انفض مؤتمر المناخ الذي عقد في مدينة وارسو في بولندا خلال النصف الثاني من تشرين الثاني نوفمبر عن اتفاق بعد مفاوضات مضنية، إن دلت على شيء، فإنها تدل على صعوبة المسار الهادف إلى وضع معاهدة للمناخ بنهاية عام 2015 لتخلف بروتوكول كيوتو. ونحو تحقيق هذا الهدف، اتُفق في وارسو على تحديد كل دولة مساهماتها المستقبلية في خفض انبعاثات غازات الدفيئة قبل نهاية الربع الأول من 2015، استعداداً لوضع مسودة المعاهدة خلال المؤتمر الذي سيعقد في باريس في أواخر ذلك العام. يأتي هذا الاتفاق مع استمرار التباين الواسع في المواقف بين مجموعة الدول الصناعية المتقدمة من جهة ومجموعة الدول النامية من جهة أخرى، فالدول المتقدمة، وإن كانت تتحمل القسط الأعظم من المسؤولية التاريخية للانبعاثات المتراكمة، فإنها ترفض أن تكون المسؤولة الوحيدة عن خفضها في المستقبل للحد من تزايد الدفء الحراري كما اقتضاه ضمناً بروتوكول كيوتو. وترى هذه الدول أن حجم الانبعاثات من الدول النامية أصبح يوازي تقريباً حجم انبعاثاتها، ويُتوقع أن يتعداه قريباً، بالتالي فإن وقف ارتفاع حرارة الجو يتطلب أيضاً من الدول النامية أن تخفض انبعاثاتها من الغازات الدفيئة. وفي المقابل، تصر الدول النامية على ألا تصبح التزاماتها في المعاهدة المقبلة عقبة أمام عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ لا تزال فجوة التنمية شاسعة جداً بينها وبين الدول المتقدمة. تكمن المشكلة الأساسية في أن وقف ارتفاع حرارة الجو يتطلب خفض حجم انبعاثات الغازات الدفيئة بالمطلق، بينما تحتم مقتضيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية زيادة انبعاثات هذه الغازات في الدول النامية، لأن تحقيق أهداف التنمية بالتوازي مع خفض حجم انبعاثات الغازات الدفيئة يتطلب من الدول النامية التحول في شكل جذري نحو مصادر الطاقة غير الأحفورية، كالطاقة المتجددة والطاقة النووية. وهذا أمامه عقبات كثيرة، فالغالبية العظمى من الدول النامية منخفضة إلى متوسطة الدخل، بالتالي غير قادرة على تأمين المتطلبات المالية الكبيرة المطلوبة لهذا التحول، وقد تفتقر إلى الموارد التقنية والتجهيزات المؤسسية التي يتطلبها تطوير هذه المصادر البديلة من الطاقة. هذا فضلاً عن أن كلفة الطاقة المتجددة وضعف اعتمادها يشكلان عقبتين رئيستين أمام انتشارها في شكل واسع في المدى المنظور. أما بالنسبة إلى الدول النامية الغنية بموارد الطاقة الأحفورية، كالنفط والغاز، فالتحول نحو مصادر بديلة لثرواتها التي تعتمد عليها في عملية التنمية، لن يكون لمصلحتها، خصوصاً إن ساهم هذا التحول في إضعاف الطلب العالمي على تلك الموارد وهدد استدامته. إن كان خفض الحجم المطلق لانبعاثات الغازات الدفيئة من الدول النامية دونه عقبات كثيرة ويفتقر إلى الواقعية، فإن خفض وتيرة زيادة هذه الانبعاثات من خلال تحسين كفاءة الطاقة من خلال ترشيد استخداماتها تعتبر الوسيلة الأكفأ للمساهمة في تحقيق أجندة المناخ من دون التأثير السلبي في عملية التنمية. ويعود ذلك إلى ضخامة الفرص المتاحة لخفض كثافة الطاقة في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية. ويمكن لهذه الدول أن تحذو حذو الدول المتقدمة، التي تمكنت من إحراز تقدم ملحوظ في هذا المجال خلال العقود الثلاثة الماضية، إذ شكّل متوسط كثافة الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي نسبة 66 في المئة فقط من المتوسط العالمي في 2010، بينما بلغت هذه النسبة 119 في المئة للعالم العربي و150 في المئة للصين و105 في المئة للهند. وهذا يدل على الفرص المتاحة أمام الدول النامية في مجال ترشيد استهلاك الطاقة مع عدم المساومة على أولويات التنمية وأهدافها، بل قد يساهم ذلك في دعم عملية التنمية. وتعتبر الدول النامية الغنية بموارد الطاقة، كالدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي، من أكبر المستفيدين من التركيز على تحسين كفاءة الطاقة نظراً إلى مجموعة من العوامل أبرزها أن ارتفاع دخل هذه الدول يمكّنها من تمويل برامج تحسين الكفاءة، فضلاً عن أنها من أكثر الدول الداعمة لأسعار الطاقة المحلية. وأدى استمرار هذا الدعم إلى ارتفاع كثافة الطاقة في الاقتصاد وضعف الترشيد في الاستهلاك. في المقابل، سيؤدي التوجه نحو تحسين كفاءة الطاقة إلى إصلاح أسواقها، إذ يعتبر هذا الإصلاح مدخلاً ضرورياً للترشيد. ويتوقع منه أن يساهم في إزالة التشوهات التي تعتري عملية التنمية، خصوصاً تلك المتمثلة في انخفاض تنوع القاعدة الاقتصادية والاعتماد الزائد على موارد الطاقة في تحريك العجلة الاقتصادية وتوفير موارد الخزينة. لقد أدى استمرار دعم أسعار الطاقة في العديد من الدول الغنية بمواردها إلى تعزيز نمو النشاطات الكثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الصناعات الأساسية. وجاء ذلك أحياناً على حساب النشاطات الإنتاجية والخدمية الأقل استهلاكاً للطاقة والتي عادة ما تكون ذات قيمة مضافة ومحتوى تقني أعلى، والمقصود تلك النشاطات التي تعتبر ضرورية لتحقيق التنويع الفعلي في القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني وفي مصادر الدخل. كاتب متخصص بشؤون الطاقة والتنمية