الأرصاد : أمطار على الجنوب و مرتفعات مكة ورياح مثيرة للغبار بالجوف والحدود الشمالية    1700 مدرسة بالطائف تحتفل بأكثر من 26 ألف معلم ومعلمة    تراحم الطائف توقع اتفاقية مجتمعية مع جمعية العون الخيرية    الألعاب السعودية الثالثة : الشريدة يحصد ذهبية رماية الأطباق    الأخضر الشاب يعسكر في الأحساء استعداداً لمواجهة الصين "وديّاً"    مانشيني يرسم خطة الفوز على اليابان    «شهية» متروفيتش أمام الأهلي    مرصد الجوف ينضم للشبكة العالمية بالأمم المتحدة    ارتفاع أرباح «المراعي» الفصلية 17 % إلى 570 مليون ريال    بيعة سلمان وهموم الأمة    الكليات الأهلية الجديدة في الأحساء والمدينة والرياض وحفر الباطن    جزار يقتل فتاتينثم ينتحر!    «مُصْلِحَة سعودية» تنهي خلاف تاجرين في 35 مليوناً.. «عكاظ» تكشف التفاصيل    إطلاق المرحلة الأولى من مبنى MBC الجديد في الرياض لإنتاجات عالمية    «سماء العُلا».. أنشطة وفعاليات وروعة طبيعة    أزمة قلبية تنقل نشوى إلى المستشفى    5 علامات تشير إلى الإصابة بالتوحد    تولى مناصب مهمة ومسؤوليات رفيعة.. الملك سلمان.. حكمة وعطاء وتنمية ورخاء    عودة للحديث عن «حلم» جسر أبحر الشمالية والبرج    مشاريع مميزة تدعم النهضة الشاملة.. إنجازات ضخمة لجودة الحياة والسياحة والاقتصاد    بيّن للمجنون قرصه يعقل    بعد 6 جولات من دوري روشن.. الهلال ينفرد بالقمة والعلامة الكاملة.. والاتحاد والنصر يطاردانه    التفكير السطحي وأداء سالم مع المنتخب    ماني.. ضمن أفضل اللاعبين أداء في آسيا    نمو استثماري وشراكة القطاع الخاص.. تصنيف متقدم وإشادات دولية بالاقتصاد السعودي    بدعم من القيادة الرشيدة.. السعودية تتصدر الخدمات الرقمية إقليمياً    مشاريع الإسكان بين مطرقة المطورين وسندان الغلاء !    صباح الفناء يا 7 أكتوبر !    دبَّابات التوصيل    مركز الملك سلمان.. إنسانية متدفقة بالعطاء حول العالم    حريق أقدم مجمع تجارى    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    قطط وكلاب ترث ملايين الدولارات    وحدهم الحمقى من ينتظرون نصرة فلسطين بأذرع «صفوية»!    قراءة في تماس الزمكانية بالمدينة المنورة!    لأكتوبر الوردي جنوده    وزير الإعلام: معرض الكتاب يعزز المفهوم الحقيقي للثقافة    هل خرجت خطة يينون من الأدراج؟    معرض الصقور والصيد    تطوير أول لقاح في العالم ضد سرطان المبيض    «الفلورايد «في مياه الشرب السُمّ القادم 2-2    طريقة عمل بروستد الدجاج المقرمش    مجمع الملك سلمان العالمي يُنظِّم «شهر اللغة العربية» في فرنسا    خدمات متكاملة لكبار السن في المسجد الحرام    محافظ الخرج يشهد توقيع اتفاقية لجمعية تحفيظ القرآن    الرياض تتصدر مناطق المملكة في عدد السجلات التجارية ب53150    وزير البلديات: إنشاء مدن ذكية وصديقة للبيئة يسهم في جودة الحياة    إزالة 129 مليون محتوى متطرف    أمير الشرقية ونائبه يهنئان المعينين والمجدد لهم في الشورى    نجاح عالمي لمعرض الرياض الدولي للكتاب    ذكرى البيعة العاشرة للملك سلمان    ماكرون في مهمة حظر أسلحة إسرائيل    جامعة الملك سعود تحتفى بيوم المعلم العالمي    البديوي: إنشاء مرصد علمي خليجي لمكافحة التطرف يبرز الصورة الحقيقية للإسلام ومواجهة حملات الكراهية    مجموعة فقيه للرعاية الصحية توقع اتفاقية لإنشاء مركز طبي جديد في جدة    د. ال هيازع : خادم الحرمين قائد فريد في حكمته وعطائه ورؤيته الثاقبة    الاختراق    ما هي الرجولة؟ وكيف نعرف المرجلة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



درست الشريعة بجنب الطب لأنني أردت سحب البساط من تحت المتشددين - البعض ارتاب في عقيدتي ومنهجي ! جلبي : أقوال تيار أهل السنة والجماعة عند بعض الناس أقوى من القرآن والحديث
نشر في الحياة يوم 03 - 06 - 2008

خالص جلبي مفكر إسلامي وطبيب جراح... يمسك بجسد هنا ويمرر عليه مبضعه ويرتق جراحه، ويرحل بالعقل إلى حيث يعلمون وما لا يعلمون. الطب والفكر خطان متوازيان في حياته ويخطئ من يقول إن الخطان المتوازيان لا يلتقيان فمع الدكتور خالص التقيا وتصافحا وعاد كل خط وهو محمل بخيرات الآخر.
من سورية ارتشف الأسئلة الكبرى وأعاد صياغة حياته، وكان جودت سعيد ومالك بن نبي جناحاه في رحلة الأجوبة، رحل لكندا ليهرب بعقله ويعود منها لبريده حيث يعتزل كل شيء ويتفرغ لقلمه وفكره، منهج خالص الفكري لا يرضاه أي أحد بل يرفضه الكثيرون وهو يرى أننا بخصوماتنا وتوتراتنا من الأيام الراشدة هي التي سمحت لنا بالانزواء ومنح التفوق للعالم الجديد الذي قاد العالم للحضارة الجديدة.
في رؤاه الكثير من المتشابكات لذا تحتار في تصنيفه أو تحديد مساره، وهو يرمي بذلك ليكون مستقلاً تابعاً للفكرة فقط لذا لا نتفاجأ بتغير مواقفه وتبدلها فهو لا يسكن أبداً بل يتجاوز كل شيء إلى أي متغير يمنحه الضوء والطريق الصحيح. خالص جلبي بينكم فإلى تفاصيل الحوار.
ميلاد في سورية، ودراسة في ألمانيا، جنسية من كندا، وممارسة حياة في السعودية... ماذا منحك هذا المزج الكثيف؟
- بهذا التنقل والتنوع أمكنني من إدراك الفروق والتباينات وتحملها، ومن عاش في بلده فلم ير العالم مثل من قرأ صفحة من كتاب مكون من 500 صفحة في سِفْر ضخم.
وبمزج الشرق بالغرب والشمال بالجنوب أدركت على نحو أفضل مأساة العالم الإسلامي الحضارية وعجزه عن حل مشكلاته.
لماذا أتت دراسة الشريعة الإسلامية مصاحبة لدراسة الطب البشري؟ وهل من محيط تود اختراقه بمجدافيهما معاً؟
- جاءت دراستي الشريعة بجنب الطب لأنني أردت سحب البساط من تحت أقدام المتشددين الذين يستخدمون النصوص والمراجع التقليدية فيفوّت هذا على الجاهل، ومن أراد الإجابة عن موضوع وحب الإحاطة به، ولذا قمت بعملية مسح التراث من خلال دراسة الشريعة بفروعها العشر، وأنا بهذا الأسلوب أريد أن أصل إلى معادلة العلم والإيمان، فيرفع الله قدر من سلك وأناب. وحين يتحول الدين إلى علم يصبح عالمياً فلا يتقاتل الناس حوله ولا يتنازعون.
