كنا وقفنا عند حوار مع"المؤسس"في مقال سابق، وبما أننا اليوم نعيش الذكرى ال77 ليومنا الوطني، فإن الحديث عن ذلك الرجل الفذ وبعض حواراته مع رعيته تتأكد أهميته وتزداد حاجة الناس إليه، خصوصاً أبناء الجيل الحالي الذين لا يعرفون عن قصة تأسيس وطنهم ومؤسسه شيئاً يذكر. رحم الله الملك عبدالعزيز، فقد جعل للقضاء مهابة وللقضاة مكانة وتمسك بشرع الله فأعزه الله، وحكم بكتاب الله فمكنه الله، وتصاغر أمام القضاء فعظم وكبر. وله مواقف في هذا الأمر تكشف عن جانب من إنسانيته السمحة، وتصور نفسيته المتواضعة، وتجسد عدله ورفقه برعيته. ومن ذلك انه في ذات يوم، بعد وفاة والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل، قابله رجل من عامة الناس بعد صلاة الفجر ودار بينهما الحوار الأتي: قال الرجل وبكل بساطة وجرأة ومن دون ألقاب: يا عبدالعزيز إن لي في رقبة والدك الإمام عبدالرحمن ديناً قدره 100 ريال. قال الملك عبدالعزيز: وهل عندك شهود؟ قال الرجل: شاهدي هو الله. قال الملك: ونعم بالله، لكن يا أخا العرب لا أستطيع أن اصنع لك شيئاً إن لم يكن لديك بينة تثبت ادعائك. قال الرجل: بيني وبينك شرع الله. قال الملك صدقت. وانصرف الاثنان من المسجد، وتوجَّه الملك عبدالعزيز مع هذا الرجل إلى قاضي الرياض آنذاك الشيخ سعد بن عتيق. وطرق عبدالعزيز الباب، وحين سمع الشيخ سعد صوت الملك عرفه، وعلم أن بصحبته رجلاً آخر، فقال الشيخ سعد للملك: يا عبدالعزيز؟ أجئت ضيفاً أم خصماً؟ قال عبدالعزيز: بل خصماً. قال الشيخ سعد: إذاً اجلس يا عبدالعزيز أنت وخصمك على الأرض، فجلس الخصمان الملك والمواطن، وجلس القاضي على عتبة الباب. إنها البساطة والتواضع والعدل والإنصاف، إنها صورة ورَّثت الحب وزرعت الولاء وغرست الصفاء، فأي مكان في الدنيا يوجد فيه هذا المشهد؟ ملك وقاض ومواطن من عامة الشعب يجلسون للمحاكمة وأمام منزل القاضي تكون الخصومة، ويحكم القاضي فوراً ويرضى الخصم بالحكم. ثم بعد ذلك يلتفت الشيخ سعد الى الملك عبدالعزيز ويقول له: الآن أنت ضيفي. ويدخل الملك منزل الشيخ ويشرب القهوة ويتبادل معه الأحاديث. رحم الله الملك الراحل، تواضع فرفعه الله، وأجل الشرع فأجله الله، وعدل فأكرمه الله. وصورة أخرى يزدان بها تاريخ الراحل ويفاخر بها كل مواطن، إذ أشرقت صورة الملك حين سيطر على مشاعره وكبح كبريائه عندما سمع كلاماً فيه غلظة الصحراء وجفاء الأعراب وخشونة البادية. القصة كانت مع بدوي اعرج حافي القدمين، وسمته الصحراء بقسوتها وجفائها. ففي ذات مرة، وبينما كان الملك مسافراً إلى شقراء، قابله في الطريق هذا البدوي الأعرج وصرخ بأعلى صوته: أوقف مطيتك يا عبدالعزيز، أنا رجل فقير مظلوم، لا تتركني لغيرك. وتوقف الملك العظيم ليسمع كلام هذا الأعرابي الذي ملأ المعسكر صراخاً وصياحاً. ورفع الأعرابي رأسه، وخاطب الملك وهو على راحلته بخطاب الأعراب الجفاة وقال: يا عبدالعزيز اتق الله! الكبرياء له سبحانه، أنت ? مثلي - رجل مخلوق ضعيف، العظمة لله جل جلاله، لا تنظر إلي من فوق راحلتك، تواضع فقد نصرك الله بالأمس فأعطه حقه من الشكر. كلام من القلب لا تشوبه رهبة الملك ولا عظمة السلطان، وحديث من أعرابي صادف الملك فأوقفه وحاوره، وتجرأ وقسا، وهذه الصحراء طبعت رجالها بهذه القسوة. سيطر الملك العظيم على مشاعره، وانتصر على نفسه وعامل الرجل برفق، وأناخ راحلته، ونزل إلى الأرض، ثم مد يده وصافح الأعرابي وقال: مرحباً بك يا أخا العرب، لقد أمرتني بخير، ما اسمك؟ قال الأعرابي: اسمي مطلق. قال الملك: من أي القوم أنت؟ قال الأعرابي: من الإخوان، من القوم الذين قاتلوك بالأمس. قال عبدالعزيز: ما مظلمتك؟ قال الأعرابي: لقد اقتطع أمير الدوادمي أفضل الأراضي المشاعة بين المسلمين لإبله، ومنعهم من الرعي فيها، وحين دخلها جملي صادره ووضع"وسمه"عليه، وحاولت نصحه وأن يتقي الله، لكنه طردني. وتأثر الملك الإنسان والبطل المؤمن، ولعله ذرف دمعة لمعاناة هذا الفقير المسكين، ولحسرة هذا المواطن الضعيف، فهو الملك الوقاف عند حدود الله، الناصر لشرع الله، المانع من الظلم والجور. وهدأ من روع المسكين، وربَّت على كتفه، وطلب ورقة والناس ينظرون، إنه مشهد إنساني شهده العشرات من الرجال، انه إعلان للأمة ولأمرائها أينما كانوا إنه لا ظلم ولا ضيم. وكتب الملك على الورقة: من عبدالعزيز إلى أمير الدوادمي، أعط لمطلق جمله وأعطه من جمالك جملاً آخر نكالاً لك على ظلمك له، وحذار أن يتكرر هذا منك مع أحد من المسلمين. ناول مطلق الورقة، ثم ركب الملك ذلوله، وعندما تحرك الركب ونظر الأعرابي في الورقة جرى خلفهم وصاح: ريض يا عبدالعزيز، أي قف. فوقف الملك وقال: انتهيت يا مطلق، هداك الله فماذا بقي؟ قال الأعرابي: رسالتك لم ترشمها، أي لم تختمها. قال الملك: أمير الدوادمي يعرف خطي. قال الأعرابي: لا، اعطني ختمك. قال الملك: احضروا حبراً وختم الكتاب، وانطلق - رحمه الله - لغايته. أما الأعرابي فكأني به يدعو ويشكر ويتحدث ويفاخر. هذه صورة رواها الثقات ودونها التاريخ، تحكي البساطة والرفق، وتنطق بالعدل والتسامح. اعرابي قاتل الملك وتمرد مع المتمردين وند مع البغاة، ومع ذلك يعترف وينشد عدل الملك ويطلب إنصافه، ويقابله الإنسان العظيم بالرفق والبساطة. إنها مكارم الأخلاق التي ساد الملك الإنسان بها الناس. وأحسب الشاعر أبا العتاهية يعنيه بقوله: إذا أردت شريف الناس كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي عظمت في الله نعمته وذاك يصلح للدنيا وللدين