النقاش حول "إصلاح التعليم الديني" في السعودية وتطوير المناهج بوجه عام، كالنقاش حول الاسلام في الغرب، لم يعد بالشيء الجديد، إلاّ أنه في السنوات الأخيرة التي أعقبت 11 أيلول سبتمبر قيل وكتب الكثير عنه. وكما أصبح"الاسلام"هنالك موضوعاً لمئات الكتب والمقالات والمؤتمرات - كما يقول الكاتب شيرين هنتر - فإن ما كتب من المقالات وما نظم من الندوات وورش العمل عن المناهج، والدينية خصوصاً"محلياً"أكثر من أن يحصى. وإذا جاز لنا أن نستعير قول الكاتب"هنتر"وهو يتحدث عن الاتجاهات الأيديولوجية لما كتب عن الاسلام في الغرب بقوله:"لا شك في أنه قد تم إنجاز بعض الأعمال القيمة عن الاسلام وعن الثقافة والقيم الاسلامية، ولكن الكثير من الدراسات كانت تتناول الأمر من زاوية واحدة مثيرة للفتنة ومشبعة ببعض العواطف والأيديولوجيات"فإن ذلك ينطبق إلى حد المثلية على ما كتب عن البرامج التعليمية والمناهج الدينية في المملكة، خلال الحقبة التي بدأت بعد عاصفة أبراج نيويورك ولم تنته بعد. في الوقت الذي لا تزال الأوساط تترقب فيه الخطوات المقبلة بعد إعادة هيكلة وزارة التربية والتعليم، بدءاً بوزيرها السابق الدكتور محمد الرشيد الذي خلفه الدكتور عبد الله بن صالح العبيد، مروراً بوكلاء الوزارة النافذين، وانتهاء بما يدور من الاشاعات حول إعادة النظر في بعض القرارات السابقة كالدمج بين رئاسة تعليم البنات والوزارة. إلا أنه على رغم ذلك استطاعت القيادة السعودية ممثلة في اللجنة العليا لسياسة التعليم أن تصمد أمام كل الصراعات الأيديولوجية"على المناهج"في الساحة المحلية، وإن شككت قطاعات من الليبراليين والإسلاميين في ذلك. فتتهم أطراف ليبرالية وزارة التربية والتعليم بالرضوخ لضغط التيار الديني النافذ، في حين ترى طوائف أخرى من الإسلاميين أن الأجهزة التربوية قبل إعادة الهيكلة خضعت لتأثير إعلامي محلي عززته المطالبة الأميركية الخارجية، المشددة على إحداث تغييرات جذرية في التعليم الديني السعودي. وإذا ما تجاوزنا هذه الجزئية على رغم أنها تمثل جوهر الصراع، إلى توجهات القيادات السياسية في الحكومة السعودية، نجدها اتخذت موقفاً وسطاً بين التوجهين. تفويض ولي العهد فقبل بداية العام الدراسي الحالي بنحو أسبوع ظفر وزير التربية والتعليم السابق في السعودية الدكتور محمد بن أحمد الرشيد بما رآه بعض المراقبين تفويضاً من ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبدالعزيز بتنقية التعليم من التطرف، ووجه ولي العهد بشكل صريح نقداً لاذعاً إلى"التربية"من جانب غضها الطرف عن ناحية مهمة من إصلاح المناخ التعليمي، هي"المعلم"، الذي يعد العنصر الأهم في العملية التعليمية وبرامجها. لكننا إذا ما أردنا أن نجد شرحاً أوفى لسياسة التغيير أو التطوير الذي تنشده السعودية في مناهجها عامة، وفي مناهجها الدينية بصورة أخص، نرى النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبد العزيز، أشار في ديسمبر كانون الأول الماضي إلى سياسة بلاده في إطار الاصلاح