تتحدث كثيراً في ما تكتب عن البناء الداخلي... ألذلك اخترت جراحة الأوعية الدموية لتمارس عليها بعض قناعاتك؟
- في الواقع لا... فهذا الفن أحببته أثناء ممارستي الجراحة في ألمانيا الغربية فاستهواني لنعومته ودقته وقد كتبت فيه بحثاً شيقاً بعنوان:"جراحة الأوعية الدموية فن وأخلاق"، فجراح الأوعية الدموية يتعامل مع الأوعية الدموية وكأنه يمشي على الصراط المستقيم في يوم الحشر، فالقطبة الجراحية إن زادت أودت إلى التضيق فالانسداد"فموت الطرف المُغَذَّى، وهي إن قصرت"أفضت إلى الانتفاخ بأم الدم الأنورزما"فالانفجار"فالموت الصاعق.
وهكذا فجراح الأوعية هو مثل أهل الأعراف يلتفت يمنة ويسرى، وهو يمشي على حافة مشرطه الحادة، ممسكاً بحامل الإبرة، الذي يعطيه التوازن على هذا الحبل المعلق بين السماء والأرض، بأبرع من بهلوان سيرك، يحوط مريضه الموت من كل جانب"إن شد قدمه انغرس النصل في لحمه، وإن اضطرب توازنه هوى إلى القاع.
هل سرقك الفكر من الطب لأن البعض يرى تسارعك مختلف في الاتجاهين؟
- أفضل من وصف علاقتي بين الفكر والطب هو الزميل الكاتب إبراهيم البليهي أن 10 في المئة من لحمي طبيب و90 في المئة من توجهي هو للفكر، بل لقد سخّرت الطب للفلسفة وهي مهمة لذيذة ولكنها شاقة، والطب نفعني في فهم عدد من المعضلات الفلسفية. وكارل ياسبرز الفيلسوف الوجودي الألماني، وميشيل فوكو الفرنسي، كان كل منهما في قسم منه طبيب. ويجب أن يعرف البيولوجيا كل من عمل في الفكر.
مع هذا فأنا عملت وفي سنوات طويلة من ضروب العمليات المعقدة في جراحة الأوعية الدموية ما يصل إلى سقف المهنة تعقيداً ووقتاً، ووصل رقم ساعات أحد العمليات المعقدة 14 ساعة متواصلة.
السجن والإخوان وكندا
بعد تجربة السجن في سورية، ثم الإفلات من قبضة جماعة الأخوان... لماذا كان مالك بن النبي الوجهة؟ والجنسية الكندية هي طوق النجاة؟
- من خلالي مسحي الدؤوب للفكر الإنساني كنت أقطع المراحل بسرعة، فمشينا في طريق التدين التقليدي، ثم تابعنا الطريق إلى الفكر الإسلامي المعاصر، وكان مالك بن نبي أحد المحطات، ولكن جودت سعيد كان له الفضل عليّ أن نبه عين الغفلة عندي، وهذه الميزة أي قطع المراحل والانتقال في العتبات ما زالت ديدني أمشي فيها فأبدل وأغيّر، ويتفاجأ من حولي، لأنني أترك الكثيرين يراوحون في مكانهم وأنا أتابع إلى أمكنة ومحطات فكرية جديدة، بل إن البعض ارتاب في عقيدتي ومنهجي، ومنهم من بادلني العداوة وهي مشكلته، فأنا أحاول أن أكون طيب النفس تجاه من عاداني، وأن يبقى شعور التباين محصوراً في الفكر فلا ينتقل للعداوة الشخصية.
أما في ما يخص الجنسية الكندية أو الأوربية أو أيا كانت، فكانت ضرورية بعد أن خسرنا وطننا بكل أسف، فكان لا بد من تغيير الوطن، وأن يكون آمناً، فجرى الرهان على كندا بلد من لا بلد له.
وأنا رست سفني في مونتريال من كندا عام 1994، وبناتي هناك مع ثلاث من أصهاري، وهناك أيضا قبر زوجتي.
