حتى اللحظة لم تنجح محاولات"أخونة"الإعلام في مصر، بمعنى إخضاعه للهيمنة السياسية والثقافية لخطاب"الإخوان"، بل على العكس أكد الإعلام والقضاء وجودهما كجهازين مستقلين يقاومان مشروع التمكين"الإخواني"أو ما يعرف أحياناً في أدبيات تيار الإسلام السياسي بأسلمة المجتمع، والمفارقة أن هذه المقاومة تنال من مهنية الأداء الإعلامي وتدفع بكثير من القضاة إلى المجال السياسي، ما يثير مقداراً كبيراً من القلق والخوف في شأن تسييس القضاء والإعلام، وإرباك المجال العام فضلاً عن إشكالية الخلط بين السلطات. والحقيقة أن مقاومة القضاء والإعلام وغالبية مؤسسات الإنتاج الثقافي، إضافة إلى تحولات الرأي العام ضد جماعات الإسلام السياسي تثير مسألة بالغة الأهمية تتعلق بضعف الهيمنة الثقافية والاجتماعية ل"الإخوان المسلمين"والسلفيين، فالفوز في انتخابات البرلمان المنحل، أو وصول رئيس من"الإخوان"? بغالبية بسيطة ? لا يعني هيمنة الإسلام السياسي على المجال العام، كما أن مظاهر التدين الشكلاني في المجتمع المصري، والتي لا تمتد بالضرورة إلى السلوك الفعلي لغالبية المصريين، لا تعني تأييد مشاريع جماعات الإسلام السياسي في الحكم وأسلمة المجتمع على مقاسهم، حيث إن معظم المصريين مسلمون وعلى درجة عالية من التدين الثابت تاريخياً. القصد أن هناك فروقاً هائلة بين تدين المصريين وقبولهم بالحكم الإسلامي وفق ما يطرحه"الإخوان"أو السلفيون. هذه الحقيقية التاريخية والسوسيوثقافية يرفضها"الإخوان"والسلفيون لأنها تتعلق بشرعية وجودهم ومستقبلهم، ويدعون أن ضعف تأثيرهم الثقافي وفشلهم السياسي في إدارة الدولة بعد وصول الرئيس مرسي إلى الحكم يعود إلى مؤامرة يقودها القضاء والإعلام، ما دفعهم إلى الدخول في مواجهات ساخنة مع هذين الجهازين، لم تحسم نتائجها فلا تزال سجالاً بين الطرفين وأحد أهم مظاهر الصراع السياسي والثقافي حول هوية مصر ومستقبل الحكم، وفي ما يأتي بعض الملاحظات على تجليات الصراع في المجال الإعلامي. أولاً: خضع الإعلام المصري للاستقطاب والانقسام السياسي بين القوى الإسلاموية والقوى المدنية بعد ثورة يناير، وعكست مستويات الأداء الإعلامي سواء في الإعلام التابع للدولة أو الإعلام الخاص، كل مظاهر هذا الاستقطاب، وتورط فيه كثير من الإعلاميين ما أثر سلباً في الالتزام بمعايير الأداء المهني ومواثيق الشرف الإعلامي، والمفارقة أن هذه الممارسات جاءت في سياق التطلع لتوسيع حرية الإعلام بعد الثورة واحترام حرية الرأي والتعبير، ما أساء إلى معنى حرية الإعلام. ثانياً: أدى إطلاق حرية إصدار الصحف وتشغيل القنوات الفضائية إلى زيادة ملحوظة في أعداد الصحف وقنوات التلفزة الجديدة والتي تعمل غالبيتها من دون حسابات حقيقية للجدوى الاقتصادية، وإنما لحسابات سياسية بالأساس، حيث يمتلك رجال أعمال محسوبون على نظام مبارك غالبية هذه الاستثمارات الجديدة، إضافة إلى شخصيات مرتبطة بجماعات الإسلام السياسي، والمدهش أن تمويل الصحف والقنوات الجديدة يفتقر إلى قواعد الشفافية والإفصاح ورقابة الدولة والمجتمع المدني، وذلك بسبب افتقار النظام القانوني المصري إلى التشريعات وآليات التدقيق في تمويل وأنشطة الإعلام. ثالثاً: نجح الإعلام الخاص المملوك لرجال أعمال في الاستحواذ على المقدار الأكبر من القراء والمشاهدين بسبب وفرة التمويل وتركيز الملكية وحيوية الأداء وتوسيع هامش الحريات مقارنة بالإعلام التابع للدولة والذي تراجع بعد الثورة بسبب غياب السياسة الإعلامية والافتقار إلى بوصلة أو"سيد جديد"يهيمن عليه ويوجهه، إضافة إلى نقص التمويل ومحاولات تقييد حرية الإعلاميين سواء أثناء حكم المجلس العسكري ثم في ظل حكم"الإخوان"الذين حرصوا على تعيين وزير منهم للإعلام، يحاول من دون جدوى أو مشروعية"أخونة"إعلام الدولة وتحويله إلى بوق دعائي لمصلحة الحكم الجديد. في هذا الإطار تراجعت محاولات تحويل إعلام الدولة إلى نموذج الخدمة العامة على غرار الإعلام الألماني وإعلام ال"بي بي سي"، وبدا المستقبل في اتجاه وجود إعلام حكومي ضعيف وبيروقراطي لا يتابعه المواطنون الذين يتحملون كلفته، وتتراجع حصته من الإعلان الذي يهرب إلى الإعلام الخاص والأجنبي. رابعاً: لم يقتصر التحول في منظومة الإعلام المصري على تقدم الإعلام الخاص على حساب