التعليمي، وهو رئيس اللجنة العليا لسياسة التعليم في المملكة. وأكد في مقابلة مع وكالة الانباء الحكومية، أن السعودية ستستمر في حركة التطوير العلمي، ومراجعة مناهجها الدراسية وتطويرها من وقت لآخر، بما يتفق وحاجة المجتمع، على ألاّ يتعارض هذا مع الثوابت الدينية والقيم الاجتماعية. وأشار الأمير سلطان إلى وجود"آليات في كل من وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم من خلال جهود مكثفة يقوم بها مختصون في المناهج والتطوير التربوي، وفقاً لمعايير علمية معروفة، ويقوم بالمتابعة والإشراف على عملية التطوير لجنة ذات مستويات عليا"لتحقيق هذا الهدف. إلا أن الأمير سلطان على رغم تأكيده ذلك، شدد على أن عملية اصلاح المناهج هي مبادرة داخلية من الحكومة وليست استجابة لضغوط خارجية بالقول:"أحب أن أؤكد أن الاتجاه إلى تقويم المناهج وتطويرها ليس رد فعل وانما هو مبادرة واستجابة لمتطلبات العصر ولكثير من المستجدات الراهنة". موضحاً أن الهدف من ذلك يعود إلى ضرورة"تحقيق المزيد من تعزيز القيم والأخلاق والسلوك الإسلامي في نفوس الناشئة، وغرس المفاهيم الصحيحة التي بينها القرآن الكريم والسنة المطهرة، تحقيقاً لمعنى الوسطية، وتحديد القدر اللازم من المعلومات والمحتوى لكل سنة دراسية مع مراعاة سن التكليف ومناسبة المواد لعمر الطالب، واستيعاب مقاصد الشريعة والتأكيد على الأساسيات". التي تتضمن"المرونة وقبول الحوار واحترام آراء الآخرين مع الحفاظ على المواد الدينية باعتبارها من الثوابت في مناهجنا الدراسية، وكذلك الاهتمام بحاجة سوق العمل ومتطلباته للمؤهلات العلمية المعاصرة". ولكن المثير للجدل أنه مع وضوح التوجه العام لدى الدولة في عملية إصلاح وتطوير المناهج الدينية، وهو ما تدّعي وزارة التربية والتعليم -على الأقل - تطبيقه وامتثاله، إلا أن ذلك لم يخلق نوعاً من الارتياح لدى المتصارعين على المناهج التعليمية والدينية في السعودية. والحديث عن إصلاح التعليم الديني والتعليم العام في الوطن العربي وبلدان أخرى من العالم، مع أنه بات مألوفاً، إلا أنه في السعودية يتسم بشيء من الحدية وتبادل التهم، بعد الحملة الأميركية على ما يسمى الارهاب، وهجومها على السعودية. تطوير وتعديل فالدكتور عبد العزيز الثنيان وهو مسؤول سابق في وزارة التربية والتعليم، يرى أن الحديث عن تغيير المناهج الدينية"أثناء الهجمة الأميركية على المملكة لم يعد ظاهرة صحية، فقبل أحداث سبتمبر هنالك إدارة في وزارة التربية والتعليم تسمى إدارة تطوير المناهج، يعمل فيها أكاديميون وتربويون غالبيتهم متخرجون من جامعات أميركية". ويضيف:"إذا كان الأمر كذلك فإنه من غير المفهوم أن يخرج البعض فجأة كأنما استيقظ من نوم، ويطالب بالتغيير والتطوير، ويحدثنا عن اختطاف المناهج ونشر ثقافة الموت والكراهية... إلخ". مشيراً إلى أنه ليس معنى ذلك"أن نقد المناهج محرم أو أنها لا تحتاج إلى تطوير أو تعديل، فعملية التطوير والتحديث مستمرة ولا تنتهي إلى الأبد طالما أننا ننشد الكمال في مخرجاتنا