هل غيّرت الأنثى اتجاه بوصلتك يوماً؟
- أحسنت في التعبير فقد كانت زوجتي ليلى سعيد بوصلتنا في الحياة، وبعد فقدها تاهت سفننا، وكان موعدنا في 7 أيلول سبتمبر 2005 يوم الأربعاء صباحاً، عندما حضرها ملك الموت . لم تكن تشكو من شيء. كانت تمشي يومياً أكثر من ساعة مثل الغزال الرشيق. في قمة اللياقة البدنية والعقلية واستيعاب الفكر العالمي والعطاء الأخلاقي والفكري. وجمالها قوقازي باهر، وخلقها رفيع، وعطاؤها بغير حساب، تخدم كل من حولها، ولا تطلب من أحد خدمة. شخصيتها طاغية، تذكرني بقصة قرة عين التي وصفها علي الوردي أنها كانت تجمع أربع خصال لو كانت واحدة في بنات جنسها لكفى: الفصاحة والخطابة، والجمال الباهر، والشخصية الكارزيمائية، والذكاء اللامع والثقافة العالمية. كل هذا كان في ليلى سعيد وأكثر.
في بريدة تعيش الآن... كيف تراها؟ وكيف تقابل هي ما يأتي به خالص جلبي؟
- لقد كانت هذه المدينة الهادئة مثل غار حراء لي لمدة 18 سنة. فيها ركزت أبحاثي. واقتصرت في علاقاتي. وبنيت صرحاً للمعرفة في ساعات كدح ودأب طبقاً عن طبق، وحالياً أنا أغادرها إلى الرياض.
كيف تأقلمتْ تفاصيلك مع الحياة هناك؟
- كنت راهب علم متبتلاً وجراحاً متفرغاً أعالج مرضاي بالمبضع وأسلك العقول بالكلمة، وفيها حققت أموراً تذكرني بكتابة العميان لبرايت. فقد أصر على استخراج النور من المسلة نفسها التي أعمته! وهكذا بالنقش على الخشب خرج بفكرة الكتابة للعميان.
وأنا من هذه البلدة دخلت جريدة"الرياض"وكتبت فيها على مدار خمس سنوات 235 مقالة، ثم فزت بجائزة أفضل مقال في الصحافة العربية، وبعدها كتبت في"الشرق الأوسط"أكثر من 300 مقالة.
لماذا لم تخطب ودَّك مدن أخرى؟
- لأنني بكل بساطة لم أخطب ود مدينة أخرى، فأنا عشت منعزلاً، في ظروف ليس فيها نشاط اجتماعي فقمت بمغامرات الفكر وبنيت نفسي ما وسع جهدي. وأتفاءل حالياً مع ظروف انتقالي للرياض أن أتمكن كما فعل العقاد من تأسيس مجلس علم.
يروى أنك خضت سجالات مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك... حدثنا عن تلك التجربة؟
- سئلت قبل فترة عن طبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاء بها الإسلام؟ والقرآن تحدث عن أمرين، يجب القيام بهما، الأمر بالشيء الذي تعارف عليه الناس أنه جيد ونافع، من أجل صحة المجتمع. والنهي عن ما ينكره الناس من بذيء القول وسوء السلوك، مما تعارف عليه الناس أنه ضار ومؤذٍ.
ووصف القرآن أمته بأنها خيرأمة أخرجت للناس لاضطلاعها بالأمرين، أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
مع هذا قد تنقلب الآية فيصبح الأمر بالمعروف منكراً والنهي عن المنكر منكراً؟
وحين يتورط المجتمع كلية في الموبقات، فقد استدعى قوى الطبيعة لمحقه، كما فعل فيروس الإيبولا حين اعتدي عليه في الغابة؟
وحين تقع آلات وآليات ضارة من هذا النوع المقلوب، في يد مؤسسات ورجال من دون ضمير، يرتفع الشعار وتغيب الحقيقة، فيكسب الواقع الحقيقة، ويكسب القاموس كلمة مزورة، ليس لها من الواقع رصيد.
وهذا قلب للمفاهيم، أن الشر والخير هما مراحل تطورية "ففي مرحلة يتحول الخير إلى شر والشر إلى خير.
ولذا كانت المشاعر كاذبة والحقائق صادقة، وحواسنا كاذبة ما لم يصححها العقل.
وهكذا إذا حررنا هذه الآلية الفلسفية، تصبح كل الأمور خيراً عند الفيلسوف الرواقي ابكتيتوس أنه ليس من شر في العالم؟
هاتوا لي أي شيء؟ ولسوف أحوله إلى خير بعصا هرمز السحرية؟ الموت العوز المرض الضعف الحاجة.
