ما وقع في مصر في 52 كانون الثاني يناير 1021 فجر ثورة شاملة شارك فيها العامل والطالب والطبقة الوسطى والمرأة والرجل. عمود الثورة الفقري كان جيلاً جديداً من الشبان والشابات ولد في معظمه في ثمانينات القرن العشرين وأراد أن يخط لنفسه مستقبلاً مختلفاً عمن سبقوه من الاجيال التي تعايشت مع الطغيان. لقد صنع الشعب المصري واحدة من أهم الثورات سلمية في تاريخ المنطقة العربية، وهو في الوقت نفسه أسس إلى جانب تونس الطليعية، الربيع العربي الذي يعصف الآن في دول المنطقة. لقد نجح الشعب المصري لأول مرة في تاريخه المديد بمحاكمة رئيسه والطبقة السياسية التي أمعنت في إفساد الحياة السياسية المصرية، كما نجح بعد ثورته في رسم طريق للتعامل مع إسرائيل والرد على تعدياتها التي استهدفت الكرامة المصرية والعربية. الثورة في مصر أحيت جثة هامدة وأحيت بلداً كبل بالاتفاقات الخارجية والاستغلال الداخلي والفساد، بل برزت الثورة المصرية بصفتها تعبيراً عن إرادة الحياة بعد الموت. لهذا نشهد اليوم بروز هوية جديدة لمصر أكثر تواصلاً مع الهوية التي صنعها جمال عبدالناصر، و أكثر اتصالاً مع نفسها وتاريخها. الهوية المصرية الجديدة أكثر انتشاراً ولا تحتاج إلى زعيم أو قائد خالد، فهي تقود نفسها بنفسها وتسعى إلى بناء ثقة بالجمهور المصري والرأي العام الجديد. لقد أدت الثورة المصرية إلى بروز نخب جديدة وطاقات حالمة من بين قطاعات كبيرة من المجتمع الصري. في الزمن السابق لم يكن الشعب المصري يتفاعل مع قضاياه، والآن نجده يتفاعل مع كل قضية. في عام 5002 كان عدد المصريين المهتمين بالحياة السياسية والمستعدين للمشاركة صغيراً. ويسجل للنشطاء المصريين من الجيل الجديد والنشطاء المصريين من الجيل الوسيط الذي"أسس"كفاية والمبادرات المعارضة المختلفة، أنهم طرحوا القضايا وكتبوا ودونوا وضحوا، ما خلق وعياً سياسياً أكثر انتشاراً ساهم في تفجير الثورة. لقد تحول الشعب المصري من شعب يخضع للسلطة بلا تساؤل وبلا مشاركة إلى شعب صانع للحدث وللمستقبل. لكن انتصار الثورة لم يكن كاملاً، فالثورة كانت سلمية، واكتفت بإسقاط رموز النظام بينما قبلت مرحلياً بدور للجيش الذي انضم إلى الثورة من خلال المجلس العسكري الانتقالي. لهذا كان على الجيل الثائر أن يتعامل مع مجلس عسكري يقود البلاد، وأن يتعامل مع نظام اقتصادي وإداري وقانوني قديم متآكل. ومن الطبيعي في أجواء كهذه أن ينزل إلى الشارع أفراد وجماعات يحملون مطالب شعبية متراكمة من عهود سابقة، منها مطالب للمعلمين والمهندسين والجامعات والعمال والصيادين والمناطق العشوائية والعاطلين من العمل. فما نراه اليوم في مصر جاء إليها من مخلفات أمراض ومشكلات لم يلتفت إليها النظام السياسي السابق على مدى 03 عاماً من الديكتاتورية. وعلى رغم عدم اكتمال الثورة، نجح المصريون في انتزاع سلسلة من القرارات من المجلس العسكري، من شاكلة مواجهة محاكمة المدنيين لدى الجهات العسكرية، والالتزام بالانتخابات وتسليم القيادة للمدنيين في مرحلة لاحقة. ولا يزال النشطاء من كل التيارات في عملية كر وفر مع المجلس العسكري حول قانون الطوارئ وحول الإعلام والحريات والمحاكمات وقانون الانتخابات والكثير من القضايا الأخرى بما فيها فترة المرحلة الانتقالية. وفي الوقت نفسه على الجيل الجديد، من الثوريين المصريين أن يحسب حساب قوى الثورة المضادة الخائفة من الجديد أكانت تطل عليهم من خلال أنصار الحزب الوطني الحاكم سابقاً أو من خلال قطاعات تخشى من التغير ونتائجه. الثوريون الجدد في مصر يواجهون عالماً مليئاً بالتناقضات وعليهم أن يصنعوا مستقبلاً لمصر من هذه الحالة الصعبة. والتحديات التي تعصف بالثورة المصرية كثيرة، فأمامها التعامل مع الانتخابات المقبلة والتأكد من خروج الشعب المصري للتصويت. هناك مخاطر في الانتخابات المقبلة، منها احتمال وقوع فوضى عند صناديق الاقتراع وأن لا يسمح لكل الناس بالوصول إلى هذه الصناديق، وفي هذا سيتهم المجلس العسكري بالتقصير ومحاولة التأثير سلباً في مجرى الانتخابات. وإن لم تنجح الغالبية في الوصول إلى صناديق الاقتراع فسيكون هناك شك في شرعية مجلس الشعب ما يمهد لأزمة سياسية جديدة وربما انتفاضة ومواجهة كبرى مع المجلس العسكري بصفته المسؤول عن المرحلة الانتقالية. هذا يتطلب عملية تحضير في ظل قانون متقدم للانتخابات المقبلة، ويتطلب أيضاً رقابة دقيقة من جهات محلية ودولية. وحتى الآن لم تفق الشرطة من هول ما وقع في الثورة. فهي لم تعد للشوارع بعد هزيمتها أثناء الثورة، ما يترك المجال لأمن منفلت، لقد تحول الأمن مسؤولية المصريين أولاً. الكثير منهم يشعر بأن هذا الأمر مقصود من المجلس العسكري وهدفه وضع المصريين أمام خيارات صعبة للقبول بالاستقرار على حساب مطالب الثورة الديموقراطية. لكن هذه السياسة قد تفجر الثورة من جديد، وهناك بدايات بهذا الاتجاه، ففي جمعة الاحتجاج على محاكمة المدنيين لدى الأجهزة العسكرية في التاسع من الشهر الجاري كادت الثورة أن تنفجر مجدداً في وجه المجلس العسكري. هذا السيناريو قد يتكرر في الأسابيع والشهور المقبلة. وهناك في مصر إشكالية أكبر تقف وراء الكثير من المواقف التي يتبعها المجلس العسكري والتي تتلخص بمصالح الجيش الكبرى. فالجيش في مصر يسيطر على نسبة كبيرة من الاقتصاد المصري، فللجيش مصانع ومؤسسات وهيئات وجمعيات ومستشفيات ومدارس. وهناك فرص كبيرة للعسكريين الكبار بالتقاعد كرؤساء تنفيذيين لأهم المصانع والمؤسسات الحكومية الكبرى. ولا يخفى أيضاً أن لدى الضباط في الجيش جيشاً من المجندين يعملون كسائقين ومراسلين وتقنيين لحل أي مشكلة تواجههم في حياتهم الشخصية والعامة. الجيش دولة كبيرة ضمن الدولة المصرية، ودوره كبير في اقتصاد مصر، وهذا من مخلفات النظام العسكري منذ عام 2591. إن أي خطة إصلاح جدية في مصر ستغير من هذه المعادلات والامتيازات لمصلحة التنمية في مصر الجديدة. سيجد الجيش أنه مضطر للتخلي عن بعض المكتسبات أو الكثير منها. والسؤال الآن ما هي المراحل التي سيسلكها التغير في دور الجيش في مصر؟ ثم ما هي طبيعة الحل الوسط بين الحكم المدني وبين جنرالات الجيش؟ بعض ما يقوم به المجلس العسكري لديه نكهة مصرية بالطبع، فالمجلس لا يريد لقوة واحدة اغتصاب السلطة في مصر أكانت تلك القوة حزباً سياسياً أو من الأصوليين أو غيرهم كما حصل في الثورة الإيرانية. لكن بعض ما يقوم به الجيش لديه نكهة عسكرية مرتبطة بخوف الجيش من الانتقال للحكم المدني بعد عقود من الحكم العسكري. هذه تناقضات أساسية تتحكم بالمشهد المصري في المرحلة الانتقالية. وتتضمن المرحلة الانتقالية في مصر، إضافة إلى كل ما سبق، تحديات كبرى من شاكلة انتخاب مجلس للشعب، ثم للشورى، وإقرار مجلس دستوري مهمته كتابة الدستور، ثم انتخابات رئاسية وفق الدستور الجديد. هذه مهام كبيرة يتفاعل حولها حراك المجتمع، لهذا قد لا يكون في مصر رئيس قبل نهاية عام 2102، ما يعني أن المرحلة الانتقالية ستكون شائكة وطويلة ومتعرجة ومليئة بالجُمَع الساخنة والأسابيع المتوترة وربما بثورات جديدة. الثورة المصرية الجديدة قد تتواجه مع دور الجيش ومع فئات كبرى من تيارات المجتمع مرتبطة بالنظام القديم، وستتواجه مع وجود أجهزة الاستخبارات وأمن الدولة السابقة، ووجود رؤى مختلفة للتنمية والتغير وللدين والدولة والسياسة والإعلام والحرية والاقتصاد والثروة والقطاع الخاص. لهذا فالمرحلة الانتقالية في مصر، وبعد كل ثورة في كل مكان، شائكة ومتدفقة وتحمل في طياتها مفاجآت. الخطر الأكبر أمام مصر أن تتحول إلى نموذج بسوء النموذج الباكستاني الذي يعاني هو الآخر من دور الجيش والاستخبارات وضعف المدنيين. لكن الفارق بين باكستان، التي أصبحت دولة فاشلة بكل المقاييس، وبين مصر، أن باكستان لم تصنع ثورة بحجم الثورة المصرية ولا تمتلك قوى شبابية بهذه القدرات والزخم. لهذا فلمصر فرصة كبيرة يجب أن لا تهدر في صناعة مستقبل جديد. الفرصة الأكبر لمصر أن تسير باتجاه النموذج الديموقراطي والانتقال نحو الجديد. من الطبيعي أن يكون اكتشاف الطريق بالنسبة إلى المصريين ذا طابع متعرج وشاق كما كان الأمر إبان الثورة البرتغالية عام 4791 والتي استمرت تعرجاتها لعامين كاملين وتضمنت انقلاباً بعد الثورة وثورة ضمن الثورة على المنقلبين من العسكريين. هذه هي الثورات، تأتي بالجديد، ثم يبدأ الجديد بالبحث عن الطريق وسط حرائق كثيرة وأزمات مستمرة. إن ما يقع في مصر يفتح الباب للفرص الكامنة لنظام ديموقراطي يؤمن بالحريات والتداول السلمي للسلطة. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت