عارض الدكتور عدنان بن علي النحوي القول بحرية المعتقد في الإسلام بإطلاق، واتهم أستاذ الفقه في جامعة الإحساء الدكتور قيس المبارك بأنه"جعل الحرية في الإسلام مثل الحرية في العلمانية"! ومع أن المبارك شدد على أن"الحرية في أصلها مطلقة، إلا أنها قد تأتي مقيدة أحياناً"، إلا أن النحوي أصر على أن"الصورة التي يعرضها القرآن الكريم تختلف كلية عن الصورة التي عرضها الأخ الكريم الدكتور قيس، فهي كما يقول حرّية شاملة جعلها عامة لجميع اختيارات الإنسان، شاملة لحرّيته في القول والاعتقاد، من دون أن يذكر الأسس التي قامت عليها الحرّية وقل الحقّ من ربكم، ونتيجة هذه الحرية من حساب وجزاء وعقاب". جاء ذلك في رد بعثه إلى"الحياة"، ناقش فيه رؤية مغايرة عن التي طرحها المبارك في الصفحة نفسها قبل نحو أسبوعين. وفي ما يأتي نص رده مختصراً: عندما نعرض قضيّة نستشهد عليها بآية أو حديث شريف، يُفضّل ألا نذكر جزءاً من آية فقط، ونغفل الجزء الآخر، كما يفضّل أن نورد جميع الآيات المتعلقة بالموضوع المطروح وجميع الأحاديث الصحيحة كذلك، حتى يكون العرض والرأي أكثر دقّة وأمانة، ذلك لأن ما يعرضه منهاج الله - قرآناً وسنة ولغة عربيّة - هو الحق المطلق المتكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو من عند الله. لقد استشهد الدكتور قيس بجزء من آية في سورة الكهف، وأغفل بقية الآية والآيات الأخرى التي تلتها والمرتبطة بها، وأغفل آيات أخرى كثيرة في هذا الموضوع الحساس الذي يدور عليه معظم القرآن الكريم. ونذكر الآن الآية الكريمة المعنيّة والآيتين اللتين تلتها، لنرى كيف أن الصورة تختلف كلية: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً. أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرائك نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف: 29-31] النقطة الأولى المهمة في هذه الآيات الكريمة، أن الله يأمر رسوله r، ويأمرنا كذلك أن نقول الحقّ من ربنا، الحقَّ الكامل بتصوره الكامل حتى لا نكون أخطأنا في جنب الله وظلمنا أنفسنا. والحقُّ من عند الله، الحق الكامل الذي أُمرنا أن نبلّغه للناس هو كل ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ليعلم الناس هذا الحق بتمامه، ثم يفكِّروا، ثم يقرروا: أيؤمنون أم يكفرون، ثمّ يتحملون مسؤولية القرار الذي يتخذونه. ولكل قرار نتيجة ومسؤولية عند الله. فمن آمن فله الجنة ومن كفر فله عذاب النار . إن الله لا يُريد أن يُفرَضَ الإيمان على الإنسان فرضاً. يريد الله أن يخرج الإيمان من داخل الإنسان من فطرته التي فطره الله عليها، وغرس فيها الإيمان والتوحيد ما دامت الفطرة سليمة لم تفسد بالأهواء والآثام ولم تنحرف: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 30-32] إن الله سبحانه وتعالى يذكّر عباده ويبيّن لهم ويأمرهم أن يؤمنوا ولا يكفروا أبداً. فقضية الإيمان والتوحيد هي أخطر قضية في حياة الناس، وأكبر حقيقة في الكون كله، وهي مدار الآيات والأحاديث في القرآن كله والأحاديث كلها. وعندما يأمر الله عباده بالإيمان، فإنه وفّر لهم جميع الأسباب التي تدعوهم إلى الإيمان وتجنبهم الكفر ونتائجه المهلكة: فقد جعل الإيمان أولاً في فطرة