بين أوراقي التي تعود للعام 2000، أو أقرب من ذلك بقليل، محاضرة مطبوعة بعنوان"نحن والغرب"، بتوقيع"دكتور حازم الببلاوي"، ألقاها في مؤتمر عن العولمة انعقد في بيروت. وكنتُ احتفظت بالأوراق التي قدّمت في المؤتمر، ومنها ورقة الببلاوي، ولعله من المفيد اليوم إعادة قراءة جوانب من الورقة تلك، إذ هي تشرح على نحو ما، في عنوانها ثم في مضمونها، أفكارَ الرجل الذي تسلّم رئاسة حكومة مصر بعد انتفاضة 30 يونيو وطريقة تفكيره وبعضاً من فهمه أو تصوره الخاص لموقع مصر ودورها، كما للشرق والغرب، وللعلاقة بالغرب على وجه الخصوص. يبدأ الببلاوي محاضرته بالإشارة إلى أن تحديد ما هو الغرب ليست بالمسألة الشائكة، أما الأكثر صعوبة فهي تحديد علاقة الشرق بالغرب، أو العكس، وهي قضية شغلت الشرق كما الغرب في آن. وبدل البدء بالتعريف، يمكن البدء بتوصيف ما هو الغرب، فالغرب -وفق نصّ الببلاوي دائماً- هو: جغرافيا، وتاريخ، واستعمار، وحروب صليبية.، هو الكاثوليكية والبروتستانتية لكنه أيضاً الإلحاد والعنصرية، هو الرأسمالية وحلف الأطلسي والشيوعية معاً، لكن هذا الغرب هو قبل ذلك الثورة الصناعية، واكتشاف المطبعة والبخار والكهرباء وثورة الاتصالات والمعلومات والعقلانية، وهو حديثاً الديموقراطية وحقوق الإنسان. ويفرغ الببلاوي من هذا التشابك ليقول:"عندما نتحدث عن الغرب فإننا نتحدث عن أنفسنا، نتحدث عن"نحن"، نحن المصريين، نحن العرب، نحن المسلمين، نحن دول العالم الثالث، نحن عالم الروح والأديان، نحن قيم الأسرة وكثرة العيال". ثم يضيف مباشرة:"ولكننا أيضاً عالم التخلف والخزعبلات". ويبلغ التداخل هنا الذروة، إذ"هناك أكثر من غرب، وهناك أكثر من نحن، والحقيقة ربما أننا كل ذلك، فلا الغرب حقيقة واحدة واضحة، ولا نحن كذلك، ومع ذلك فإن ما بيننا وما بين الغرب كثير وملتبس". بعد التوصيف الأفقي الأولي، تبدأ إجابة الببلاوي على سؤال العلاقة بالغرب بتفنيد ادعاءات الغرب المعرفية الاستعلائية:"نعم، الغرب يبدأ من الشرق... فهو في غروره وانكفائه على ذاته، يرى نفسه مركز العالم والتاريخ. هذا التاريخ كما يحدده الغرب لنفسه، يجد جذوره في الشرق. للغرب تاريخان، تاريخ مدني وآخر ديني. الغرب وريث الحضارة الإغريقية والرومانية، هذا هو تاريخه المدني، لكن تاريخ الغرب هو أيضاً تاريخ المسيحية الغربية، وهذا هو تاريخه الديني. في كلا الحالين يبدأ الغرب من الشرق، فإذا كان الغرب هو وريث الحضارة الإغريقية، فإن هذه الحضارة تلقت تعاليمها الأولى على يد الفراعنة في مصر". ويقدّم المحاضر عشرات الشواهد التاريخية التي تؤيد وجهة النظر هذه وصولاً إلى تتويج الإسكندر المقدوني في معبد سيوه باسم الإله آمو، وكذلك في المراحل التاريخية اللاحقة. أما تاريخ الغرب الديني، فهو شرقي أيضاً:"وإذا نظرنا إلى أوروبا في انتمائها الديني المسيحي، فإننا نجد جذورها هنا أيضاً شرقية، فالمسيحية ولدت في فلسطين وفي الجليل والناصرة... وإذا كان الوعي الديني المسيحي لأوروبا يتكون مع قراءة الكتاب المقدّس، فقد كان وجود الشرق طاغياً على العهدين القديم والجديد، ففيهما يتضح أن المسيحية تبدأ من الشرق وبلدانه، وأن مصر ?