أحب القطار ولا أحب الطائرة. الطائرة تنط بي من مكان إلى آخر، مغمضة القلب والعينين، القطار يجوب بي، يفهمني الدنيا. رؤوس تميل مع اهتزازاته. من خلال نوافذه ترى أضواء القرى، تغط في نوم عميق. مدقق التذاكر بسيط مثل عمله، يتناول التذكرة يثقبها بآلة يحملها ويمشي بين الصفوف. يصفر القطار تتباطأ سرعته، إنها محطة أخرى. وبانوراما أخرى يهبط ناس وصعد آخرون. النافذة تواجه بوابة المحطة. ناظر المحطة وحارسان وعامل يحمل فانوساً كبيراً يعبر السكة إلى حيث التقاطع. بشر، تتغير وعادات تتبدل وألوان وأكياس وسلال وروائح أطعمة. أطفال يتعبون أمهاتهم. صبية يذهبون في رحلة استكشاف. يعاود القطار صفيره، يتحرك مرة أخرى وتبدأ الرؤوس اهتزازها. رجل يدثر زوجته إلى جانبه. يصفر القطار، تومض بعض الأنوار. أعمدة الهاتف تركض إلى الوراء. أعمدة الكهرباء تعدوا ورائها... تعدها وحين يختفي النور تكف عن العد. عصافير تتجمع على أسلاك الهاتف وعصافير القلب تفرح باللقاء. إنه القطار المحرومين منه، ولذا تراني دائماً أحلم بسكة حديد لا تربط جدة حيث أسكن ببيروت أو بالشام أو مسقط. لا... لم أحلم بهذا بعد. لكنني أحلم بقطار يربطني بالرياض وأبها ومكة وكل مدن وقرى السعودية. ليس لأنني لا أحب الدباب والوانيت والجمبو جت وأشعر بأكثر سلامة وأمان بداخل قطار، ولكن لأنني أعرف فوائد السفر بالقطار، وأهمها أنها تصنع ثقافة وأدباً رفيعاً وحضارة أرقى. آه لو تقرأ عن أجمل القصص والروايات التي يكون فيها القطار وكأنه بطل الرواية. فالسفر بالطائرة لا يتيح لك رؤية الناس وحركتهم وطبيعة حياتهم وجغرافية أرضهم. في الطائرة"تنط"من جدة إلى الخبر. فيفوتك صفاء الربع الخالي وتهامة وعسير وقرى نجد وأبواب الحجاز وكل ما بت تسمع عنه عن مملكتك ولا تعرفه. تصوروا أنني لا أعرف كيف يفكر الناس في أبها فرضاً أو كيف أميز أهل سامطة عن أهل الجوف. وحتى لا أذهب بعيداً أنا لا أعرف كيف يفكر الينبعاوي وهو جاري علماً أنني أعشق غناءهم. ولكنني أطلب وأطالب بتلك المفاهمة وذلك الانسجام في ما بيننا. وأظن أن صرير عجلات القطار سيوقظ تلك المشاعر في قلوبنا كلها لمزيد من الوحدة والتلاحم. وصفارته قادرة على ذلك وعلى بث النشاط أيضاً وتكدس الناس في عرباته سيجمع بيني وبين أهلي في مملكة طيبة آمن، حماها الله. ولنا عبرة في ذلك من دول متقدمة مثل اليابان التي عملت منذ نهضتها على إنشاء سكة حديد تربط ما بينها فأصبحت مثالاُ، إذ ربطت مدنها بعضها ببعض اقتصادياً واجتماعياً فازدادت وطنيتهم وإنتاجيتهم. وحتى أميركا المبعثرة تاريخياً لم ترتبط أجزائها إلا بعد إنشاء شبكة قطارات. وكذلك هي الحال في أوروبا. ما أجمل وأمتع السفر في قطارتهم التي تلم شملهم وتسهل تنقلهم ودمجهم بعضهم البعض. هذا حلم يعللني قلب انه سيتحقق قريباً! فأنا أريد أن أمضى إلى كل أرجاء المملكة أتعرف عليها وأريد أن اقبل أرضها شبراً شبرا. خلف الزاوية: هل قلت عودي من غيابك عودي سأعود لكن في الغياب وجودي فإذا استبد بك الحنين لعودتي أنظر لديك نسائمي وورودي