وهذه الآلية تصدق على مصطلح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن جاء بحكمة سقى الأرض العطشى.
وإن جاء معكوساً مقلوباً منكوساً لم يعد أمراً ونهياً ومعروفاً بل منكراً من القول وسوءاً وفاحشة تؤدي إلى عكس مطلوبها.
وهذا الأمر يختلط على الكثيرين، فيظنون أن حمل النية الصادقة كاف. ولكن كثيراً من المجرمين مارس الجريمة بدوافع صادقة لا شك فيها أنه يعمل الجيد والنافع والصالح.
الأفكار ومشرط الجراحة
ما علاقة طريقة طرحك للفكرة الذي تتبناها بالمشرط الذي تستخدمه في طب الجراحة؟
- الجراحة ليست مقصاً وسكيناً، أو خياطة وترتيقاً، فهذه يبرع فيها القصاب والخياط أكثر من الجراح، ولكنها فهم لتشريح الجسم، وإدراك لفيزيولوجيا الأعضاء، ودقة مفرطة في التعامل مع الأنسجة، وإنقاذ لحياة إنسان، وتحرير له من ألمٍ ممض وعضو فاسد.
الجراحة مسؤولية وتوتر، وجو معركة، وجبهة تقذف بالحمم بين الحين والآخر، فتترك الجراح منهك القوى مصفر اللون. عدوه النزف المرعب والمرض الخبيث، لا يستجيب إلا بالمنازلة والمقارعة بالمشرط، بقايا المعركة أشلاء الأعضاء المبتورة، والدماء الملطخة لقاعات العمليات وملابس الجراحين.
الجراحة تدريب وزيادة خبرة يأخذها الجراح من مريض يمنحه إياها من أغلى ما يملك: حياته.
الجراحة هي نظافة يجب أن يحافظ عليها من خطر الإنتان. هي ترتيب في الأفعال، وتراكب في المراحل. فمن أراد دخول الجراحة يجب أن يستعد لها بالاستعداد الخاص الخالص، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
العلم والسلم قضية خالص جلبي... ألا يتناقض ذلك مع"السادية"التي تمارسها في كتاباتك من خلال نقد الذات العربية؟
- النقد مشعر الصحة وسلامة التوجه، وتحمله مشعر النضج، ولا تنجو يوم القيامة إلا النفس اللوامة. والقضية لا علاقة لها بسادية من أمراض علم النفس بل بأهمية تصحيح اليقظة. فلا تسكر النفس بخمر كالثناء وليس أبغض على النفس، من النقد، فالثناء عسل والنقد والمراجعة علقم وحنظل. وفي طرحي للعلم والسلم جدلية وتداخل. لأن العلم هو الذي قاد للسلم.
لقد تحول رصيد فكر القوة الى قوة الفكرة فهل يعقل هذه الحقيقة رجل رشيد؟
نظام الصواريخ الكوني وأقمار التجسس، ملأ سطوح المنازل بالدشوش، تقلب وجهها في السماء، تفتح أفواهها بلا شبع، من دون انطباق، تلتقط خبر الملأ وما يوحى من الأخبار، بلمح البصر او هو اقرب، تنهي عهد الكذب السياسي، والاحتكار المحلي، ويثبت العلم نفسه كمحطم رائع للجغرافيا.
ومن حريق هيروشيما يولد السلام العالمي، في صدمة صاعقة غير متوقعة للسياسيين الذين لا يرون في العادة أبعد من أرنبة أنوفهم، أو الجنرالات الذين كانوا عبر التاريخ أكثر خلق الله بلاهة وحمقاً وإجراماً، وتبدأ الحيرة اليوم، عن أبسط الطرق وأقلها تكليفاً، لتفكيك الرؤوس النووية. وتبدأ قصة سرقة مخلفات الجبار النووي بعد أن أفلس.
هذه الأفكار حول الانسان الجديد، والسلام العالمي، تشبه ظاهرة السوبرنوفا لسياسي العالم الثالث، فكما تأخر وصول ضوء الانفجار النجمي مليون سنة الى الأرض، فقد نبقى ألف سنة أخرى على باب العلم من دون أن ندخله، لأننا لا نملك المفتاح.