التعليمية، وليست مناهجنا في ذلك بدعاً من غيرها في بلدان العالم بما في ذلك المتقدم، فالأميركيون يتحدثون عن أن برامجهم التعليمية لا تنمي الفكر وأنها تحتاج إلى إعادة نظر، كما يقول صاحب كتاب أسطورة الكسل". والثنيان لا يستثني من نقده أولئك الذين ينظرون إلى المناهج الدينية وغيرها على أنها"نص مقدس لا يجوز المساس به"فهو يعتقد أن"الحق في ممارسة النقد البعيد من التجريح والتقويم المستمر للمناهج، وتصحيح الأخطاء إن وجدت، بعيداً من القدح في الذمم أو التخوين ناهيك عن التبديع والتفسيق!!". وهناك طائفة أخرى تخشى أن تكون عملية الاصلاح والتطوير المطلوب إجراؤها على المناهج ضحية أخرى للمطالبات الأميركية، فباعتقادهم أن"عملية الاصلاح مهما كان تقبل المجتمع لها، إلا أنها ستواجه بالرفض عندما تأتي من الخارج، ومن أميركا تحديداً". المناهج بين تطرفين بينما يرى آخرون أن التطرف الليبرالي والإسلامي هو الخطر الأشد من الضغط الخارجي، فالكاتب السعودي خالد السليمان يعتقد أن"كلا الطرفين الليبرالي والديني ينحاز بتطرف إلى وجهة نظره، في ما يتعلق بالمناهج والمناشط التعليمية، فالطرف الأول يلصق بها كل العيوب، ويصورها بيئة صالحة لزراعة الفكر المتطرف، بينما الطرف الثاني يراها خالية من العيوب ومنزهة من الأخطاء في كل الأحوال". وأضاف ل"الحياة":"كلا الطرفين بعيد من التعاطي العقلاني والواقعي مع المسألة ويفتقر إلى الموضوعية، ولو أن الفريقين تجردا من خصومتهما التقليدية، وتعاطيا بموضوعية مع الشأن التعليمي، لوجدا أن المسألة نسبية بين الكمال والنقص والسلبية والايجابية، في ما يخص مناهجنا التعليمية والمناشط التربوية داخل المدرسة وخارجها وخصوصاً المخيمات الصيفية". وتابع:"المناهج - مثلاً ? في حاجة ماسة إلى إعادة تقويم وتجديد، ليس لأنها سلبية كما يراها الليبراليون، وإنما لأنها في حاجة لمواكبة تطور أدوات التعليم الحديث والخروج من النمطية التربوية التي صبغت التعليم طوال العقود الماضية، ولم تعد تناسب البيئة المتغيرة للتعليم المعاصر، والحاجة إلى إعداد طلاب يمتلكون أدوات التعاطي مع المستقبل". النشاطات الطلابية وأشار السليمان إلى أن النشاطات الطلابية" داخل المدرسة وخارجها، هي الأخرى تمثل احدى الأدوات المهمة والضرورية لإعداد الطلاب، كما تمثل جزءاً من العملية التربوية، ولكن تمييز إيجابيتها من سلبيتها يبقى رهناً بالكيفية التي تدار بها، وهي بكل تأكيد تبتعد من أهدافها إذا تحولت إلى جزء من الخصومة، وأراد كل طرف الاستئثار بها لتكون مسرحا لأطروحاته الفكرية، وكأنها معسكرات انتخابية وليست ميادين طلابية". وانتهى السليمان إلى أن الدولة"مطالبة بفض هذا النزاع، بلعب دور حاسم ومؤثر، يقف فوق كل الفرقاء الأيديولوجيين لضمان ألاّ يتحول الميدان التعليمي إلى ساحة حرب وغنيمة بين الايديولوجيات المتناحرة، فتضيع الأهداف الحقيقية للتعليم وتتعثر المسيرة التربوية التي هي الدولاب الرئيس في عربة المستقبل". وفي وزارة التربية والتعليم قال الدكتور عبد