ثمة جدلٌ يُطرح عقب كل ثورة، خصوصاً تلك التي يطول أمدها، حول ماهية ممارساتها وأفعالها الميدانية، وعادةً ما تبدو هذه الممارسات جليّة أكثر من ممارسات السلطة خصوصاً في وسطٍ اكتنفته ظلال الديكتاتوريات لعقود طويلة يكون فيها الفرد قد اعتاد مع المجتمع على استبداد السلطة، فيما يمكن له وهو الذي عاش عمره كلّه أو جلّه في وضع اجتماعي سياسي خامل أن يصطاد كل خطأ في ممارسات أي تحول جديد، وهو جدل نابع أساساً من الفلسفة التي يطرحها التغيير في المجتمعات الساكنة للسلطة الشمولية، بل وحتى في أوساط النخب المتحررة من استبداد السلطة يستطيع هذا الجدل أن يجد لنفسه في صالونات النقاش مكاناً، خصوصاً التي تنظر إلى الموضوع عادة من منظور التجربة التاريخية السطحية، إذ أن معظم الديكتاتوريات، خصوصاً العربية، نشأت من خلفيات"ثورية"، وبالتالي فإن استبداد الثورة في نظر البعض واقع، وربما يكون في نظرهم الأساس في تطور المجتمعات الثورية التي تنقل نفسها من استبداد مقبول في مرحلة الثورة إلى استبداد مفروض في مرحلة الدولة. لكن الحديث اليوم ليس عن الثورة التي أنتجت سلطة، وإنما الثورة التي لا تزال في حيز الممارسة الثورية على الأرض، فجدلية استبداد الثورة في مقابل استبداد السلطة مسألة يمكن أن تعطي انطباعات من شأنها إعادة النظر لدى البعض في خلفيات كل الثورة وسهولة تمرير مقابلتها بممارسات السلطة وبالتالي سهولة تفريغ الثورة من محتواها، إذ أن محاكمة ممارسات الثورة بالمطرقة نفسها لمحاكمة السلطة تنطوي على اختزال كبير للفهم بين الأولى والثانية، فالثورة هي أصلاً ظاهرة تتمرد على القانون الذي مورس الاستبداد بسيفه وتسعى إلى صناعة عالم جديد من القوانين، وبالتالي عندما تقوم فإنما في ظل مرحلة انتقالية بين تشكيل القانون الجديد وسلفه، ولا يوجد ثورة تمارس نفسها بقوانين سلطتها، فيما القانون في هذه الحال يلزم السلطة بشكل صارم أكثر لأنها الحامي المفترض لسيادته. وكما أن محاكمة ممارسات الثورة بمعزل عن أهدافها تنطوي على تبسيط للظاهرة ومحاولة لوضع الثورة في قوالب النظريات السطحية الحالمة، فإن العكس هو القاعدة في ما يتعلق بممارسة السلطة التي يصح اعتبار كل ممارسة خاطئة لها معياراً لمحاكمتها، لأن الثورات تخضع للمساءلة في أسبابها، فيما السلطة تخضع للمساءلة في مآلاتها التي أنتجت الثورة، فالثورة والسلطة ضدان في كل شيء إلا في الممارسة، فالأولى في الأسباب والثانية في النتائج، وضدان في الفكر والقالب غالباً، لكنهما يتقاربان إلى حدٍ ما في الممارسة، فبقدر ما تمارس السلطة التطرف في استخدام القوة والقمع والقهر الاجتماعي، بقدر ما تنتج ثورة لها الرغبة نفسها في ممارسة ذلك ضد السلطة طبيعياً، إلا أن الممارسة الأولى منظمة وعميقة الوجود في بناء السلطة، فيما الممارسة الثانية عشوائية طارئة لا تشكل أصلاً في البناء العام للثورة، من دون أن ننفي وجود ثورات قامت باستبداد مقابل استبداد السلطة أنتج سلطة مستبدة أخرى، وهو ماعبّر عنه كثير من"ثورات"الانقلابات العسكرية العربية بسبب غموض أو إبهام السبب الذي قامت من أجله"الثورة"الانقلاب، ما يجعلها ثورات تختلف كلياً عن ثورات الشعوب العفوية نظراً إلى اختلاف الأسباب في قيامها، وهنا لا بد من الإقرار بوقوع ممارسة الاستبداد النسبي لدى الثورة التي نقصدها، كما لدى السلطة، وإنكار وقوعه ما هو إلا أحد أشكال الاستبداد لأحدهما، إلا أن لفظ"الاستبداد"في حق الثورة مجازي هنا لا يلغي معناه، فيما هو أصيل في حق السلطة لأنها المصدر الرئيسي له، بل إن استبداد الثورة في غالبه رد فعل على استبداد السلطة. إن ما يعمق الجدلية بين ممارسات الثورة ارتباط حالة الثورة أو السلطة بإيديولوجيا صارمة، أو تناقض طائفي، وهنا يتسع المجال لاحتمال الممارسات الاستبدادية التي ترتبط بأسباب غير الأسباب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فالتناقض الإيديولوجي أو الطائفي يولد القدر الكافي لوصف أدنى الأفعال بين الثورة والسلطة بالاستبداد، إذ أن الممارسات تصبح مرتبطة بنوع من أنواع الانتماء الفكري أو الديني لمجموعة من أفراد الشعب وإن كثرت، وليس بظرفية السلوك السياسي أو الميداني أو الحقوق الجامعة لمختلف شرائح الشعب بأفكاره وانتماءاته العقدية، وقد تتطور الأمور هنا إلى حرف البوصلة الثورية عن اتجاهها السياسي الأساس المرتبط بالعدالة الاجتماعية وتحقيقها للجميع، وتتخذ المواجهة شكلاً عدمياً غير مرتبط بمجرد تحقيق العدالة الاجتماعية في كل مناحيها، وبالتالي فإن أي ثورة تمارس فكر الإفناء الوجودي ستنتج سلطة مستبدة أكثر من سابقتها، وأي سلطة تمارس الإفناء الوجودي للثورة ستنتج ثورة أكثر انفعالية في ممارساتها، وهي حالة تحبذ السلطة اللجوء إليها في حالات النهايات المحتمة إذ تبدو الملاذ الأخير. يبقى الكلام أن الاستخدام المجازي للفظ الاستبداد بحق بعض ممارسات الثورة لا يعني مطلقاً مساواتها بممارسات السلطة واستبدادها وإنما هو نابع فقط من مقاربة الممارسة في مصدرها الأساس الذي تُسأل عنه السلطة أولاً، من دون أن يعني ذلك براءة مطلقة للثورة وإطلاق يدها تماماً، لكن تلك مسألة إجرائية تخضع لاعتبارات المساءلة والمحاسبة لدى الطرفين، فيما طرح القضية من الناحية الفكرية هنا تحليلي بحت ومحاولة لقراءته في إطار الأسباب الموضوعية التي تدفع ثورة لممارسة خاطئة في سبيل هدف نبيل، ومن دون أن يعني هذا إقراراً لأي ممارسة أياً كان مصدرها، فلدى بعض منظري السلطة المستبدة مدخل لتبرير ممارسة سلطتهم من خلال مقارنة بعض ممارسات الثورة بما تقوم به السلطة، وتصيّد أخطاء الثورة لنقض فكرتها والتشكيك بماهيتها، بإغفال متعمد وتجاهل كامل للعلاقة بين الأسباب والنتائج والمقدمات والنهايات التي يحكمها قانون طبيعي أزلي، فالثورة تُحاكم بأسبابها والسلطة تحاكم بنتائجها. طارق حمود - بريد إلكتروني