القنوات التي وردت بالقائمة، ولم تكتفِ هيئة التنظيم الإعلامي بالحظر فقط، بل إن البرلمان الهندي يتوقع أن يعتمد إقرار العقوبات على شركات"الكيبل"المخالفة لقرار منع القنوات الفضائية، وتتضمن العقوبات خمسة أعوام سجناً، وغرامة مالية تصل إلى 300 ألف روبية كحدٍّ أقصى على شركات"الكيبل"، وقد تم تحذير شركات"الكيبل"من مخالفة الأمر بأنه في المخالفة الأولى سيكون السجن مدة عامين وغرامة مالية تصل إلى 200 ألف روبية 3 آلاف دولار، وفي تكرار المخالفة سيطبق على الجهة المخالفة بالسجن 5 أعوام، وغرامة مالية تصل إلى 300 ألف روبية، أي خمسة آلاف دولار. ربما واجه المسؤولون في القناة السعودية الأولى باستهجان شديد وامتعاض، هذا القرار من هيئة تنظيم الإعلام الهندية، خصوصاً أن القنوات السعودية ليس فيها مثل ما تزعم الهيئة، إنما هي خطوات تنظيمية، وأيضا بما لا يسبب قلقاً على المجتمع الهندي، ويؤثر في عقليات المشاهدين. من وجهة نظري، هذه الإجراءات سليمة وتقنن عمل القنوات الفضائية، ولا تدعها مرتعاً للفضاء وكل من هبّ ودبّ، ليعمل في مجال الإعلام. لن أتحدث عن فوضى القنوات الفضائية في عالمنا العربي، فقد أصبح لكل شارع وحي قناة، وإذا اجتمع مجموعة من أصحاب المال أسسوا قنوات فضائية، وأصبح إنشاء قناة تلفزيونية أسهل بكثير من افتتاح متجر، وشركات الإنتاج لديها من البرامج ما يسمح بأن تدير قناة فضائية وأنت جالس في منزلك، لا تحتاج إلى فريق عمل ضخم. قناة للرقية وأخرى للعلاج من السحر، وقنوات لتفسير الأحلام، ألوان من القنوات الفضائية، قد يقول البعض إنك لست مجبراً على مشاهدة قنوات هابطة، أو لا تريد مشاهدة برامجها، وتستطيع أن تغير إلى قنوات أخرى، وهذا غير صحيح، فلابد من ضوابط وتنظيم ليس لهذه القنوات، بل من حيث المشاهدات، ولا يمكن أن يبقى الفضاء مفتوحاً هكذا بعشوائية، مثلما اتخذت العديد من الدول إجراءات وتنظيمات بهدف حماية مشاهديها ومجتمعها من أفكار مضللة، أو برامج لا ترتقي بالفكر. من المهم جداً أن تتحرك جهات أمنية ومؤسسات فكرية، أو تتشكل هيئة لتنظيم القنوات لتضع معايير للقنوات الفضائية التي يجب أن يشاهدها السعوديون، وأنا لا أدعو إلى تقييد حرية الإعلام، وإنما إلى تنظيم وتقنين العمل الإعلامي التلفزيوني، جميعنا يعلم أن مايقارب 50 في المئة من القنوات الفضائية يملكها سعوديون، وهي موجودة في الخارج، وتم خلال الأعوام العشرة الأخيرة ضخ ما يقارب 5 بلايين دولار على إنشاء هذه القنوات، وما يقارب 800 قناة تلفزيونية، وإن بحثت في مضمون هذه القنوات فهي لم تقدم للمشاهد سوى التلوث البصري والسمعي، وإفساد الذوق والأخلاق، ولا تستطيع الجهات الرسمية منعها أو إيقافها لكونها لا تملك صلاحيات رسمية لوقف هذه البرامج أو القنوات، وأحياناً هناك مؤثرات تلعب دوراً في تأجيج المجتمعات والشعوب، وتحريك مياه راكدة، واستغلال سوء التنظيم التلفزيوني، إلا أننا قادرون على ضبط ما يبث إذا ما وجد تنظيم رسمي يسمح بتقديم الخدمة من خلال"الكيبل"والاشتراكات، وبهذا يمكن تقنين القنوات وأيضا إجبارها على تحسين مستوى الخدمة، كما يساعد على إيجاد قنوات فضائية ذات قيمة فكرية واجتماعية وإنسانية. قبل سنوات عدة، طرحت فكرة"الكيبل"التلفزيوني في السعودية، إلا أن المشروع أوقف أمام مدّ تجار الأطباق الفضائية و"الرسيفرات"، وعمّت عمائرنا وأحياءنا وشرفات المنازل وأسطحها، واحتلت مساحات كبيرة، وشوهت المنظر العام، ولم يبتَ في المشروع، وهجم علينا أصحاب رؤوس أموال الغفلة بقنوات هشة وضعيفة. لم نر قنوات سعودية تجارية تحمل مضموناً ورؤية وهدفاً إلا القليل، من يصدق أن لدينا في السعودية أكثر من 30 مليون طبق لاقط! في ظني أن تنظيم بثّ القنوات الفضائية للسعوديين أمر ضروري، وأيضاً يسهم في تصحيح الكثير من هذه القنوات لمسارها، وتجويد برامجها، وتسخيرها لفائدة المجتمع، وأيضاً سيدفع بالقنوات الضعيفة إلى الخروج من السوق، ويجب ألا يكون مشروع"الكيبل"محتكراً لشركة واحدة، كما هي العادة لدى المؤسسات الحكومية حين تعطيها لشركة واحدة، بل يجب أن يكون العمل مفتوحاً للعديد من الشركات لتقديم خدمات البث التلفزيوني، ونظرية أن القنوات المفتوحة ونسبة المشاهدة العالمية تساعد في جلب المعلنين، ليست صحيحة على الإطلاق، فهناك الكثير من القنوات المشفرة تحقق عوائد مرتفعة، فضلاً عن أننا في عصر الإعلام المتطور، الذي يتطلب منّا وضع أنظمة وقوانين وتشريعات للحد من تشويه نظر المشاهد، ويرفع من مستوى جودة البرامج. صحيح أن هذه القنوات جميعها موجودة في الخارج، وموجهة إلى المشاهد السعودي بالدرجة الأولى، إنما نستطيع أن نتحكم في جودتها واختيار ما يناسب مجتمعنا ويحمي عقولنا، ووقتها سنرى من سيصمد، ومن سيغادر ساحة الإعلام. *إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected]