محبة النبي - عليه الصلاة والسلام - ركن ركين من أركان الإيمان، نشهد بها لكل من شُهد له بالإسلام، فكل من كان معه أصل الإسلام فمعه لزاماً أصل محبة النبي، لأنه لا يوجد أصل الإسلام إلا بوجود أصل محبته عليه الصلاة والسلام -، وتتجلى موجبات محبته ومقتضياتها في محكمات الشريعة التي لا تحتمل الخلاف، ولذا فمحبته مسألة بديهية مفطور عليها قلبُ كلّ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا أن المسلمين يتفاوتون في درجات المحبة كما يتفاوتون في درجات الإيمان. ومما يقال هنا تأكيداً: إن الاتهام بعدم محبته - عليه الصلاة والسلام - لا تتوجّه إلا في ما صح من حيث الدليل ووجه دلالته أن فيه ? حقاً- مخالفة لأمره، ولا يصح في دين الله أن نجعل قضايا النوازل والاجتهاد محكّاً لمحبته، فإن هذه القضايا محلٌ قابلٌ لاختلاف وجهات النظر، ولا يصح أن نمتحن محبة الناس لرسولهم في قضايا حادثة ليس فيها نص من كتاب ولا سنة! ولا يصح أن نجعل مسائل الاجتهاد فيصلاً يَمِيز من يحب الرسول ممن لا يحبه. ومن هنا فلا يصح أن نجعل من مقاطعة بضائع الدنمارك - مثلاً - فرقاناً يَفرُقُ بين من يحب النبي حقاً ومن يدعي ذلك ادعاءً. إن المعايير الصادقة التي تقاس بها محبة النبي - عليه الصلاة والسلام - ويصح أن يُمتحن بها الناسُ حقاً هي المحكمات التي ثبت دليلها بدلالة صريحة لا تحتمل اختلافاً، وهل يصح شرعاً أو عقلاً أن ترمي كلَّ من خالفك رأياً بالتهمة البغيضة العَجلى: أنه لا يحب النبي عليه الصلاة والسلام؟! لقد اختلف فقهاء الصحابة وأحاديث السنة متوافرة بينهم، ولم يقل أحدٌ عن أحد : إن في محبتِك للنبي ضعفاً من أجل أنك لم تأخذ بدلالة هذا الحديث أو ذاك. ولم يقل أحدٌ من أئمة الفقه عن الآخر إن في محبتك لنبيك دخَناً، ولم يُلصق به تهمةَ عدمَ توقير سنة النبي، ذلك لأنه يدرك أن دلالة الحديث نفسه دلالةٌ ظنية تحتمل الاختلاف في فهمها. وما من إمام من الأئمة الأربعة إلا وقد ترك العمل بدلالة بعضِ الأحاديث في بعض المسائل الفقهية، فهل ترى فعلَه هذا من ضعف محبته لنبينا ؟! أبعدَ ذلك نريدُ أن نجعل من مسائل الاجتهاد المعاصرة التي ليس عليها دليل صريح من كتاب أو سنة معياراً ثابتاً دقيقاً لقياس درجةِ محبتنا للحبيب عليه الصلاة والسلام؟! إن من حق كل مسلم أن يقاطع بضائع الدنمارك، وأن يدعو غيره إلى مقاطعتهم، ولكن بشرط أن تكون دعوةً بالتي هي أحسن قولاً وسلوكاً، بلا إكراه ولا إرهاب فكري، ولا لمز ولا غمز، ولا اتهامٍ للنوايا، ولا رجمٍ بالغيب، ولا مزايدةٍ على محبة المصطفى. المقاطعة حق مشروع لا تحتاج إذناً ولا تصريحاً، وإن من حسن الظن بالمسلم أن نحسب مقاطعته للبضائع الدنماركية من صدق محبته لنبيه وغيرته على عرضه المقدس. إننا مؤمنون بحق هذا في ما يقوم به وفي ما يدعو إليه ، ونحن نستشعر تلك المشاعرَ المتقدةَ في صدره حباً وغيرةً على نبينا الحبيب، ومن مبدأ قناعتنا بأن هذا العمل حق مشروع لا يجوز لأحد أن يمنع الناس من