مشكلة العالم العربي أنه يعيش اليوم طوفان الحداثة، من دون سفينة نوح للنجاة الفكرية، بأعظم من طوفان نوح.
والعالم العربي بعد سيف معاوية، ومصادرة الحياة الراشدية، وتأميم العقل، وإلغاء الفن، بعد إقفال باب الاجتهاد، تدفق فيه الصليبيون الفقراء، الى العالم الجديد، فملكوا أربع قارات وكل البحار والثروة والنفوذ العالمي، مدججين بإدارة عالمية، ومراكز البحث العلمي، ومصارف المال، من دون إقطاع وكنيسة وطاغية.
والعقل العربي اليوم يمشي منكوساً على رأسه، من دون أن يحس بالدوار، لم يتكيف بعد مع العالم الجديد، لأنه لا يعرفه، فهو لم يشترك في صناعته منذ خمسة قرون.
ما الغاية من استخدام البعد الإسلامي لأجل استئصال الورم الفكري الذي تراه سبباً في هلاك المجتمعات العربية؟
- معالجو الورم هم ثلاثة فرق، فإما من المتشددين الذين لا يعرفون العالم وتطور الزمن بحسب قانون الصيرورة عند هرقليطس فلا يقتربون من الحل إلا بعداً، وهو الزمن الذي سندخله على ما يبدو من نموذج"حزب الله"في لبنان والتشدد الراديكالي. وأما العلمانيون الذين يريدون استئصال ورم في الأنف بالمنشار من دون تخدير. وأما السياسيون الكذابون الذين لا يفقهون علم الأنواء في سفينة محاصرة بأعتى الزوابع...وحتى اليوم لم يتقدم من يحمل روح الثقافة وفهم العصر على شكل تجديد التفكير الديني كما حصل في أوروبا مع الإصلاح الديني.
كل جديد على المجتمع مُهاب، وأي كسر لهيبته يرفض بالمجمل والتفصيل... هل تعاني خطاباتك العقلانية الاستماع لها بسبب ذلك؟
- بالتأكيد وهذا قانون في البيولوجيا من أجل المحافظة على الذات وإعادة إنتاج نفسه. المثل في ذلك مكافحة أي فيروس أو جرثوم يلج الدوران العام، ما يسبب نوافض خطيرة في البدن! وفي القلب يحصل الموت من وراء هذه الظاهرة قانون كل شيء أو لا شيء. ونموذج مثل تركي الحمد وعايض القرني بنسبة مقالة كل للآخر أحدثت ردود فعل مضحكة"فرفض ما قاله الحمد عند المتدينين والمقالة كانت للقرني، والعكس بالعكس، ما يوحي أننا في حالة صبيانية للفكر، بعدم تفريق الأفكار عن مصادر الأفكار.
الحوار والسلم
مالك بن نبي دعا إلى الحوار والسلم، وكان ثائراً جزائرياً ساند وطنه بقلمه، هل تظن أن ذلك سيكون مجدياً وحده من دون سلاح الثوار؟
- هذا بالضبط ما دعا له ابن نبي وشعر أن الثورة تمت خيانتها، ولذا تعثرت الجزائر وما زالت، لأن العقل لم يولد بعد؟
هل كانت الفترة الزمنية التي عاش فيها مالك بن نبي صالحة لأفكاره ومبادئه؟
- في تقديري انه سابق لوقته، وما زالت أفكاره ترسانة فكرية للإصلاح الديني.
ذكرت في كتابك"جدلية القوة والفكر والتاريخ"مقولة أزعجت الكثيرين وهي"ان معضلة العقل العربي تيار يُقال له أهل السنة والجماعة"لماذا هم بالذات؟
- لأن هناك شيئاً جديداً برز للوجود خارج القرآن والحديث باسم تيار لا يمكن نقده أو مراجعته بأنه مصدر للحق اسمه تيار أهل السنة والجماعة الذين هم ليسوا سنة مطلقة ولا جماعة مطلقة. وكل حزب بما لديهم فرحون.