ربما من دون سائر شعوب العالم? ذُكرت أكثر من مائتي مرة في التوراة...". وبعد عشرات الأمثلة يكمل الببلاوي:"وهكذا نجد مصر والشرق في صلب التاريخ الديني للغرب كما كانا بداية لتاريخه المدني، فالغرب قد خرج في وعيه التاريخي من أحشاء الشرق". بعد هذا التمهيد التاريخي، يعرض الببلاوي للتعقيدات والصعوبات التي نشأت تدريجاً والتي أحلّت الشكوك والمخاوف والصدمات المتبادلة بدل الثقة والتعاون والتثاقف الذي ساد الحقب الأولى. صدمتان متبادلتان أول اختبارات الصدمات المتبادلة بين الشرق والغرب، التي يعرض لها المُحاضر هي"صدمة الإسلام، والصدمة الصليبية المعاكسة"، فالصعود السريع للإسلام وتوسعه السريع شرقاً وغرباً أثار فزع أوروبا المسيحية،"كل هذا ولم يكن قد مضى على استقرار المسيحية في معظم البلدن الأوروبية سوى ثلاثة أو أربعة قرون، فأكثر مناطق أوروبا كانت في حالة من الوثنية، وروسيا لم تدخل المسيحية إلا في القرن العاشر، وهكذا... كان الخطر عظيماً، وبالتالي المرارة والعداوة، فالدعوة الجديدة جاءت ولمّا تزل المسيحية حديثةَ عهد لم تثبت أقدامها بعد..."، وبسبب من قوة الإسلام الصاعد وثقة المسلمين بأنفسهم، بدت الممارسة الإسلامية متفائلة، متسامحة،"وعرف الذميون الأمن والاستقرار في دولة الإسلام، التي عاش في ربوعها اليهود والمسيحيون، ولم يكن مثل هذا الأمر متصوَّراً في الجانب الأوروبي، فكان تواجد اليهود بينهم بالكاد مقبولاً مع تعرضهم دائماً لقيود شديدة، ومن فترة لأخرى لأعمال الاضطهاد والطرد، بينما كانت إقامة المسلمين بين الأوروبيين غير واردة بأي شكل من الأشكال". وكما كان ظهور الإسلام وتوسعه صدمةً غير متوقعة لأوروبا المسيحية في القرن السابع وما بعده،"فقد جاءت الحروب الصليبية صدمة عكسية وأمراً غير متوقع من المسلمين في القرن الثاني عشر، وبدأت الدعوة إلى الجهاد لمواجهة الدعوة إلى الحرب الصليبية. ولعلنا نذكر هنا للمقابلة، أن صدمة أوروبا بظهور الإسلام قد جاءت ولم يكن قد مضى على استقرار المسيحية في أوروبا أكثر من ثلاثة أو أربعة قرون، وأن صدمة المسلمين بالحروب الصليبية قد جاءت وقد مضى على استقرار الإسلام ما يعادل الفترة ذاتها، أي ثلاثة أو أربعة قرون". لكن الأكثر خطورة هو ما قادت إليه الصدمتان المتبادلتان، وعلى الجانبين، أي انحسار مساحة التسامح وازدياد التعصب الديني لدى الطرفين. يقول الببلاوي:"وبذلك تراجع التسامح الإسلامي، كما اشتد التعصب المسيحي، وهو لم يقتصر على المسلمين فقط وإنما امتد إلى اليهود أيضاً. استمرت الحروب الصليبية قرنين من الزمان تعمّق فيها الخلاف بين الشرق والغرب، وبدأ التعصب الديني على الجانبين في أبشع صوره". وفي التقاط ذكي لتشابه متبادل آخر، يقول الببلاوي:"إذا كانت الحروب الصليبية قد انتهت فعلاً في نهاية القرن الثالث عشر، فليس معنى ذلك أن العقلية الصليبية قد توقفت مع توقف المعارك وخروج الفرنج من الشرق، بل إن الفكرة الصليبية قد استمرت"كأسطورة"في الذهن الأوروبي لقرون لاحقة... فكل ملك أو بابا جديد للكنيسة كان يؤكد شرعيته بإعلان الدعوة للإعداد والاستعداد لحرب صليبية جديدة تحرر الأماكن المقدسة، وهو إعلان للنوايا واستمالة للمشاعر العامة أكثر مما هو تعبير عن سياسة جادة للتنفيذ العملي. ونخشى أن تتكرر فكرة"الأسطورة"حول ما يدور حالياً على الساحة العربية والإسلامية من الدعوة"لتحرير القدس"، وهكذا قد تستمر الأسطورة بعد انتهاء الظاهرة الحقيقية وموتها". ويتقدم الببلاوي في نقده للغرب خطوة إضافية، ليشير إلى أن حروب الغرب مع الشرق ليست غير جزء صغير من تاريخه، الذي جعل تاريخ العالم بأسره تاريخ الحروب الأوروبية. يقول:"قد يبدو مما تقدّم أن تاريخ العالم هو تاريخ المواجهة بين الغرب والشرق، بصرف النظر عن مضمون هذا الشرق أو ذاك الغرب، لكنّ قراءة أخرى للتاريخ تكاد تجعل من تاريخ العالم تاريخَ الحروب الأوروبية."