ممارسته فنحن نرد على كل من يتهمها بالبدعة أو الافتيات على ولي الأمر، ولكن هذا لا يعني السكوت عن الممارسات الخاطئة في هذا الباب فضلاً عن الرضا بها. إن حقك في المقاطعة تعبيراً عن سخطك على الرسوم الساخرة بنبينا لا يجيز لك مهما كان الأمر أن تجعل الكذبَ على الناس وتقويلَهم ما لم يقولوا حيلةً تحتالها لإرغام الناس على المقاطعة، أو لضربهم بسوط هيبة فتاوى العلماء. لقد انتشرت بين الناس هذه الأيامَ فتوى مكذوبة على اللجنة الدائمة للإفتاء تحرم على الناس السفر إلى الدنمارك، واستيرادَ بضائعها، وتوجب عليهم مقاطعتها، وقطع كل علاقة تمتُّ إليها، ويترخصون لهذه الكِذبة بأن الشرع قد رخص في الكذب للإصلاح بين الزوجين، وفي الحرب، أفلا يكون الكذب مرخصاً للدفاع والذب عن رسول الله؟! ولكننا نقول: إن الكذب الذي رخّص به الشرع لا يتعلق به حق أحد، ولا يكون بالافتراء على أحدٍ بتقويله في دين الله ما لم يقل، والكذب المرخص به للإصلاح بين الزوجين ليس هو الكذبَ الذي يكون فيه إفسادٌ وأذية للآخرين، وإصلاح حياتهما لا يكون بإفسادها على غيرهم. فكيف إذا كان الكذبُ بتلفيقِ فتوىً على من لم يفتِ بها، والفتوى دين يَدِينُ اللهَ بها مفتيها، أفيجوز أن تُخضع لمنطق الكذب والتزوير؟ إن نصرة النبي لا تكون بالكذب، لا تكون بما نهى عنه وزجر، نصرته لا تكون بما يكرهه ويبغضه في أمته، نصرته لا تكون بالإخلال بمنهجه الذي أراد أن يربي عليه أمته... منهج الصدق والعدل وحسن الخلق. إن نصرة النبي أوسعُ من أن تنحصرَ في هذا الباب الضيق الذي لا يعدو أن يكون تركاً للشراء، لا عملاً مبتدأً يقوم من خلاله مشروع واسع يستوعب جهود ملايين من أتباعه - عليه الصلاة والسلام -، إن أبواب النصرة أوسعُ وأرحب من أن نحتكرها على الناس في صور محدودة، نجعلها معقداً للولاء والبراء، ومعياراً نمتحن به محبة الناس لنبيهم. إلى الآخذ بلواء المقاطعة نقول له بلسان الصدق والمحبة: دع الخلق لخالقهم فهو أعلم مني ومنك بمن هو أهدى سبيلاً، وبمن هو أبلغُ محبة وأصدقها لنبيه. اعمل انت بصمت في ما أنت مقتنع به، وليس لك الحق ان تلزمَ الآخرين بما ألزمت به نفسك، إلا ان يكون لك دليل صريح من كتاب أو سنة. اعمل أنت بما تراه سبيلاً لنصرة نبيك، ولكن إياك إياك أن تجعل ذلك على حساب المنهج النبوي المعظِّم لشعيرة الصدق والعدل وحسن الخلق. اعمل أنت بما تراه سبيلاً لنصرة نبيك، ولكن إياك إياك أن تضيِّق على الناس سُبل النصرة وأن تحتكرها عليهم في ما أنت آخذ به منها. ليس من حقك مهما بلغت محبتك لنبيك أن تملي على الناس كيف ينصرون نبيهم ، ليس من حقك أن تجعل المقاطعة هي السبيل الأوحد لنصرة النبي والذب عن عرضه المقدس. إن محبة النبي - عليه الصلاة والسلام - أقدس وأشرف من أن نخضِعَها لسوق المزايدات، فليس من حق أحد أن يزايدنا على محبة المصطفى، أو أن يملي علينا باجتهاده الخاص كيف تكون محبته، وكيف تكون نصرته. * أستاذ شريعة في جامعة"الإمام". [email protected]