وأذكر أن أخاً أردنياً فرح ببعض أطروحاتي فأراد نشر كتاب لي إلا أنه أعاده إلي، وهو يقول إنك تستخدم القرآن والآية والحديث وأسباب النزول، ولكن ليس على منهج أهل السنة والجماعة؟ فهنا أدركت أن هناك شيئاً أقوى من القرآن والحديث عند بعض الناس، اسمه تيار أهل السنة والجماعة.
متى تُباح القوة ومتى يُسمح باستخدام لغة الحرب... في منهج خالص جلبي؟
- بحسب فهمي المتواضع أن استخدام القوة المسلحة بمعنى القتال في سبيل الله هو شيء مختلف عن الجهاد. وأن القتال شرع كدعوة لإقامة حلف عالمي لتخليص البشر من الفتنة والإكراه في المبدأ والعقيدة والدفاع عن المظلوم في أي أرض ومن أي ملة، وهو مبدأ عالمي مقبول من كل الفرقاء.
في ظل استباحة أميركا وإسرائيل لدماء المسلمين، هل تجدي فكرة السلم معهم؟ ألا تجد أن المتلقي يراها دعوة للرضوخ والاستسلام؟
- نحن لم نفهم طبيعة المقاومة السلمية، ونظن أنها استسلام وهي طريقة الأنبياء في التغيير الصحيح. ولو أن المقاومة الفلسطينية اعتمدت هذا الأسلوب لأثمرت في جهتين، وتخلصت من مرضين، والداخلي أهم من الخارجي، وحزب الله في لبنان لما شعر بالقوة في حرب إسرائيل عام 2006 وقام .بصيف 2008 بالتهام لبنان فهذا هو إغراء القوة.
قلت:"غدت الحرب موضة قديمة يمارسها المتخلفون"هل نطبق مبدأ التخلف على الجميع بمن فيهم الدول المقتحمة، والشعوب المقاومة؟
- وجوابي نعم بمن فيهم بوش القاصر عقلياً، وشارون الذي يسبح في سكرات الموت، وابن لادن التائه في جبال تورا بورا... فالحرب أصبحت من الموضات القديمة، والعالم حالياً مقسوم إلى شريحتين: عليا تحل مشكلاتها بالحوار، وتملك أفظع تقنيات القوة. وشريحة سفلية من نوع السودان وأثيوبيا واريتريا لا تملك شيئاً، وتستورد السلاح وتشتريه بدل خبزها، ويلعب بها الأقوياء، فمن يطلق الحرب لا يملك نهايتها، لأن سلاحها وتقنيتها في يد عالم الكبار، ويرتهن نفسه من جديد لعالم الكبار الأغنياء من دون ضمير.
حوار الحضارات... هل يجدي الآن؟
- كل حوار بين مخصبين يولد ذرية صالحة، وكل لقاء بين المجانين يثمر نزاعاً، والعالم الذي نعيش فيه حالياً يقاد بيد مجانين من هولندا إلى إندونيسيا وأميركا. والعقل ساكت حتى حين... ومن يحاول الحوار يتجمل ويجامل، ولحين حدوث الحوار الفعلي فسنبقى في حال حديث الطرشان.
الكتابة والعطاء
أتغريك الكتابة بانهمارها، أم تلاحقها لأجل بقاء حرفك وحياة فكرتك؟
- الكتابة موهبة ودأب، والدأب فيها أعظم، حتى تلين الكلمة، وأتمنى أحياناً أن أنقل من رأسي إلى الورق من دون أصابع بنبض إلكتروني من زخم المعلومات ولكن لا أستطيع، ورجل في مثل سني يجب أن يكون قد جاء دور العطاء بعد الامتلاء، ودور الانتشار بعد التركيز. وفي القصيم عشت مرحلة غار حراء وقد ينتظرني دور رسالي وقد أمضي غير مأسوف علي... وهناك الكثيرون ممن كتبوا فمضوا ولم ينتبه إليهم أحد لعدم مناسبة البيئة والزمن لأفكارهم غير الصحيحة والتاريخ هو الذي يشهد ويشفع.
