مع أن "الدعوة السلفية" أطلقها المحمدان ابن عبدالوهاب وابن سعود قبل نحو قرنين ونصف، إلا أن وقود إثارتها الذي لا ينضب، ظل يجدد الحديث حولها، مدحاً أو ذماً. مثلما حدث مع الزميل تركي الدخيل في برنامج"إضاءات"أخيراً، إذ بعث أقوال المفكر المغربي محمد عابد الجابري حول"السلفية"من مرقدها، بعد أن كادت غبرة النسيان تهوي بما قال عنها في كتاب"حوار المشرق والمغرب"سبعين خريفاً في ذاكرة أتباع الدعوة وخصومها على حدّ سواء. وكان الجابري الذي نقل الكتاب المشار إليه سجاله مع المفكر المصري حسن حنفي، ذهب إلى أن"بداية النهضة العربية كانت مع الوهابية، وبالتحديد بعد الاتفاق بين ابن سعود وابن عبدالوهاب عام 1747 ... وأن تأثير الوهابية التي قامت قبل الثورة الفرنسية ب 42 سنة كان مضاهياً لتأثير الثورة الفرنسية ثورة نابليون وقتها إن لم يكن أقوى". وهو القول الذي فتح به الدخيل الباب أمام الجابري لتحويره أو التراجع عنه، حينما سأله عما إذا كان لا يزال مؤمناً بقوله ذلك، على رغم كل الذي قيل عن"الدعوة"بعد يوم 11 أيلول سبتمبر. إلا أن المفكر المغربي جدد تفسير ما ذهب إليه بالقول:"هذه ليست أطروحة هذا تاريخ، أنا لا آتي بشيء خارج التاريخ ... أعني تاريخ تطور الحركة الوطنية أو السلفية أو التجديدية في العالم العربي، الذي عرف بدايات منبثقة من داخل العرب، مثلاً هناك علماء كان لهم تأثير كالشوكاني.. بينما محمد بن عبدالوهاب كان يقود حركة تُعتبر ثورية بالنسبة للإسلام في ذلك الوقت، وفيما الغرب كان غائباً عنها كانت المعركة مع الحركات الطرقية الصوفية والأتراك خاصة، وهذه الحركات كانت قوة سياسية تمارس السياسة ولو لم يكن أفرادها يعون أنهم يمارسون السياسة، فكان محمد بن عبدالوهاب من الذين نادوا بالرجوع إلى ما قبل هذه الطرق فحدث التجديد أو شطر منه، وقامت سلفية الأفغاني وعبده على أساس هذه الفكرة". ما هو أخطر من المقارنة لكن فكرة المقارنة بين صدى الدعوة والثورة، وإن كانت الأكثر استفزازاً، إلا أن المفكر المغربي قرر أن الأكثر أهمية بالنسبة إليه"كون الحركة السلفية أول فكرة لرفض الواقع ووصفه بالتأخر ووصفه بالانحطاط بالقياس إلى الماضي وليس بالقياس إلى مستقبل الغرب". يأتي بعد ذلك في الأهمية كما نظّر الجابري في برنامج"إضاءات"أن شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب، رسّخ قواعد دعوته على أن"الذات العربية لها استقلال، بمعنى أنها لا تحتاج لا إلى الماضي ولا إلى الغرب لكي تثبت أنها لها حق في الوجود أو لها كيان أو لها هوية، يعني تكون ممتلئة هويتها بهذا الاستقلال التاريخي، لا تحتاج لتستند إلى فلان ولا إلى فلان، هي نفسها تتكلم من داخلها ... أي أن الوعي الوطني يكون ممتلئاً ومستقلاً بنفسه لا يحتاج إلى أن يعتمد على أمور خارجية لا من تاريخ ولا من الخارج بل الواقع نفسه الذي يجب أن يملأ الوعي ويملؤه بالإحساس وبالشعور وبالتطلع إلى التغيير". تلامذة الدعوة السلفية، وإن كانوا لا يحبذون ابتداءً، مقارنة بين دعوة إلى التوحيد وثورة تنويرية تأخذ أبعاداً شتى، إلا أنهم قبل تداول شهادة الجابري، ظلوا موقنين بأن"دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، عانت من افتراءات واتهامات قاسية من المسلمين وغيرهم، إلا أنك قلّ أن تجد في العالم موقعاً، لم يبلغه أثرها"كما جزم بذلك حفيد مؤسسها وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، الذي يعتبر أكثر تلامذة المدرسة دعوة إلى تجديدها، بل علّق بقاءها باستمرار تجديد خطابها، على نحو يتمسك بالأصول ويستوعب متغيرات العصر. وفي نظر أساتذة المذاهب المعاصرة، يصعب على دعوة أو تيار أن يصمدان أمام طوفان الحرب المتجددة، كما فعلت الدعوة السلفية. وما هو يعتبرونه أحد شهود موافقتها صحيح الفطرة والدين. كما يؤكد الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل الذي قال:"ما يثار من افتراءات حول الدعوة السلفية هو إعادة إنتاج لاتهامات قديمة سبق مواجهتها والرد عليها، فهي رؤى لا تحمل جديداً ... إذ لا توجد حركة إصلاحية واجهت من التحديات والظلم والبهتان ما واجهت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب على رغم أنها قامت على ثوابت الدين