الإنسان، في فطرة كلّ إنسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول r قال: "ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة أي على الإيمان والتوحيد، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"[الشيخان وأبو داود] وإضافة لفضل الله ورحمته على عباده بالفطرة التي فطرهم عليها بعث لهم الرسل عبر التاريخ كله حتى ختموا بمحمد r، يدعونهم بإلحاح إلى الإيمان والتوحيد: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36] هذه الصورة التي يعرضها القرآن الكريم تختلف كلية عن الصورة التي عرضها الأخ الكريم الدكتور قيس. فهي كما يقول حرّية شاملة جعلها عامة لجميع اختيارات الإنسان، شاملة لحرّيته في القول والاعتقاد، من دون أن يذكر الدكتور قيس الأسس التي قامت عليها الحرّية وقل الحقّ من ربكم، ونتيجة هذه الحرية من حساب وجزاء وعقاب. لقد جعل الحرّية في الإسلام مثل الحرّية، في العلمانيّة التي أغفلت الأسس، وعزلت الدنيا عن الآخرة، فأغفلت الحساب والجزاء والعقاب. وشتان بين الحالتين. والآية الأخرى التي استشهد بها الدكتور قيس، هي كذلك مقيّدة بالحق من عند الله، الحق الكامل، وبالمسؤولية والحساب، والجزاء والعقاب. ولكن الدكتور قيس ذكر جزءاً من الآية وأغفل الأجزاء التي توضح القضية لنقول للناس الحقَّ من عند الله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 256،257] فهنا كذلك بينت الآيات أن الرشد هو الإيمان، وأنّ الغيّ هو الكفر، وأن من آمن فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وإن وليه الله يخرجه من الظلمات إلى النور، وأن الذين يكفرون وليهم الطاغوت يخرجونهم من نور الفطرة التي فطروا عليها إلى ظلمات الكفر ليكون مصيرهم النار خالدين فيها. فللحرّية في الإسلام أسس تقوم عليها ونتائج تبلغها من مسؤولية وحساب وجزاء وعقاب. أما حرّية القول، فهي في الإسلام ليست متفلتة ولكنها مقيّدة بتشريع ربّاني وقانون يضبط الكلمة والسلوك والعمل. فليست الحرّية في الإسلام متفلتة كما هي متفلتة في بعض جوانبها في المجتمع العلماني. فمن يسرق في الإسلام تقطع يده، ومن يزنِ يجلد أو يرجم ومن يقتلْ يُقتل، وهكذا. فالحرية في الإسلام منضبطة بشيئين: أولاً بالإيمان والتوحيد وقواعده التي تمنع عن شر وفساد، وتدفع إلى خير وصلاح، وثانياً بالتشريع الحق من عند الله. حرية الغواية الحرّية المتفلتة التي يدعو إليها الدكتور قيس هي حرية الغرب العلماني التي أفسدت الحياة البشرية بالخمور وأشباهها، وبالفجور والزنا والفاحشة، وبالعدوان الظالم القاهر بالسلاح المدمر المبيد، حتى ملأوا الأرض مجازر وأشلاءً ودماءً وفتناً بين الشعوب، وبين الشعب الواحد، هي حرّية لا أسس لها إلا الأهواء والمصالح، ولا تخضع لمسؤولية ولا حساب! وأسأل أخي الكريم الدكتور قيس وهو يدعو إلى الحرّية الشاملة كما وصفها، أسأله أيعطي ابنه إن أراد الخروج من البيت الحرّية في أن يذهب حيث يشاء وأن يفعل ما يشاء، حتى لو علم الأب أن ابنه ذاهب إلى مكان فيه هلاكه وموته؟ ألا يمنعه ويردعه؟ هذه القضية هي قضية تاريخ الإنسان كله، قضية الإيمان والتوحيد يبلغها الرسل والأنبياء ويحاربها الكفار والمشركون بشتى الوسائل الخفيّة والمعلنة. هؤلاء المشركون الذين نؤمن بأن مصيرهم بعد الموت إلى النار خالدين فيها، فمن هو الذي يتحمل مسؤولية هلاكهم في جهنّم؟ من يتحمل المسؤولية بعد أن صُدَّ عن سبيل الله وشوّهت قضية الإسلام وشوّهت قضية الإيمان والتوحيد، وزين الكفر والضلال والفساد، وهاجت الفتن. انظر يا أخي الكريم لو أنك تسير على طريق تعرفه، وأمامك رجل يسير على الطريق ولا يعرفه، ولا يعرف أن أمامه بعد قليل هوّة فيها نارٌ تلظى. فلو استمر في سيره لسقط فيها وهلك، وأنت تعلم هذا! أكنت تتركه يسير ليهلك، أم أن واجبك أن تسرع إليه فتنهاه وتنصحه، فإن أبى فإنك تمنعه بالقوة من أن يمضي إلى هلاكه، ولا نقول إنه حرٌّ فليهلك، لأن واجب الإنسان المؤمن أن يوفر للناس سبل النجاة. وإن كان سبحانه وتعالى أعطى للإنسان حق التفكير واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، لكن ذلك يكون بعد أن يبلغه الحق من عند الله: وقل الحق من ربكم! فإن أبى أن يعود إلى الإيمان إلى الحق الذي بُلِّغه، وأصرّ على الإفساد في الأرض، فإن الله شرع قتاله لحماية البشرية من الفتنة والجريمة والفساد والشر، ولحماية الناس من أن يزيَّن لها الكفر فيزداد الهالكون! إن قضية الإيمان والتوحيد ومخالفتها والاتجاه إلى الكفر قضية خطرة، لا تكون عاقبتها عقوبة دنيوية كالسجن ومثله، ولكنها عقوبة شديدة نار جهنم يخلّد فيها الكافرون. هذا هو الحق من عند الله الذي يجب أن يبلّغ للناس كافة، وأن يوفر لهم أجواء الإيمان وإغلاق أبواب الكفر، وبعد ذلك كله، فإن أصرّوا على الكفر، شرع الله قتال الكافرين لإنقاذ البشرية كلها من هلاك محقق! فعن أنس رضي الله عنه عن الرسول r قال:"أُمِرْت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلّوا صلاتنا، فقد حَرُمَت علينا دماؤهم وأموالهم، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"[ابن حبان] هذا هو الحق من عند الله. وقل الحقُّ من ربكم! أصبحنا نحن المسلمين اليوم نحرص على إخفاء ما يخالف العلمانية أو الغرب من ديننا، حتى أصبح بعضنا يرغب في إخفاء كلمة"جهاد"وغيرها من الحق الذي جاء من عند الله، وحتى مال بعضهم إلى تحريف الحديث الشريف الصحيح السابق، فحذفوه كله إلا الجملة الأخيرة:"لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"! وتوالت فتاوى كثيرة مشابهة لهذه، يحرّف الآيات والأحاديث بصورة أو بأخرى. إننا مدعوّون إلى أن نبلّغ الحقّ كاملاً كما جاء من عند الله إلى الناس كافّة ، وكما أنزل في الرسالة الخاتمة على محمد r، ثم نتعهدهم عليه، على أن يُعدَّ المسلمون القوة كما أمرهم الله ليحسنوا تبليغ رسالته، وليحسن الناس السماع إليها باهتمام وانتباه، فالأمر جدّ خطر! موت، ثم بعث، ثم حساب، ثم جنّة أو نار! الإسلام يبني الإنسان المؤمن الذي يحمل رسالة في الحياة ومهمّة وأمانة، يجاهد من أجلها في هذه الحياة الدنيا بالكلمة الطيبة والحكمة والموعظة وبالجهاد والقتال في سبيل الله كما أمر الله، لكل حالة حكمها، ولكنه حكم عام للإسلام ماضٍ مع الزمن كله، بين فترات ابتلاء من الله وتمحيص، ليرى الله من يقول الحقّ بتمامه من عند الله! إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق: 13، 14]