لم يعد أي جزء من الجسد أو العري المتعلق به يتعالى على الرواية، أو يستعصي على الحكاية، لأننا نعيش في زمن"ذاكرة الجسد"و"فوضى الجسم"و"فضيحة الحواس"و"فخ الجسد"و"أولمبياد الجسد"، بل وبل و"لغة الجسد"...! ثم جاء السرطان ? أعاذنا الله وإياكم منه ? واستولى على جزء من الجسد وأصبحنا أمام كارثة"سرطان الثدي".. وما نحن هنا بصدده ليس الصدر، بل ما يستر هذا الصدر ويحمله ،أعني ما يسمى"السنتيانة"، ولعل هذه القطعة أثارت إشكالات لغوية قبل أن تثير إشكالات فقهية، فهي اسم فرنسي أعجمي، لذا ترجمتها المجامع اللغوية بترجمات مختلفة، فهذا المجمع سمّاها"الصدرية"وذاك سمّاها"المِنهدة"وثالث سمّاها"الحمّالة"، وبالطبع حمّالة الصدر لا حمّالة الحطب، كما هي سيرة زوجة أبي لهب..!! أما الإشكال الفقهي الذي صاحب الصدرية، فقد أثاره أحد أعضاء هيئة كبار العلماء المعتبرين عندما سُأل أحدهم السؤال التالي: ما حكم لبس الستيان في ثدي المرأة؟ فكان جوابه:"تعتاد بعض النساء رفع الثدي أو شدّه بخرقة حتى يرتفع، لتُوهم أنّها شابّة أو بِكر أو نحو ذلك، فهو لهذا القصد غشُّ محرّم ،فإن كان لإزالة ضرر أو ألم أو نحوه جاز ذلك بقدر الحاجة". والطب الحديث يتناسق مع النظرة الفقهية، فقد أثبتت الدراسات العلمية التي أجراها المتخصصون أن نسبة الإصابة بسرطان الثدي تزداد كلما ارتدت المرأة مشد الصدر"السنتيانة"لفترات أطول، إذ إن الضغط على الثدي يؤدي إلى منع المواد الموهنة السامة من الخروج من الجسم، ومع الوقت تتكون أورام غير حميدة، مما يعني وجود علاقة وثيقة بين أسلوب ارتداء"السنتيانة"، وبين الإصابة بسرطان الثدي، وخصوصاً إذا ماتوافرت عوامل أخرى مساعدة كالاستعداد الجسماني. أما في الثقافة فإن أول حضور ثقافي لهذا الجزء الخاص من الجسد مارواه الشاعر نزار قباني إذ قال:"أعدَّ الناقد الكبير أنور المعدّاوي دراسة عن ديواني"طفولة نهد"، وأرسلها إلى أحمد حسن الزيّات صاحب مجلة"الرسالة"، ونظراً لأن المجلة لها خط محافظ، وتجامل المحافظين، تصالح الزيات والمعدّاوي على نشر الدراسة بعنوان"طفولة نهر"، ثم علق نزار على ذلك بقوله:"لقد أرضى المعدّاوي والزيات القراء، ولكنهما ذبحا ديواني من"الوريد إلى الوريد". وأول حضور تجاري للصدريات، ومارواه لنا أبو سفيان العاصي من أن تجّاراً من اليهود باعوا لجماعة من القصمان صدريات"سنتيانات"غير أصلية الواحدة ب15 ريالاً، وفرحوا لأنهم"غرروا بهم وضحكوا عليهم"، فما كان من القصمان إلا أن قصّوا هذه الصدريات، وفَصَلوها عن بعضها على اعتبار أنها"طاقية نفرين"وباعوها على اليهود مرة أخرى ب20 ريالاً للطاقية الواحدة التي تعتلي روؤس بعض اليهود..!! وإذا قدّر لك أيها القارئ أن تزور بيروت أو لندن أو أية مدينة مفتوحة، فستجد عيادات وأدوية كثيرة مخصصة، إما لتكبير الصدر أو تصغيره..!! كما أن هذه الصدرية لها محال خاصة بحيث تجد كل المحل خُصص لبيع هذه السلعة بكل أحجامها وأنواعها وألوانها، إنه مكان تخصص في عرض هذا المنتج، ولم نسمع بأن مكتبة قد خصصت لأي كتاب أدبي أو شعري، حتى لو كان كتاباً لشاعرهم"أبو الطيب المتنبي"الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. ومع ذلك تأتي الصدرية، وهي قطعة قماش صغيرة ، وتستأثر بالمحلات والمجلات في حين أن المتنبي وهو أعظم الشعراء رهين المكتبات والمجلدات..! يا قوم ألم يحن الوقت الذي نعيد فيه النظر للهامش والمنسي والمسكوت عنه..؟