إعلام الدولة، وإنما ترافق معه أمران: الأول زيادة حضور وتأثير وسائل الإعلام الجديد خصوصاً في أوساط الشباب والطبقة الوسطى المتعلمة، وتنامي أدوار ظواهر إعلام المواطن، والثاني استحواذ القنوات العربية والأجنبية الناطقة بالعربية على نسبة كبيرة ومتنامية من الجمهور المصري والذي أصبح حائراً بين القنوات الخاصة والحكومية والدينية ومتشككاً في صدقية ما تبثه من أخبار وتعليقات وفق الانتماء السياسي لكل قناة أو صحيفة، وبالتالي تتحول قطاعات واسعة من المصريين إلى متابعة الأخبار من قنوات غير مصرية، لذلك توسعت قنوات خليجية عدة في تقديم خدمات إخبارية عن مصر، كما توسعت أيضاً في تقديم برامج ترفيهية مما يهدد: أولاً صناعة الإعلام والترفيه المصرية، وهي صناعة ناعمة يفترض أن تمتلك مصر فيها ميزات نسبية كثيرة، لكنها تتراجع لمصلحة المنتجات التركية والعربية، ثانياً: تراجع حصيلة الإعلام المصري من الإعلانات ما يؤثر بالسلب في مصادر تمويلها وقدرتها على الاستمرار والتطوير. خامساً: إن كل التحولات في منظومة الإعلام والخطاب الإعلامي لم تترافق مع تغيير في التشريعات والقوانين المنظمة للإعلام وحرية الرأي والتعبير، حيث لا يزال معمولاً بالقوانين والتنظيمات القديمة الموروثة عن نظام مبارك، على رغم إقرار الدستور الجديد والذي تحدث في ست مواد فقط عن الإعلام اتسمت بالغموض والتعميم، ولم تلغ العقوبات السالبة للحرية وإغلاق الصحف، واقترح الدستور إنشاء مجلس وطني للإعلام يتولى تنظيم البث الإذاعي والتلفزيوني والصحافة الورقية والرقمية، وضمان حرية الإعلام وتنوعه وعدم تركزه أو احتكاره وحماية مصالح الجمهور، ووضع معايير مهنية وأخلاقية والحفاظ على اللغة العربية، ولم يحدد الدستور القوانين أو القواعد التي تنظم عمل المجلس، مع العلم أن رئيس الجمهورية سيتولى رئاسة المجلس المقترح، والخوف الآن من انفراد الرئيس أو حزب الغالبية باختيار أعضاء المجلس والهيئة ومن ثم يسيطر على الإعلام، في هذا الإطار يفضّل أن يصدر قانون جديد ينص على حق كل حزب ممثل في البرلمان - بما في ذلك حزب الغالبية - في ترشيح عضو واحد فقط في مجلس الإعلام، وأن ينص على عدد من خبراء الإعلام المستقلين وعضوين من الأزهر والكنيسة وعضو يرشحه مجلس القضاء الأعلى، وعضو عن نقابة الصحافيين، وعضو عن نقابة العاملين في الإعلام السمعي البصري، والنقابة الأخيرة غير موجودة لكني أتمنى سرعة ظهورها حتى تتمكن من أن تدافع عن حقوق آلاف العاملين في هذا المجال. سادساً: بصرف النظر عن الاختلاف حول مواد الدستور، وانفراد"الإخوان"والسلفيين بكتابته إلا أن هناك إشكاليات خاصة بسن قوانين جديدة للإعلام، أهمها: أن مجلس الشورى الذي لم ينتخب للتشريع وبنسبة لا تزيد على 10 في المئة من مجموع الناخبين لا يمتلك شرعية سن قوانين جديدة، خصوصاً أن هناك اختلافات عميقة بين الإعلاميين في شأن الثقة في جدية"الإخوان"- الذين يهيمنون على مجلس الشورى ? لسنّ تشريعات إعلامية متوازنة تضمن حرية الإعلام، وبالتالي فإن أي قوانين جديدة تتصدى لمهمة تنظيم الإعلام لن تحظى بالقبول والمشروعية، وستتحول إلى محور جديد للانقسام والاستقطاب السياسي، ومن ثم سيستمر الإطار القانوني والتنظيم القلق للإعلام المصري. سابعاً: يبدو أن الفاعلية السياسية لجماعة الإعلاميين كأفراد لا تنعكس على قدرتهم على الدفاع عن حرية الإعلام وحقهم في التنظيم الذاتي، لأنهم ببساطة لا يشكلون جماعة متماسكة، فثمة انقسامات مهنية وأيديولوجية وسياسية وطبقية عميقة تضرب وحدة الجماعة الإعلامية وتهمش من قدرتها على العمل المشترك دفاعاً عن المصالح المهنية للإعلاميين، وتعمقت هذه الانقسامات بعد الثورة في ظل مناخ الاستقطاب والصراع بين القوى الإسلاموية والمدنية، وخريطة المصالح المادية والإعلامية، حتى تشكلت فرق وجماعات فرعية داخل الجماعة الإعلامية من مصلحتها المباشرة استمرار الفوضى الإعلامية، وتشتت القوة المادية والرمزية لجماعة الإعلاميين. فهذه الفرق تستمد قوتها ومشروعية وجودها من خلال التحالف مع السلطة الجديدة أو التحالف مع رجال الأعمال والاحتكارات الإعلانية والإعلامية الصاعدة والتي من المحتمل أن تسيطر على المشهد الإعلامي، في ضوء تراجع حضور وتأثير الإعلام الحكومي في المجتمع. * كاتب مصري