الحق بشهادة المنصفين". شاهد ليس من أهلها! وحول الموقف من شهادة الجابري، يشير أستاذ آخر للمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام، هو الدكتور خالد الغامدى إلى أن"الفيلسوف الجابري إذا تكلم كلاماً وهو ليس من أهل هذه الدعوة ولا من المتعاطفين معها أو الداعين لها كما نعلم، فهو يحكي تأثيراً حقيقياً عن أثر هذه الدعوة في العالم الإسلامي، وإذا أردنا أن نبين سبب هذا التأثير العميق فهو يرجع إلى أمور عدة، منها أن هذه الدعوة موافقة للعقل أولاً، إذ ليس فيها أسرار ولا طلاسم ولا ما ينبغي أن يعرفه إلا رجال الدين أو الإكليروس أو الكهنوت، فهي دعوة توافق العقل وقواعده المنطقية، سواء في الاعتقاد أم الفقه أم العبادة. ومن ذلك أن الدعوة السلفية موافقة للفطرة التي فطر الله الخلق عليها من حيث التصورات والعبادات والشعائر التي يمارسها المسلمون. ومن ذلك أن هذه الدعوة تنطق بما تأوي إليه نفوس الشعوب الإسلامية من أنها تنشد الاستقرار والأمن وعدم إثارة النعرات أو الثورات، وأنها تطالب بتصحيح العقائد والتصورات والعبادات وأنها تسعى إلى تحقيق آمال المسلمين من تحقيق الحرية والعدالة وطرد المحتلين الغاصبين لبلاد المسلمين". وعلى عكس ما يساق من تهم، أعاد الغامدي توسّع صدى الدعوة السلفية إلى كون"أهلها ومن ينافح عنها لديهم دعوة تسامح ووضوح وصدق حتى مع المخالف، فتجد المخالف أو المحايد أو المسلم العامي ينجذب إلى هذه الدعوة لشدة وضوح رسالتها وصفاء مشربها". العولمة تنتصر للدعوة أم الثورة؟ وإذا ما عدنا إلى حجم أصداء الدعوة السلفية آنياً بعد أن علق الجابري على صداها في عهد ميلادها الأول، نجد تقارير غربية تبدي ذهولها من توسع جماهيرية نهج السلفيين على رغم الحرب الضروس ضدها في أعقاب الحرب على الإرهاب. أحد تلك التقارير، أعدّت لحساب موقع إذاعة هولندا العالمية، لاحظ كاتبه أن الشبكة العالمية"الإنترنت"التي يفترض أن تجنح نحو الحداثة، أخذت في تمديد تأثير السلفية حول العالم. وقال التقرير: في هولندا تراهم بشكل متزايد، نساء منقبات، ورجال بلحى طويلة و سراويل قصيرة. والسلفية المبنية على المنهج الوهابي الذي انطلق من المملكة العربية السعودية، هي أيضا التيار الذي ينتمي إليهبعض المتطرفين. إلا أن السلفيين الجهاديين العنيفين، لا يشكلون إلا أقلية داخل حركة كبيرة جداً، تتمتع بشعبية متنامية في أوساط الشباب. وتنشط السلفية في مناطق كثيرة ومختلفة من العالم، لدرجة يتساءل معها الباحثون ما إذا كان الأمر في هذه الحال يتعلق بحركة واحدة. يرى برنارد هيكل من جامعة برنستون أنها مجرد حركة واحدة ويقول"يرغب السلفيون في العودة إلى الطريقة التي كانت تعيش عليها الأجيال الأولى من المسلمين، وهم يؤمنون بتأويل حرفي وقاطع للقرآن. إن رؤيتهم للإسلام قوية ومتجذرة في التقاليد الماضية، التي تؤثر كثيراً وفي كل مكان في العالم، على الشباب المسلم". ويقول الباحث النروجي توماس هيغهامر"في زمن يعرف تغيرات كبيرة، ويفتقر إلى بدائل لاهوتية، تشكل السلفية بيقينياتها البسيطة سنداً قوياً للشباب الباحث"عن نفسه وعن الحقيقة . وبحسب رول ماير من جامعة رادبود في نايميخن، فإن السلفية واحدة من أسرع الحركات الدينية نمواً في العالم، إذ يقول إن"السلفيين يتواصلون خصوصاً عبر الانترنت. وبتوافر هذه الوسيلة، انتشرت السلفية عبر العالم في وقت وجيز". ويكشف التقرير الذي تم تداوله على نطاق ضيق أنه منذ تفجيرات نيويورك في العام 2001، تُؤخذ السلفية بجدية تامة تخضع الان لمجهر أجهزة المخابرات في مختلف انحاء العالم، وعلى الرغم من ذلك، فان الدراسة الأكاديمية للظاهرة، تعرف بطئاً شديداً، وهو ما يدهش رول ماير، سيما وأن المادة متوافرة على الانترنت. في نهاية الأسبوع الماضي، نظم ماير بالتعاون مع معهد ليدن لدراسة الإسلام في العالم المعاصر، ندوة دعا إليها أهم الباحثين الدوليين في السلفية لتبادل الآراء حول هذه الظاهرة المتنامية. وعلى الرغم من أن أفكاراً ورؤى شديدة الخطورة، روج لها التقرير في بعض محاوره التي حذفنا، إلا أنه يبقى أحد الأدلة على توسع رقعة أثر دعوة بدأت برجلين، ثم تمددت إلى شعوب وقبائل، لا تزال تجد فيها نهج الصواب على رغم التشويه والتحريف.