عبدالله الغذامي مفكر مقاتل Intellectualfighter، وربما يرى أنه يجب أن يظل مقاتلاً حتى الرمق الأخير، لأنه كما يقول على ثغرة من ثغور المعرفة والثقافة، فهو يذب عنها، حتى لا تؤتى من قبله. قاد معارك شتى على أكثر من جبهة، ويقول إنه سيظل شاهراً قلمه في وجه التخلف والجهل. يرى الغذامي أن التحوّل سنة المثقف الحقيقي الوفي لقناعاته المنسجم مع انتمائه، مباهياً بالقول إن كل حياته نقاط تحول. رفع لواء الحداثة أكثر من عقدين فوصفه"إسلاميون"بالمروق، وانتقل إلى نقد الحداثة، فانتفض أنصارها، ثم هاجم الليبرالية فرماه أهلها عن قوس واحدة في ما يشبه الحملة المنسقة orchestratedcampaign. ناقش قضايا جدلية وشائكة في الفكر العربي من قراءة الشفرات الدلالية، وتشريح النص في"الخطيئة والتكفير"، إلى الحديث عما يسميه"نسق الثقافة الفحولية"المضمرة في التراث، وهيمنة الرجل على اللغة، وحاجة المرأة إلى كسر الاحتكار الذكوري، وانتزاع لغة أنثوية من داخل اللغة، إلى نقد"الثقافة التلفزيونية"، حيث النخبة تتراجع دراماتيكياً برمزيتها ووصايتها أمام طغيان ثقافة الصورة، وبروز ثقافة الناس العاديين أو المهمشين، وصولاً إلى"القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة"، وسعي جماهير واسعة على مستوى الكون، إثر فشل الوعود الكبرى للحداثة والليبرالية، إلى تحصين ذاتها عبر البحث عن الجذور، والالتصاق بالأساطير، والتماهي مع مشاعر وولاءات قبلية ومذهبية وعرقية. يقول الغذامي إن ميدانه الرحب هو التفكير الحر، و"الثغرة"التي يقاتل منها هي نقد الأنساق الثقافية، ويعلن في هذا اللقاء عن كتاب جديد في هذا السياق. نحاور الدكتور الغذامي هنا عن قضايا عدة تتعلق بموقفه من"الليبرالية"التي نعتها"بالموشومة"في محاضرته في جامعة الملك سعود قبل أكثر من شهر وتحديداً 13 كانون الأول ديسمبر 2010، ونستعرض معه بعض ملامح تلك المحاضرة وأصدائها. تنشر"الحياة"هذه المقابلة التي أجراها في الرياض رئيس تحرير مجلة"السعوديون"الزميل أحمد بن راشد بن سعيد. الليبرالية مصطلح ملتبس أو مراوغ يصعب تحديد كنهه، ما هو مفهومك لليبرالية؟ - الالتباس أو المراوغة صفة أي مصطلح في الوجود. ولا نملك إزاء مراوغة المصطلح غير أن نستقرئ دلالته عبر أدبياته الخاصة وسلوك المنتمين إليه. هذا ما يسمى في"النقد الثقافي"بنقد الأنساق. إننا أمام مستويين، أحدهما يعرف بالمستوى الواعي، وهو مستوى عقلاني والآخر: المضمر، وهو مستوى يكشف العلاقة بين المفهوم وتصور الذات لهذا المفهوم. غالباً ما تكون المفاهيم مثالية ومتعالية، لكن تمثلنا لها يصبح موضع السؤال. هل يمكن التوضيح بمثال؟ - خذ مثالاً سريعاً عن شعارين اثنين، أحدهما:"الإسلام هو الحل"، والثاني:"الليبرالية هي الحل". ينقلنا هذان الشعاران من التصور المعرفي الأولي إلى سؤال عن المشروع المقترح لي بصفتي مستفيداً من هذا الوعد. ما هو الحل السياسي الذي ستقدمه لي، وصار وعدك سياسياً، أي تداولي ونفعي وواقعي يمس حياتي مباشرة، السؤال ليس عن الفكرة بوصفها فكرة، بل عن الوعد المطلق المتصل بهذا العنوان. هناك من يقول إن الليبرالية فلسفة ذات مطلقات أو كليات تتجاوز الاختلافات، وهناك من يراها مجرد رؤية وظيفية اهتدت إليها أوروبا بعد حروب طاحنة طويلة الأمد، من أجل إدارة عقلانية لتناقضات المجتمع... إلى أي المدرستين تنحاز؟ - الأصل في الليبرالية أنها فلسفة، فلسفة عمل على مستوى البحث الفكري، ولكنها تحولت منذ القرن ال18 إلى مسمى الأحزاب، وحملت هذه الأحزاب برامج انتخابية، سياسية واقتصادية، ووعوداً كبرى لشعوبها، وهنا كانت لحظة الامتحان. إننا وبسبب تراكمات متوارثة عبر ثلاثة قرون أمام مصطلح"موشوم"لا يزال يحمل في ثناياه بعده الفلسفي، لكنه يحمل في الوقت نفسه شحنات من الممارسات التطبيقية، تنعكس عليه سلباً أو إيجاباً. انظر مثلاً إلى حزب"الحرية"في هولندا الذي ظهر في عام 2006، إنه حزب يحمل هذا المعنى السامي للحرية، لكن برنامجه برنامج إقصائي رافض للآخرين بكل ألوانهم وثقافاتهم ودياناتهم، ما يعني أن الحرية هنا هي للذات من دون الآخر الذي سيجد المبرر لرفض تلك الذات المدعية. مرة أخرى نعود إلى منطقة اللا حرية واللا ليبرالية، وينتكس المصطلح السياسي على أصله الفلسفي، ويحصل التعارض النسقي بين المستوى العقلاني الواعي والمستوى السلوكي الذي يضمر التوحش الأصلي للإنسان. لم تقل إلى أي المدرستين تنحاز... إلى الليبرالية بوصفها فلسفة أخلاقية، أم بوصفها رؤية لإدارة الدولة وتنظيم المجتمع؟ - ليس من شأن الباحث أن ينحاز. إذا انحاز الباحث سقطت صفته البحثية، وصار سياسياً يتخذ موقفاً، لا مفكراً حراً. إذا كنت غير منحاز، أي محايد، فكيف تكون مثقفاً فاعلاً صاحب موقف؟ - يجب أن نفرق بين السياسي والواعظ والمصلح الاجتماعي من جهة، وبين المفكر الحر من جهة أخرى. الثلاثة الأولون يشترط فيهم أن يقدموا رؤى إصلاحية أو إنقاذية، وإذا سقطت رؤاهم سقطوا معها. أما المفكر الحر فشأنه شأن الفيلسوف الذي يمارس قراءة الخطابات ونقدها والذهاب فيها إلى أقصى مدى ممكن. إنه لا يضع سؤال الإمكان الواقعي، بل يذهب إلى أعلى درجات المبالغة، لأنه في هذه الحال يعرض الرأي ولا يفرضه. تلك نقطة في غاية الأهمية. إنك إذا قدمت مشروعاً إصلاحياً أو تغييرياً تصبح من ناحية أخلاقية وعملية مسؤولاً عنه، ولذا يتعين عليك مراعاة الشروط التداولية مثل إمكان تحقق المشروع. أما ما يتعلق بالفكر الحر، فإنك تطرح الرأي على أساس قابليته للرفض أكثر من قابليته للاعتناق والتسليم، وللناس حق الأخذ والرد حوله. وفي هذه الحال لا يسقط الباحث مع سقوط فكرته، لأنه صانع أفكار لا صانع سياسات. لماذا تنظر شرائح واسعة من المجتمعات العربية والإسلامية إلى الليبرالية بكثير من التوجس؟ هل لذلك علاقة بانسجامها أو تماهيها مع الإمبريالية؟ - سؤال رائع يطرح معضلة"التوجس". الناس لا تتوجس إلا من شيء علقت عليه آمالها، واستأمنته على مصيرها، ثم انتابها منه قلق ما. لننظر إلى التظاهرات الأخيرة للطلاب في لندن احتجاجاً على إخلال الحزب الليبرالي الديموقراطي بكل وعوده، وتبنيه أجندة المحافظين. هذا الذي يصنع التوجس. الناس تنفر من الخداع وتخشى الوعود الكاذبة، اذ رأت بعيونها إخفاقات شتى تحت لافتات الليبرالية والحرية والثورة. إنه تاريخ سيكولوجي في منتهى الخطورة، وهو ما يجعلني أكرر أن الليبرالية موشومة، موشومة لأن