تعمل الولاياتالمتحدة اليوم لزيادة إنتاج النفط من مصادر محلية وخفض استيراد المادة، وهي تحقق نسبة متزايدة من الاستقلال الذاتي في موارد الطاقة، وهو الهدف الذي تسعى واشنطن إلى تحقيقه منذ سبعينات القرن العشرين. ويقول دانيال يرغن، أحد أبرز الخبراء الأميركيين، إن ولاية داكوتا الجنوبية تشهد طفرة في إنتاج النفط ما جعل نسبة البطالة فيها الأقل بين الولايات الأميركية 3.5 في المئة مقارنة بمعدل قومي يفوق تسعة في المئة. ومثل هذه الطفرة منتظرة في مناطق أخرى منتجة للنفط من ألبرتا الكندية إلى تكساس الأميركية. ويعني هذا أن أميركا الشمالية شهدت تحولاً حاداً في إمكاناتها النفطية الذاتية، وفق صحيفة"فايننشيال تايمز". ويتوقع محللون أن تتجاوز الولاياتالمتحدةروسيا في إنتاج الهيدربوكربونات السائلة، مثل النفط والغاز الطبيعي، كما ستزيد إنتاج النفط والغاز من الصخور النفطية. أما استخدام التكسير الهيدروليكي والتنقيب الأفقي، فأدى إلى تحول كبير في إنتاج الغاز الطبيعي الأميركي والكندي وفتح مناطق جديدة لاحتياطاته قد تكفي لمئة سنة. وخفضت الولاياتالمتحدة حصة النفط المستورد من أكثر من 60 في المئة في 2005 إلى 47 في المئة في 2010. ويضيف يرغن أن هذه الرؤية غير أكيدة تماماً حتى الآن، لكن نمو الإنتاج الأميركي والكندي والاقتصاد في استخدامه، يجعلان احتمال إعلان أميركا الشمالية استقلالها النفطي"معقولاً". ومع أن هناك مبالغة في الحديث عن منافع اكتفاء ذاتي كهذا، لأن السوق النفطية سوق عالمية، كما أن هناك ارتباطاً بين الاقتصادات المختلفة، ما يبقي إمدادات النفط إلى الولاياتالمتحدة من بلدان مثل السعودية والعراق وغيرهما ضرورية، يعتقد الخبير النفطي والمصرفي في"سيتي غروب"إدوارد مورس، أن في مقدور الولاياتالمتحدة خفض استيرادها النفطي من 10 ملايين برميل يومياً إلى نحو ثلاثة ملايين في أوائل عشرينات القرن الحادي والعشرين. أما الدول التي ستزود الولاياتالمتحدة باحتياجاتها النفطية كلها عندئذ فستقتصر على جارتيها الشمالية والجنوبية، أي كنداوالمكسيك. كان هدف"أمن الطاقة"أو الاستقلال النفطي في صلب سياسة واشنطن منذ عهد الرئيس ريتشارد نيكسون قبل عقود، لكن النجاح لم يكن حليف الولاياتالمتحدة في ذلك. لكن، مع أن الإنتاج الأميركي تراجع منذ سبعينات القرن العشرين، شهد عام 2009 أول نمو جديد في هذا الإنتاج بفضل بدء الإنتاج من خليج المكسيك. وأدى استخدام التقنيات الجديدة إلى ارتفاع احتياطات النفط في الولاياتالمتحدة عموماً. ويقدّر أن إنتاج"النفط الصعب"وصل عام 2011 إلى 900 ألف برميل يومياً وهو مرشح لبلوغ نحو ثلاثة ملايين برميل يومياً في 2020، أي نحو نصف الإنتاج الأميركي الحالي. وكانت الولاياتالمتحدةوكندا أنتجتا 10 ملايين برميل يومياً واستهلكتا 22.5 ملايين برميل يومياً عام 2010، لكن السماح بفتح مناطق جديدة للإنتاج على الساحلين الأطلسي الشرقي والهادئ الغربي للبلدين، على رغم معارضة أنصار البيئة الذين خف نفوذهم لصالح نفوذ شركات النفط، سيؤدي إلى زيادة الإنتاج إلى كامل حجم الاستهلاك الحالي تقريباً. وتراهن بعض المصادر في واشنطن على استقرار الاستهلاك عند مستوياته