تعلمون أعزائي القرّاء أن هذه الزاوية ملك لكم، ولكني سأخطفها منكم هذه المرة، فالخطب جسيم والمصاب جلل، فقد فقدت والدتي خلال الأسبوع الماضي ولن يطاوعني قلمي إن أردت أن أكتب عن غير هذا المصاب، كنت أظن أني أعرف معنى الحزن ولوعة الفراق ولكني أدركت أني كنت واهماً بعد هذه الفاجعة، ولا اعتقد أني سأكون قادراً على وصف مشاعر الإنسان عندما تدلهم خطوبه بفقدان أعز الناس إليه وأقربهم إلى قلبه. بعد إعلان وفاتها بدقائق سألني أحد أشقائي"هل صحيح أنها رحلت؟"وكأنه كان يأمل مني أن أكذّب الخبر ولم يكن يعلم أني كنت أنتظر منه هو تكذيب الخبر. لقد وهب الله والدتي - بوجهها الباسم وطيبتها وحنانها وحبها للخير- مقدرة غير عادية على التغلغل في كل خلية من خلايا جسم من يقابلها فما بالك بأبنائها. هذه الفاجعة جعلتني أؤمن بالتخاطر"اتصال عقل بآخر بطريقة ما خارجة عن نطاق العادي أو السوي"، اذ إنها كانت ترقد في المستشفى في بريدة وأنا أسكن الرياض، وفي الليلة التي سبقت وفاتها شعرت بقلق غير عادي ولم أستطع النوم وسرعان ما انطلقت بأقصى سرعة إلى حيث هي وما أن وصلت إلى سريرها إلا والطبيب يعلن وفاتها ? رحمها الله! تجلس مع اقرب الناس إليك والعيون مشدوهة وكل يتمنى أن يكون ما يجري حلماً عابراً ولا تدري بنفسك إلا وقد مات جزء منك إلى الأبد، ثم تشعر بالغربة والتيه والوحدة والعودة إلى الطفولة الأولى، ويمر شريط الذكريات أمامك فلا تهنأ بنوم ولا مأكل أو مشرب، وتتكرر هذه الصورة مرات ومرات بطريقة مؤلمة. في زيارتي الأخيرة لها في غرفة العناية الفائقة كنت أشعر أنني لن أراها مرة أخرى، ولذا تذكرت على الفور امل دنقل وهو يشدو: في غرف العمليات.. كان نقاب الأطباء أبيض.. لون المعاطف ابيض.. تاج الحكيمات أبيض.. الملاءات.. لون الأسرّة.. اربطة الشاش والقطن.. قرص المنوم.. أنبوبة المصل.. كوب اللبن.. كل هذا البياض يذكرني بالكفن.. بين لونين استقبل الأصدقاء.. الذين يرون سريري قبراً. وحياتي دهراً.. وأرى في العيون العميقة لون الحقيقة.. لون تراب الوطن. هذا المصاب الجلل أثبت لي أن الدنيا لا تزال بخير، وأن مجتمعنا جميل بتكاتف أبنائه، وهذه ربما أحد أهم ركائزه التي نعتز بها، فقد كانت مواساة الأحبة بلسماً للكثير من الجروح التي لا علاج لها، وكان مما أثلج صدورنا تلك الاتصالات التي وردت من أناس نبلاء لا نعرفهم أبت مروءتهم إلا أن يشاركونا في مصابنا وهذا لعمري قمة الوفاء في هذا المجتمع المتماسك المتراحم الذي نقسو عليه أحياناً، ولكنه يظل متميزاً بالكثير من الخصال الحميدة. وكان مما أسهم في عزائنا ايضاً تلك الأعداد الكبيرة من الأرامل والأيتام الذين ذكروا أنها كانت تتصدق عليهم منذ سنوات بعيدة ولم نكن نعلم عنهم شيئاً فقد كانت لا تعلم يمينها ما تنفق شمالها، إذ اشتهرت - رحمها الله - بالكرم فلا يقر للمال قرار في يدها قلّ أو كثُر إذ إنها كانت توصينا دوماً بالبذل والعطاء، خصوصاً في شهر رمضان المبارك ومناسبات الأعياد. وقبل الختام، أود أن أتقدم باسم والدي وأشقائي وشقيقاتي بخالص الشكر والتقدير لكل من واسانا في فقيدتنا الغالية من الأمراء والمشايخ والوزراء والأقارب والأصدقاء وأبناء هذا الشعب الأبي الكريم، وشكر خاص للزملاء الأعزاء في دار"الحياة"، وعلى رأسهم ربان السفينة جميل الذيابي، وأقول للجميع جزاكم الله عنا خير الجزاء ولا أراكم مكروهاً في عزيز لديكم. وأقول لوالدي الغالي وأفراد أسرتي لعلنا نعزي أنفسنا كما فعل أبو الحسن التهامي عندما عزى نفسه بابنه فقال: حكمُ المنيَّةِ في البريَّةِ جار ما هذه الدُّنيا بدار قرارِ فالعيشُ نومٌ والمنيَّةُ يقظة والمرءُ بينهما خيالٌ سارِ ٌ جاورتُ أعدائي وجاورَ ربَّه شتَّانَ بين جوارهِ وجواري [email protected]