هل الكتابة مجزية إلى درجة أنك كثيف جداً في الصحف العربية والمطبوعات الغربية؟
- حرفة الكتابة خطيرة، وأرضها مليئة بالألغام، ويكفي المرور على واحد بغفلة كي تطير الساقان أو يقصف بالعمر وينسف البطن، ولا يوجد فيها تأمين مثل أخطاء العمل والعمليات الجراحية وحوادث الطرق.
ولذا فأنا أكتب كل مقالة ومقابلة وأنا مودع، ومنها كلماتي لصحيفة"الحياة"الحالية.
والطب يعطي أكثر بكثير من الكتابة. ولو اعتمدت على دخلي من الكتابة لكنت متلفعاً بالسواد على باب أحد المساجد أتسول؟
كيف هو ارتفاع سقف الحريات التي تُمنح لحروفك و برامجك الإعلامية؟
- يزداد ولكن بزحف القواقع وتلمس أشعار القرون وما نكتبه اليوم لم يكن لينشر قبل عشر سنوات... وهو مؤشر جيد لتحسن الأوضاع فهذا هو اتجاه التاريخ. ونحن لا نشكل خرقاً أو استثناء على قاعدة التاريخ.
هل انتهت اللغة العربية؟
- كنت استمع يوماً إلى حوار بين طبيب نيجيري ومريض سعودي وهو يسأله عن شكواه؟ فكانت مسرحية كوميدية تعجز عنها الأوبرا الفرنسية.
كنت أراقب هذه الكوميديا وأتذكر رحلتي للتخصص في ألمانيا ومعهد غوتة لتعلم اللغة الألمانية.
كنا نقرأ الإعلانات تقدم عروضاً للأطباء الأجانب، كما هي الحال في المملكة، ولكنهم كانوا يكتبون في الإعلان بشكل واضح أن شرط الفوز بالوظيفة ومعها الراتب المضمون هو:
"التمكن من اللغة الألمانية كتابة ونطقاً"، وأول ما بدأت به رحلتي في ألمانيا هو الإمساك بمفتاح كل المفاتيح، أي اللغة، فمن نطق الألمانية فتح المجتمع الألماني بابه على مصراعيه أمامه.
وهكذا ذهبنا إلى دورة مكثفة في معهد غوتة في الجنوب الألماني، وكان يمكن في المملكة أن تُنشأ معاهد للغة العربية كشرط لعمل أي قادم إلى المملكة.
والواقع أن المملكة لو اعتمدت سياسة التعريب ببطء، لنشرت اللغة العربية في العالمين، فهناك ربما ستين جنسية في البلد.
واليوم يشتغل الواقع بطريقته الخاصة، فإذا لم تعلم الناس العربية الجيدة فسينطقون العربية المكسرة؟
وهكذا ولدت لغة في المملكة هي عربية وعجمية في الوقت نفسه، وهي من أعجب الكلام"
وعندما يراجع الإنسان تاريخ قوة اللغات وانتشارها من ضعفها وانقراضها فإن هذا يرجع إلى قوة الحضارة.
وقصة اللغة العربية تحكي قصة التفوق الحضاري أو الهزيمة.
واليوم تزحف اللغة الإنكليزية عبر الإنترنت في كل العالم، ومن لم يتصل باللغة الإنكليزية والإنترنت أصبح خارج التاريخ والجغرافيا. وتلك الأيام نداولها بين الناس. ولنبك لغة العروبة التي تحتضر.. فكل لغة هي لسان قومها، فإذا خرسوا خرست، وإذا نطقوا عبرت وأبدعت... والعرب اليوم صم بكم عمي فهم لا يفقهون.
أكثر من 20 كتاباً فكرياً... لماذا لم تكتب في الطب ما ينافسها؟
- كتبت خمسة كتب في الطب على الأقل: الطب محراب للإيمان في جزأين وحوار الطب والفلسفة والإيدز طاعون العصر والتقدم العلمي والإيمان وطب المستقبل أو العصر الجديد في الطب. وحالياً عقدت عقداً لإنتاج موسوعة طبية كاملة بثلاثة آلاف صفحة و15 مجلداً قد ترى النور العام القادم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.