العزيز الرويس:"الوزارة سلكت منهجين في تطوير المناهج: جزئي، يجري باستمرار، وآخر شامل يطاول كل مناهج المملكة، بدأت اللجان المختصة منذ سنوات في تأليف مقرراته، ومن ثم يتم توزيعها بعد تنقيحها، والتأكد من مواكبتها للعصر". يذكر أن الحلقة الثانية من الحوار الوطني الذي تتبناه الحكومة السعودية منذ عام خصصت للتعليم، وكان أكثر ما أثار الجدل فيها دراسة قدمها الأستاذان عبد العزيز القاسم، وإبراهيم السكران، رصدا فيها جملة من العبارات المتشددة التي تضمنتها بعض مقررات المواد الدينية في التعليم العام، إلا أن معظم تلك الملاحظات تم استدراكها وجرى تعديلها، بناء على فتوى من علماء ومتخصصين شرعيين. جدل الولاء والبراء وكان أبرز الكتب التي حملت تجاوزات من هذا النوع كتاب"التوحيد"للصف الأول الثانوي، الذي استبدل به كتاب آخر، وحذف منه موضوع الولاء والبراء، الأمر الذي أثار حفيظة التيار الديني، الذي اعتبر ذلك استجابة للمطالب الأميركية، بينما البعض منهم رأى الصواب في حذفه، إذ تعد قاعدة الولاء والبراء - بحسبهم - مسألة يصعب على أحداث السن فهمها بشكل دقيق. كما أن هناك من الليبراليين من يرى هذه القاعدة غير أساسية في التشريع الاسلامي بتاتاً. النقطة الأكثر حساسية على الصعيد المحلي في ناحية تغيير المناهج هي تلك المتصلة ببعض"العبارات"التي تتناول أقليات دينية، كالشيعة أو الصوفية، بنوع من التبديع أو التفسيق، فعلى رغم إيمان البعض بأنها إشكالية مذهبية وأحياناً شرعية، إلا أن الكثيرين يرون ضرورة تجاوزها على الأقل في الوقت الراهن، وتعزيز ما يغلّب الوحدة الاسلامية والوطنية، وهذا ما حاولت حلقات الحوار الوطني في دوراته الماضية ترسيخه، ما أثرّ إيجاباً بشكل ملحوظ على علاقات المذاهب الدينية في البلاد. بين هؤلاء وأولئك، يبدو أن الصراع على المناهج يمثل حلقة تتفرع عن المسلسل الطويل من"الصراع على الإسلام"، الذي عالجه أستاذنا الدكتور رضوان السيد في كتاب له بالاسم نفسه. وسيظل الصراع سيد الموقف ما لم يبلغ الوعي الاجتماعي تمامه، وتصدق النيات،"ولكن دون ذلك أهوال". الدريس : إصلاح التعليم مرتبطة بعوامل ليست بالضرورة متصلة به أكد رئيس تحرير مجلة المعرفة مدير عام الاعلام التربوي في وزارة التربية زياد الدريس، أن إشكال إصلاح التعليم مرتبط بعوامل أخرى ليست بالضرورة متصلة به، فأمنية"إصلاح وتطوير التعليم في بلادنا لن تتحقق إذا تركنا أمره لوزارة التربية والتعليم وحدها، واننا يجب أن نعي وندرك - كما قال الدكتور محمود سفر وزير سعودي سابق - ضرورة أن يواكب تطوير التعليم تطوير مماثل في بقية منظومات الحياة في المجتمع السعودي، وإلاّ فإن الجهود التي سيبذلها العاملون في مجال تطوير التعليم ستذهب سدى وتصبح من دون جدوى... فالتعليم على رغم أهمية تطويره لا يجب أن يغرد خارج السرب، فالفرد مهما نال حظه من تعليم متطور، يظل إعداده وتدريبه ناقصاً من دون تضافر جهود القطاعات الأخرى في توعيته وتثقيفه، وتبصيره وحثه على العمل المثابر والجهد الجاد".