الحالية بسبب الاستخدامات الأكثر فاعلية للطاقة وخفض استخدام السيارات للوقود السائل وزيادة اعتمادها على بدائل النفط والغاز، مثل الكهرباء والإيثانول ووسائل النقل الهجينة. وسيؤدي شبه الاعتماد الذاتي النفطي للولايات المتحدة واستيرادها لما يتبقى من متطلباتها من كنداوالمكسيك المجاورتين، إلى تغيير الجغرافيا النفطية، فتقتصر مصالح الولاياتالمتحدة في هذا المجال على جوارها الإقليمي. أما أوروبا فستصبح مصالحها في أوروبا وآسيا مرتبطة بإنتاجها الذاتي ووارداتها من روسيا وشمال أفريقيا. أما نفط الشرق الأوسط، العربي والإيراني، فسيستمر في اتجاهه الحالي المعتمد على التصدير إلى شرق آسيا، خصوصاً الصين واليابان والهند. وهكذا تكون الجغرافيا النفطية العالمية توزعت عموماً، ومع بعض الاستثناءات، على ثلاثة خرائط أساسية. قد يؤدي هذا التحول إلى التساؤل عن احتمالات تراجع اهتمام الولاياتالمتحدة بالخليج والشرق الأوسط. في هذا شيء من الصحة بالنسبة إلى انخفاض قلق واشنطن في ما يتعلق بأمن مستورداتها النفطية. لكن لا يمكن التوصل إلى النتيجة ذاتها بالنسبة إلى إستراتيجية واشنطن السياسية-الاقتصادية-العسكرية العالمية، فالولاياتالمتحدة أهم قوة حتى الآن، وأوضاع النفط واحدة، وهي تؤثر فيها مثلما تؤثر في باقي العالم. أضف كذلك تمثّل الصين واليابان الاقتصادين الثاني والثالث على التوالي عالمياً، وهما تعتمدان وستعتمدان أكثر على نفط الخليج والشرق الأوسط. ويرتبط بالتالي الدور العالمي لواشنطن، في أحد وجوهه على الأقل، بقدرتها على الضغط على دول شرق آسيا، خصوصاً الصين، التي أخذت ترى فيها منافساً اقتصادياً وسياسياً في آسيا وأفريقيا. وإذا حققت الولاياتالمتحدة اكتفاء ذاتياً نفطياً، ولو نسبياً، لن يعني ذلك أنها ستنسحب من الأسواق الأخرى، لأن تلك الأسواق ستكون غالباً من وسائل الضغط التي تعتمدها الإمبراطوريات في صراعاتها مع القوى الأخرى. ومما يؤكد هذا التوجه أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أعلن صراحة قبل أسابيع في قمة"منتدى التعاون الاقتصادي في آسيا"أبيك أن بلاده ستعطي الأولوية في سياستها الخارجية في المرحلة المقبلة للمحيط الهادئ. وذهبت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، في مقال لها في مجلة"فورين بوليسي"، إلى القول إن"مستقبل السياسة الأميركية سيتقرر في آسيا، وليس في العراق أو أفغانستان، وستكون الولاياتالمتحدة في قلب الحدث". لكن كل ذلك لا يعني بالضرورة أن الولاياتالمتحدة لم تعد فاعلة في الخليج والشرق الأوسط، فهذه المنطقة وان كانت تفقد منزلتها كمصدر أساسي للنفط إلى الولاياتالمتحدة، فهي تكسب أسواقاً جديدة في المحيط الهادئ. فلا شك في أن رسم أي سياسة لمواجهة توسع بلدان المحيط الهادئ، خصوصاً الصين، في جوارها الإقليمي أو حتى في ما يتجاوزه بحثاً عن مصادر للمواد الخام والتجارة والنفوذ السياسي والعسكري، سيتطلب زيادة في استيراد النفط والغاز من الخليج والشرق الأوسط. وربما حرر الاكتفاء الذاتي النفطي الأميركي صناع القرار في واشنطن من التفكير في الآثار السلبية على بلادهم في حال اشتد الصراع في منطقتنا. * أكاديمي لبناني