أغلب الظنّ أن ما حدث في قرية الملاجة في طرطوس لن يأخذ مكانه في أخبار سورية وانتفاضتها، ذاك أن صور الإجرام والضحايا البشريّة، في بابا عمرو وكرم الزيتون وغيرهما، تحتل ولا شكّ صدارة الاهتمام والوجدان والضمير. غير أن المقتَلة التي تصيب المجتمعات لا تقلّ دمويّة عن مقتَلة البشر والأرواح. فما حدث في طرطوس قبل أيام، من قيام بعض الموتورين، من أنصار النظام، بتكسير وتشويه في مسرح الهواء الطّلق الذي يقام فيه مهرجان السّنديان الثقافي سنويّاً في قرية الملاجة، انتقاماً من رمزيّة القرية والمكان، ومن نخبتها المثقفة، ينذر بمزيد من الكوارث ويمعن في قتل سورية الحقيقيّة. ذاك أن الملاجة لم تكن مجرد قرية بسيطة في جبال السّاحل السوري، بل أحد صروح الثقافة والتنوير والانفتاح على مستوى البلاد بأسرها. وقدّمت عبر الأجيال، روّاداً في التنوير، ابتداءً من الرّاحلين أحمد علي حسن، الشيخ الفقيه والقاضي والأديب، ومحمّد عمران، الشّاعر والمثقف الحداثي، وكذلك محمّد كامل الخطيب، المثقف الموسوعيّ والمرجعي، وليس انتهاءً بجيل إياس حسن ورشا عمران وكثيرين غيرهم. على أن المكانة التي حققتها الملّاجة، على رغم صغر حجمها، بفضل أولئك الروّاد وتأثيرهم في الوعي الجماعي لمحيطهم المباشر ومن ثمّ الأبعد، تمكّنت من كسر رتابة أو قدامة علاقات المجتمع القرويّ، الأهليّ والأبرشيّ، القائمة على عناصر القرابة والتراتبيّة الدينيّة والطبقيّة، وهذا ما أدى إلى تطوّر مجتمع القرية وأعطاها سمعتها التي جابت البلاد. وما مهرجان السنديان الثقافي الذي يقام هناك في كل صيف منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي، إلا إحدى علامات هذا التفوّق. بيد أن ما تعانيه سورية اليوم، في زخم الانتفاضة، من تمزّق اجتماعي، وبروز حالات استقطاب طائفي سبّبته سياسة النظام والبروبغاندا السوداء التي يعمّمها، خصوصاً في أوساط الأقليّات، من دروز ومسيحيّين وعلويّين، أدى إلى بروز مشاعر نقمة على الملّاجة ونخبتها، من محيطها ومن بعض أبنائها للأسف. ذاك أن فرادة هذه القرية ورمزيّة تحرّرها الفكري التي تميّزها، لا تتناسب اليوم مع متطلبات الاستقطاب والاحتقان والتّوتير المطلوبة. هنا يأتي دور ممارسة نوع من إرهاب الجماعات والتّمثيل بها، والرسالة وصلت قبل أيام، وكانت طيلة الصيف الماضي تتواتر في الوصول. وبين ما تقوله هذه الرسالة من أن على العلويّين وغيرهم من الأقليّات النظر إلى أنفسهم كأقليّات متراصّة، وأن يفكّروا ويتصرّفوا ك"طائفة ? طبقة"، وهذا نمط استعماري في التّفريق، سبق تجريبه في عهد الانتداب، الذي سعى جاهداً لتشكيل وعي أقليّ استقلاليّ وانعزاليّ. ويبقى أن تحقيق هذا، اليوم، وفي خضمّ الدماء الغزيرة، ستُضاف إليه عناصر رجعيّة، أصوليّة وسلفيّة، رأيناها في الملّاجة عند تكسير الأعمال الفنيّة والمنحوتات في هجوم ليليّ جبان. غير أن ما يغيب عن بال موجّهي الرسائل، أن الأقليّات السوريّة سبق لها، ومنذ تشكيل كيان الدولة الحديث، أن اندمجت فيه وساهمت في بنائه. أما مشاكل هذا الاندماج وأخطاؤه، فهي من صنعها. فهذه هي صنعتهم الوحيدة والأثيرة. في سورية أكثر من ملّاجة، ستبقى تشرّع أجنحتها، في جهات الحب الستّ... *كاتب وصحافي سوري