تاريخها السياسي يطاردها بهذه القصص. مأزق حزب الحرية في هولندا، وانتكاسة الليبراليين في بريطانيا مثالان حاضران ناطقان. أما التوجس العربي والإسلامي فهو مرتبط بالوقائع ذاتها. المستعمر ما زال في حال صراع حضارات معنا، وتجربتنا التاريخية معه تحفل بالألم والمعاناة، الاحتلال الإسرائيلي، استغلال الثروات، الحرب الثقافية، والإسلاموفوبيا... معجم سياسي تشتبك فيه الليبرالية والإمبريالية معاً، ما يلقي بظلال من الشك والتوجس على المصطلح، ويسهم في تشويهه. يجب أن نأخذ مسألة"التوجس"مأخذ الجد،، لأننا نتعامل مع حال سيكولوجية ثقافية مفرطة الحساسية وعميقة التأثير. إذاً الليبرالية متوحشة لا موشومة فقط؟ - لا أقول بالتوحش بل بالوشم، بمعنى أنها متلبِّسة بمنظومة من الظروف والإحالات النفسية والعملية التي تفضي إلى تحميل معناها وزر تاريخها. في محاضرتك بجامعة الملك سعود شددت على هذا التعبير، واصماً الليبرالية على مستوى الكون بأنها"موشومة"، لكنك عندما تحدثت عن الليبرالية في السعودية قلت إنها غير موجودة أصلاً... قلت إنها موجودة وغير موجودة في آن كيف؟ - موجودة بحسب الادعاء، وغير موجودة بحسب المنجز. دعني أختصر لك تفصيل ذلك. سأطرح أربعة مفاهيم: الليبرالية الفلسفية، والليبرالية الاقتصادية، والليبرالية السياسية، والليبرالية الصحافية. اثنان من هذه المفاهيم موجودان، واثنان غير موجودين. في البدء لا توجد لدينا ليبرالية فلسفية ولا ليبرالية سياسية. الليبرالية الاقتصادية موجودة منذ 60 عاماً، الاقتصاد قائم عندنا على المفهوم الليبرالي، من حيث الفردانية والتنافسية، ومن حيث حرية حركة رأس المال، ومن حيث الترخص في استخدام الفتوى، فلم يطرح سؤال الربا بشكل يوقف العمليات البنكية القائمة على الفائدة. أما الليبرالية الصحافية فهو مصطلح ابتكرته لوصف الحال الثقافية المحلية، لدينا هنا ثقافة مقالات وأعمدة صحافية وإنترنتية يميل بعض كتابها إلى الانضواء تحت مسمى"الليبرالية"، وهذه في نظري لا تقف بإزاء الليبرالية الفلسفية والسياسية، وتقل عنهما بكثير. إذاً هناك ليبرالية صحافية في نظرك؟ - بالطبع لا. إنما حاولت أن أتعامل مع القضية بقدر كبير من الموضوعية والحياد، لأفسح المجال للنقاش. أنا افترض افتراضاً منهجياً أن أمامي شيئاً اسمه"ليبرالية صحافية"، لأتمكن من إجراء بحثي بناء عليه، ومن ثم أقوم بفحص الخطاب وتشريحه. إنه افتراض منهجي لا تقرير لواقع. هذا النقد العنيف لليبرالية هل هو محاولة لإصلاح البيت الليبرالي من الداخل؟ هل هي انتفاضة ليبرالي من أجل إعادة بناء ليبرالية غير موشومة؟ هل تصفها"بالموشومة"لأنك غير راضٍ عن ممارساتها فقط، أم أنك تقف ضد جوهر النظرية ذاتها؟ - أنا أنتمي إلى"النقد الثقافي"الذي يتجه إلى قراءة الخطاب وتشريح السمات الثقافية، لذا أقرأ الليبرالية كما أقرأ"الوسطية"مثلاً، وكما أقرأ"الشعرنة"، و"نسق الفحولة"، وكلها عناوين لخطابات ثقافية حية وواقعية، ولا بد لكل من يرى نفسه ناقداً ثقافياً أن يقف عليها. هذا أمر ينتمي إلى النشاط البحثي والفكري، وليس إلى مشروع إصلاح الخطابات. أنت بوصفك فرداً لن تصلح الكون، ولكنك في البدء تستطيع رؤية عيوبك الذاتية - وتلك أرقى درجات النقد - ثم رؤية عيوب الخطاب المحيط بك الذي أنت جزء منه. وإذا قررت صرف النظر عن النقد مشيت في طريقك بعين عمياء لا مبصرة. إن نقدي هنا هو للمتداول الثقافي عندنا كالوسطية والليبرالية. أنت لا تقول عن نفسك إنك ليبرالي؟ - أجل. أنا لا أقول إنني ليبرالي. ولكن ما معنى ذلك؟ معناها نفي الليبرالية السياسية فلست سياسياً، والليبرالية الاقتصادية فلست مدير بنك، والليبرالية الصحافية فلست صحافياً أو كاتب عمود، ولكن إن سألت عن الليبرالية الفلسفية، فأنا أعيش بالطبع في ذلك الحقل. الليبرالية من حيث كونها أيديولوجية قائمة على الحرية والتحرر، هل تجتمع مع الإقصاء في فراش واحد؟ لقد أشرت في محاضرتك بجامعة الملك سعود إلى أن هناك وجهاً إقصائياً متطرفاً لليبرالية... اشرح هذه النقطة؟ - فكرة الليبرالية غير قادرة على الحياد الموضوعي، وتصطدم بممارسة عالمية على مدى ثلاثة قرون، وأخرى عربية على مدى قرن كامل، وثالثة سلوكية نلمسها في صحافتنا تضيق صدور معتنقيها بالنقد، ولا يتسامحون مع المخالف والمختلف، ويسيئون فهم مصطلح الحرية مثلما يسيئون استخدامه، ويعلنون بوضوح أنهم"ضد"... وهذه"الضد"تشمل أطيافاً واسعة في المجتمع، أبرزها"الإسلاميون"، وفي المقابل يُواجهون بإقصاء مماثل من الإسلاميين، مشهد كله يوحي بأننا لا نقدم ثقافة مختلفة نوعاً. لقد مارس الليبراليون الإقصاء بدلاً من أن يحاولوا شفاء الثقافة منه، فلم يعودوا يمثلون وعداً بالتغيير، وظلوا جزءاً من الإشكال النسقي القائم. لليبرالية رافعتان: اقتصادية، وهي السوق الحرة، وسياسية وهي الديموقراطية. معظم المجتمعات العربية تبنت اقتصاد السوق، لكن ما زالت الديموقراطية، لاسيما الانتخابات بوصفها آلية للديموقراطية، شبه مغيبة عن هذه المجتمعات... هل أخذت هذه القضية حقها في الخطاب الليبرالي؟ - سأضرب لك مثلاً محلياً هو إلغاء انتخابات الأندية الأدبية من وزير، وتواطؤ كامل من الوسط الثقافي ضد ثقافة الانتخاب والاختيار الذي هو حق بشري أولي. كان هذا امتحاناً لدعاوى الليبرالية والثقافة والإصلاح عندنا. ولا يصح أن نقول إن هذا مثال نشاز، وإنه لا يهم الصحافة، ولو قلنا ذلك فلا شك أننا نمارس تغييب الوعي، وهو ما سميته في كتابي"النقد الثقافي"ب"العمى الثقافي". ربما يقال إنك انتقيت فقط ما يؤيد حجتك... أنت أوردت مثال الانتخابات في محاضرتك جنباً إلى جنب مع مثال حول موقف ثلاثة ليبراليين من المرأة... أليس في هذا انتقاءً؟ - يكون انتقاءً لو كان أمامنا خمسون أو مائة قضية، فأهملناها واتجهنا إلى واحدة أو اثنتين منها، ولكن ماذا أفعل لقوم لا أرى منجزات أنسبها إليهم، وكل ما يدعونه لأنفسهم أمور حدثت عندنا على مدى نصف قرن، وكان وراءها أناس لهم تاريخ وتضحيات لم يداهنوا ولم يخافوا. الفضل نعزوه لأهله من دون مجاملة لمن يدعي ما ليس له، أو يسرق نجاحات الآخرين وعرق جبينهم. هناك من اتهمك بأن مسألة الانتخابات لم تكن يوماً على أجندتك، وأنك تذرعت بها فقط في سياق الاحتجاج على تعيين من لم تكن تريد رئيساً للنادي الأدبي في الرياض... أي أن دافعك كان شخصياً ولا علاقة له بالانتصار للديموقراطية؟ - دعك عن موقفي ودلالاته وأسبابه، وسل عن الآخرين الذين لاذوا بالصمت عندما وئدت الانتخابات. ليكن موقفي شخصياً، فما هو موقفهم؟ لنعد إلى محاضرتك بجامعة الملك سعود، كانت استثنائية وربما مدوية من حيث صراحتها وتناولها لقضية جدلية وساخنة... هل نستطيع القول إنها نقطة تحول في تاريخك البحثي والنقدي، أم هي، كما قال أحد منتقديك، مجرد مغازلة لمن وصفهم ب"جماعات الإسلام السياسي"؟ - الأوصاف التي يطلقها الناس علي وعلى أقوالي لم تتوقف منذ ثلاثة عقود. لن يسلم متحدث في الغالب من أن يجنح من لا يعجبه قوله إلى رميه بأوصاف أو ألقاب يسعى من ورائها إلى هز صدقيته وإقامة حاجز بينه وبين الجمهور. إنها رسالة ضمنية إلى هذا الجمهور مؤداها: انفضوا عن المتحدث، فهو ذو أغراض شخصية، أو ذو ارتباطات تجارية... ونحو ذلك. ربما من دون محاولات كهذه سيقبل الجمهور كلام المتحدث بصفته موضوعياً ومحايداً، لذا فلا بد من وصمه بالانحيازية أو الذاتية. لم تجب عن سؤالي... هل هي نقطة تحول؟ - كل ما أفعله في حياتي هو نقاط تحول. يجب أن يكون الباحث متحولاً. أرجو أن تكون هذه الدعوى قابلة تماماً للتطبيق. إنها أمل وسأفرح كلما رأيته يتحقق. يأخذ عليك بعض الليبراليين أو المنتسبين إلى الليبرالية أنك لم توجه نقداً إلى الخطاب الديني على مدى أربعة عقود مراعاة للحساسيات الدينية والاجتماعية بحسب تعبيره... كيف ترد على مثل هذا القول؟ - المشكلة تكمن هنا في مصطلح"النقد". النقد عندي هو قراءة الخطاب وتحليله، بينما هو عند أولئك المتحدثين كتابة مقالات في الشجب والتنديد. ومع أن هذا"النقد"نشاط صحافي له حضوره ومبرراته، إلا أنني لا أنتمي إلى هذا النوع من الخطاب بل لا أجيده. المجال الذي أجيده هو نقد الأنساق الثقافية. ودعني هنا أستغل هذه المقابلة لأعلن عن كتابي:"تحول الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة"، وهو كتاب يتضمن قراءة للتحولات الثقافية التي حدثت بسبب ظهور الشاشات الثلاث التلفزيون، الحاسوب، المحمول، أحاول فيه الإجابة عن سؤالين على قدر كبير من الأهمية: هل يتغير الخطاب بتغير الوسائل أم لا؟ وما هي أوجه الشبه والاختلاف بين المنبر والشاشة؟ الكتاب نقدي أيضاً. ومجرد الاكتفاء بالنقد كان مأخذاً آخر عليك... إذا كنت تقول إن ما يعرف بالليبرالية السعودية ظلت متسقة مع المهيمن والسائد، ولم تقدم بديلاً ولا أنموذجاً للتغيير، فأنت نفسك لم تكن معنياً يوماً بالحداثة والإصلاح، واكتفيت بالنقد من دون العمل؟ - لقد أحسن بي من قال إنني اكتفيت بالنقد. تلك هي صفتي المهنية والثقافية. لم أقدم نفسي قط بوصفي موظفاً أو مسؤولاً، بل إنني رفضت المناصب كلها إيماناً بمسؤولياتي العلمية والبحثية، لا الوظيفية الخدمية ولا السياسية والاجتماعية. إنما هو النشاط التخصصي المعرفي النقدي، كما تفضل صاحب هذا القول الذي أشرت إليه. لقد كان صادقاً ولعله عرفني أكثر مما أعرف نفسي. كيف تقرأ احتفاء من يوصفون"بالإسلاميين"بمحاضرتك في الجامعة، وهو ما عده بعض خصومك"مثلبة"أخرى؟ - أنا أبتهج برد الفعل بغض النظر عن مضمونه ودرجته، لأن المقولة تموت إذا لم تحدث تفاعلاً. يكفيني حدوث هذا التفاعل من دون تصنيف نفسي في هذا الصف أو ذاك.