ويذهب الببلاوي إلى استذكار عشرات الحروب الدينية والسياسية والاقتصادية التي خاضتها القوميات الكبرى في أوروبا، والثأر والثأر المضاد في ما بينها، ليصل إلى حروب القرن العشرين فيقول فيها:"وإذا كان القرن العشرين قد عرف ثلاث حروب عالمية، اثنتين ساخنتين وثالثة باردة، فهي حروب عالمية بالاسم ولكنها في الحقيقة حروب أوروبية أو غربية... وهكذا أمضى الغرب تاريخه لأكثر من ألفي عام في حروب مستمرة فيما بين بلدانه وشعوبه، ولم تكن حروبه مع الشرق سوى ملحق قصير نسبياً أضيف إلى سجله الطويل في الحروب الأوروبية والغربية. والحديث عن الثأر التاريخي يجاوز بالقطع علاقة الشرق بالغرب". وعليه، يجب الخروج من المقولات المتداولة الجامدة، من مثل أن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان، أو أنهما في صراع أبدي. وفي السياق نفسه، يضع الببلاوي يده بنجاح على عدد من الوقائع المتبادلة التي زادت من منسوب الحذر والتعصب على الجانبين، من مثل صدمة الغزوات الفرنجية، والتقدم العثماني باتجاه قلب أوروبا، وحديثاً الاستعمار، والفجوة التنموية والتكنولوجية التي تفاقمت بين الطرفين. وهو لا يوفر هنا الشرق والعالم الإسلامي، رغم عظيم ما أنتجاه في القرون الوسطى، من مسؤولية خاصة في عودتهما إلى الجمود والانكماش والتقوقع على الذات بدل مجاراة الغرب في تقدمه العقلاني والعلمي والتكنولوجي والمادي في أثناء عصر النهضة. وهوما يتكرر الآن في مسائل معاصرة، من مثل الحرية وحقوق الإنسان والديموقراطية وحقوق المرأة، وحماية البيئة، وسواها. الصراع العربي- الإسرائيلي يولي الببلاوي مسألة الصراع العربي-الإسرائيلي أهمية خاصة، للدور الذي اضطلع به في التدمير المستمر لفرص إقامة علاقة سوية بين الشرق والغرب. ومع تحميله الغرب بشقيه، الرأسمالي والشيوعي، مسؤوليةً محددة في قيام دولة إسرائيل وتسليحها وتعزيز قدراتها، إلا أنه يعتقد ?وهذا أمر دقيق ومهم? أن إسرائيل، ورغم ما لحق بها تاريخياً من اضطهاد غربي، نجحت في تصوير نفسها على أنها"غرس غربي أوروبي في المنطقة العربية والإسلامية"، وفي أنها"جزء من الحضارة الغربية تحمل مبادئ التقدم والحرية والديموقراطية إلى هذا الوسط المتخامل من الاستبداد الشرقي والتعصب الديني... لقد عمد بن غوريون منذ البداية إلى تحويل الصراع بين الفلسطينيين العرب واليهود إلى جزء من لعبة الصراع العالمي والمواجهة بين الشرق والغرب، فإذا كانت المشكلة اليهودية هي نتيجة للاضطهاد الأوروبي لليهود في ألمانيا وبولندا وروسيا، فقد نجح بن غوريون ليس فقط في توظيف عقدة الذنب لدى الأوروبيين في معاملتهم لليهود، بل وفي إبراز المستوطنين اليهود كمقدمة لحماية المصالح الغربية في هذه المنطقة، وتحوير هدف المقاومة العربية للاستيطان اليهودي في فلسطين إلى عداء للغرب، فالعداء العربي ?