الإجازة الصيفية لا يستغني عنها أي شخص مقتدر مادياً، فهي تنقل الانسان من عناء عام كامل من العمل ان كان موظفاً، ومن الدراسة المضنية ان كان طالباً، رجل الأعمال يحتاج للراحة، والجميع سواسية، رجالاً ونساء، والترويح عن النفس حق مشروع، وكنا في السابق ? وأعني الثمانينات والتسعينات ? لا نعرف مكاناً نقضي الصيف في ربوعه الا مدينة الطائف. كانت الحكومة تنتقل للطائف صيفاً لمدة اربعة اشهر، وجميع الأسر الموجودة في الرياض أو في جدة وغيرها من المناطق وبمختلف الطبقات لا يقضون صيفهم إلا في الطائف... هذه المدينة الجميلة في طقسها البارد، والأمطار التي تشتهر بها تزيدها حسناً وجمالاً، فالمصطاف في الطائف يشعر بالسعادة العارمة، فهذه المدينة علاوة على طقسها العليل تزخر بفواكه لا يوجد مثيل لها من الرمان والعنب والحماط والبخارى والمشمش والبرشومي، من ألذ ما يمكن، وتشتهر ايضاً بأكلاتها التي تتميز بها من السليق والمندي والغوزي والزربيان والسلات، ولا ننسى المطبق والمعصوب والفول، وكذلك الأكلات التي قدمت مع من هاجر من بلاد آسيا الوسطى هرباً من الشيوعية، واستوطنوا مدينة الطائف، كالتميس البخاري والمنتو واليغمش والأرز البخاري، وكل ما لذ وطاب. وفصل الصيف في السابق الكل ينتظر قدومه... فنجد أعضاء العوائل يتمتعون بقضاء اوقاتهم في الغابات الجميلة التي تخترقها الأودية الهادرة بمياه الأمطار، فيقضون يومهم في هناء ورغد، لم يكونوا يعرفون باريس أو لندن أو جنيف أو كان، إنما الطائف ولا غيرها. وكانت الاحوال بسيطة، والأنفس متحابة، وما كان يعكر صفوهم إلا عندما يقترب وقت العودة، وانقضاء الصيف ويعودون بذكريات جميلة يحكونها لاقاربهم ومعارفهم ممن لم يحالفهم الحظ بمشاركتهم اجازتهم، وكلهم أمل في ان يعودوا مرة اخرى وبشغف اذا أذن الله لهم بذلك، وبعد ما من الله على هذه البلاد بالطفرة الأولى، وتدفقت الأموال من كل جانب، وبدأت المشاريع التي لم يعهدها البلد، والنهضة الجبارة التي حلت علينا، وانتعاش سوق الأراضي والمساهمات، لحد أن الشخص ينفق الألف ريال ويأتيه عشرة بدلاً منها، ولدرجة ان كثيراً من موظفي الدولة تركوا العمل الحكومي واتجهوا للعقار، واصبح كل موظف لديه مكتب عقاري، وشاعت كلمة"الشيخ"تطلق على كل من اغتنى من هذه الطفرة، وصرنا لا نسمع الا"الشيخ فلان"و"الشيخ علان"، لدرجة أننا تشبعنا مشيخة حتى لو كانت في غير محلها أو معناها الأساسي. فلما تشيخنا جميعاً بدأنا نتنكر لمدينتنا الجميلة القديمة، حتى أصبح من يذهب اليها يكون مكان سخرية، لكونها غدت مدينة"الضعوف"لا مشيخة لهم وانما من العامة، أما الذين"مشيخوا"فقد أداروا دفتهم الى أوروبا وما ادراك ما أوروبا... الله أوروبا مرة واحدة! نعم! فأما بنعمة ربك فحدث لذلك تكون مجتمعات"المتشيخين"يتباهون في ما بينهم، فتبدأ الأسئلة:"وين ناويين هذا الصيف... والله ناويين جنيف، يووه ليش ما تجون باريس؟ والله يا حياتي بدري على باريس، نخليها في الآخر، ودنا نشوف"الكركفان"، وبعدين وش يوديكم على باريس ها الحين، ما فيها أحد، كل الشعب متجمع في جنيف، والله وناسة ومطاردة على البحيرة، وبعدين في قهوة الهيلتون، وتالي الليل في"البرزدنت". لا تفوتونها... اما المجموعات الأخرى ? شباباً وشابات ? فالسؤال نفسه: وين ناويين إن شاءالله؟ هو فيه غيرها"كان"؟ وبعدين باريس، وانتم، لا حنا بنروح لندن. وع وشي فيها لندن؟ ما فيها شي يوسع الصدر، كلها هنود وباكستانيون. تعالوا معنا ل"كان"، والله تستأنسون، بحر وشباب رايحين جايين، والقهاوي الطاولات بالحجز. وكل واحدة تسأل الأخرى والواحد يسأل الثاني: كم شنطة معك؟ والله ما كثرت، بس خمس شنط، ثلاث كبار للفساتين أو البدل والسبورات، والرابعة للمجوهرات والماكاييج والعطور، والخامسة بس للجزم، لازم نكشخ في اليوم ثلاث مرات. على فكرة ترى باريس وكان ما هي مثل القاهرة. اللي تحوم الكبد ما تقدر تمشي فيها من الزحمة، وترى ما يجيبها الا الكراكيب. لازم نلفت نظر الجميع عسى الله يفتح علينا، صبرنا اللي فيه الكفاية؟ هذا المنوال الدارج قبل السفر بين الأسر، وعندما تطأ أقدامهم لمدينتهم المفضلة فمن حط في باريس، فأول ما يحرص عليه هو تفريغ الملابس وارسالها ل"اللوندري"كي يتم كويها وترتيبها، فهذا فستان للمساء، وهذا جينز محزق للعصر، وهذه البلوزة والتنورة للظهر. باريس بلد الموضة والشانزليزيه مجمع الخلان. والشباب كذلك، واكثر ما يحرصون عليه القمصان المزركشة والشعر"المسشور"يمكن ثلاث مرات في اليوم، وبصدر مفتوح.... والحظيظ من كان في صدره شعر لأنه يغري. حتى ان بعض الشباب المقتدر والبطران مادياً يشحنون سياراتهم موديل السنة"فراري"،"لمبرقيني"،"لكزس"،"سبورات"بالطبع وبلوحات سعودية. والشحن بالطائرة. فكم من المبالغ تدفع لشحن السيارة الواحدة؟ كل هذا من أجل ان نلفت الأنظار. وربما يستأجرون ما يسمى"البودي غارد"لحمايتهم. من ماذا؟ لا أعلم، ولكنها البطرة ومركّب النقص من مستحدثي النعمة. كبار الأجسام صغار العقول. ثم يبدأ الانطلاق في الشارع الشهير ذهاباً واياباً، عرض الأزياء وقلة حياء، شوفي هالشاب وش زينه يجنن نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء ثم بعد ان تتعب الاقدام من المشي لا بد من الاستراحة في إحدى المقاهي المكتظة واللافتة للنظر، طاولات متجاورة لكي يسمع بعضهم بعضاً. ثم تبدأ التهكمات على خلق الله. شف ها الشيفة وش شينها. شف مشيتها الله يفشلها فشلتنا. والثانية تقول لخويتها شوفي ها اللي محزق نفسه ببنطلون ها الجينز كنه ربيانه. شوفي شعره مثل شعر القنفذ ملبّدة بعلبة"جل"لا شف ها الدزيز طالب اسبكاتي شف وشلون يأكل ما يعرف"الاتيكيت". يسأله خويه: وش"التيكيت"؟ يعني يربط الفوطة في رقبته قاعد الأكل يبطبط على قميصه. الظاهر أنه قروي أول مرة يسافر: قم بس نأخذ لفة أحسن. هذا هو نمط روتين سائحينا في باريس او جنيف او كان، لا يعلمون عن المعالم السياحية شيئاً ولا المتاحف، ولم يقوموا بزيارات لمدن أخرى للاطلاع على معالمها والتعرف على عاداتهم وتقاليدهم، أوروبا يمكن للسائح الحقيقي عدم الركون طوال إجازته في شارع واحد لا يحيد عنه أو صالة فندق ولا غيره، او بحيرة يدور حولها والنتيجة عرض ازياء، وإبداء مفاتن، هناك مدن يستطيع السائح ان يذهب اليها بسيارته او في القطار وكل يوم في مدينة، ولكن نحن لا نعرف هذه الأشياء ولا نهتم بها ولا نحبذها! فكما ذكرت السياحة في مفهومنا تتأذى منها السياحة وحتى سكان المدن التي نقيم بينهم يتأذون ويشمئزون من تصرفاتنا في ما بيننا، والأعمال المشينة التي تصدر منا. لم نكن مثالاً يحتذى به، ولا نعرف من السياحة الا"الصياعة"وقلة الأدب والبذاءة والمغازلة وماشابهها، اصبحنا لا نحترم انفسنا ولا نتمسك بتعاليم إسلامنا كي يحترمنا الآخرون. صرنا أكثر انحلالاً وانسلاخاً منهم، لكنهم يتعاملون ويتصرفون ويأكلون ويشربون من دون ان يلفتوا نظر الآخرين، ولا تصدر منهم أي اساءة، نحن شعب متخلف بكل المقاييس، ولا نشرف في أي مكان نذهب إليه، إلا من رحم الله. عندما ننظر لشبابنا وشاباتنا والكيفية التي يتعاملون بها مع بعضهم البعض، وفي تصرفاتهم وملبسهم ومشربهم، نتمنى ان تسد الأبواب في وجوههم، فلا يجدوا من يستقبلهم لأنهم عالة على الدين والوطن وقدوة سيئة... فهل نراقب أنفسنا ونخجل من تصرفاتنا غير المحسوبة؟... لا أظن ذلك! [email protected]