في وجهة النظر الإسرائيلية الرسمية? ليس موجَّهاً إلى المغتصِبين للأرض في فلسطين والمشرِّدين لأهلها، بل هو عداء لكل ما هو غربي!". ويضيف:"أدّت ديناميكية التطورات في صراع الشرق الأوسط إلى الخلط بين إسرائيل والغرب، ليس فقط في الوعي العربي والإسلامي بل وأيضاً في الوعي الغربي. وساعدت إسرائيل على تأكيد هذا الانطباع، فإذا الصراع العربي الإسرائيلي يحمل في طياته مواجهة ضمنية بين الشرق والغرب. وطُرحت قضية العلاقة مع الغرب من جديد في ثوب العداء والتوجس والخوف ليس فقط بالنسبة لإسرائيل بل بالنسبة لكل ما هو غربي". ويخلص الببلاوي من المسألة إلى العبرة منها، فيقول:" كم جدير بمؤرخينا أن يعالجوا هذه القضية بمنظور نقدي، فهل كان من المجدي جرّ هذا الصراع المحلي إلى أتون التوازنات الدولية، وإلى أي حد من المصلحة الاعتقاد بالتطابق بين اليهود وبين الغرب وتحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع بين الشرق والغرب؟". العولمة وتراجع الحدود الموضوع الأخير الذي اخترت التوقف عند إسهام الببلاوي فيه ?ونظراً لأهميته? هو موضوع العولمة، الذي كان طاغياً أثناء كتابة الورقة. يقدم المؤلف باختصار فهماً شاملاً مركباً للمصطلح بعيداً عن الضجيج الإعلامي الذي رافق صعوده. يقول:"كثر استخدام تعبير العولمة هذه الأيام حتى أصبح مبتذلاً أو كاد. والعولمة هو ذلك الاصطلاح الذي هبّ على العالم إثر انتهاء الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفياتي ومعه معظم دول الكتلة الشرقية، كما لو كانت العولمة هي الوريث للحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، وكأنما أسباب التطور التلقائي وتوسيع الأسواق قد ولدت فجأة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من هذا القرن ولم تكن وليدة عمل حثيث مستمر تحت السطح من التغيير التكنولوجي والمؤسسي يزيل، أو على أقل تقدير يخفف حدة الحدود السياسية والحواجز الجغرافية". العولمة في تفسير المؤلف تخفي عمليات تطور وتراكم مستمرة، لكنها تسارعت منذ ستينات القرن التاسع عشر بفعل التحول عن معالجة المواد والطاقة إلى معالجة المعلومات، تحت تأثير الثورة التي حدثت في ميادين الإلكترونيات والاتصالات، ما سمح بالانتقال من"اقتصاد الأشياء"إلى"اقتصاد المعلومات"، الأمر الذي أحدث تغييراً جوهرياً في الاقتصاد نفسه، والتحول بالتالي من"الاقتصاد العيني"إلى اقتصاد رمزي يتم التعامل فيه مع الأشياء من خلال رموز ومؤشرات في شكل أسهم وسندات وحقوق وخيارات مالية... وهكذا ظهرت ثورة مالية جديدة تنتقل فيها الثروات من نقود أو أشكال للثروة عبر الأثير على اتساع المعمورة على نحو غير ملموس". وبعد تحليل ثاقب لهوية العولمة التي سادت منذ التسعينات، ينتهي الببلاوي إلى ربطها بموضوع تقابل الشرق مع الغرب، فيضعها بصيغة السؤال:"هل لا زال"للغرب"و"الشرق"المعنى ذاته؟ وهل للتفرقة بينهما المدلول ذاته؟"، ويجيب على ذلك:"إن هناك في الحقيقة أكثر من غرب. هناك تاريخ. وهناك أيضاً حركة وديناميكية. القديم لا يبقى على قدمه. وإلى جانب التاريخ هناك المستقبل، وهو الأجدر بالرعاية. و"الغرب"أياً يكن تعريفه وحدوده، ليس عدواً ولا صديقاً، بل فيه العدو والصديق. وهو ليس ضرراً أو نفعاً، بل فيه النفع والضرر. كذلك الغرب ليس شراً دائماً، كما أن الشرق ليس خيراً فقط، ففي كل منهما الخير والشر. الغرب ليس كله شياطين، كما أننا لسنا كلنا ملائكة". تلك بعض المسائل التي تضمنتها محاضرة حازم الببلاوي المركّزة، والتي تستحق بما احتوته من إضاءات أو أفكار تتعلّق بتوجهات معاصرة عدة لبلداننا العربية -وفي طليعتها مصر- إعادة القراءة والمناقشة. * أكاديمي لبناني.