لا يزال التراث الفكري العربي المخطوطات أسيراً للانتقائية والتوجهات الإقليمية والفكرية، بل حتى التوجهات المرتبطة بموضوعات تراثية أو أعلام أو مناطق جغرافية أو تاريخية محدَّدة، ما يعني أن نظرتنا إلى التراث ليست سليمة، وأن الإفادة من التراث لم تتحقق على النحو المطلوب، هذا من ناحية"ومن ناحية أخرى، فإن العمل التراثي اليوم ما زال يدور في فلك النص تصحيحاً وضبطاً وتعليقاً وتخريجاً. ثَمَّة أمر خطير يعاني منه هذا التراث، هو عدم النظر إليه نظرة كلية، بعيداً من التصنيف أيّاً كان مرتكزه، لأن التصنيف في جوهره مصادرة لا تتفق والمنهج العلمي. التراث قضية كبيرة، وأي قضية أيّاً كان الموقف منها تعني المسؤولية تجاهها، ودعونا ننظر في تأصيل الأمر: مضى ما يزيد على قرن من العمل الجاد في التراث الفكري العربي المخطوطات، ولا يزال هذا التراث حتى اليوم من دون"دستور"يكون بمثابة أساس نظري له من ناحية، ومخطط عمل مستوعب لشتى أنواع الحراك التراثي ومستوياته من ناحية أخرى. ولا يعني ذلك التقليل من الجهود الماضية التي بذلتها منظمات ومؤسسات ومراكز وأفراد، لكن الوقت بلا شك أزِف لنظم تلك الجهود المبعثرة في عِقد واحد، ولتحقيق نقلة نوعية يتم فيها تحديد المفاهيم وضبطها، وطرائق العمل وأنماطها. وهذه مناسبة للقول انه ما عاد يجوز التفكير في التراث، والتعامل معه من خلال الخطط الثقافية العامة"لأن له خصوصيته وطبيعته ولغته المتفردة. لا بد من خطة شاملة إستراتيجية خاصة بالتراث، تكشف عن طبيعة علاقتنا به، وتستكشف خريطته وتضاريسه، وتحدد ميادين عمله، وترسمُ سلَّم أولوياتِه، وتُقَنِّن الجدل القائم بينه وبين الثقافة، وبينه وبين الحداثة، والعولمة والإعلام والتربية والتعليم وثورة الاتصالات، وقضايا العصر جملة. وإذا كانت جهود الأجيال السابقة انصرفت إلى إعادة اكتشاف التراث، ووضع آليات تحقيقه، فمن المنطقي أن تتوجه الجهود اليوم إلى المرحلة التالية: مرحلة البناء النظري، ذلك أن التفكير في التراث وسبر أغواره واستلهام دروسه لا تأتي إلا من خلال فروض ومفاهيم وأنساق نظرية، لأن استيعاب التراث في عملية التوليد المعرفي يتطلب تأسيساً نظرياً لمقوماته ومقولاته وتمثلاته. إذاً، إن التأسيس من الضرورة بمكان للانطلاق على بصيرة في العمل التراثي، ولبناء أسس أو قواعد مشتركة يلتقي عليها العاملون في حقل التراث بمختلف توجهاتهم ومنطلقاتهم، وأنَّ البدء بالتأسيس لازم، إذ إن أي خطة لا بد من أن تستند إلى رؤية تقوم عليها، وتنهض بها خطوات العمل، وبرامجه وأهدافه. ولا يمر التأسيس عبر رصد الإنجازات والإخفاقات فقط، لكنه عملية أصيلة تتغيا وضع الأسس، وضبط المفاهيم، وصوغ الأهداف والمقاصد"لتكون أكثر ملاءمة ومواكبة لحاجات عصرنا وتحدياته، ولتستوعب المعارف والأخطار والرؤى الجديدة، من خلال نوع جديد من التفكير في التراث، يقوم على العلمية والموضوعية، والنظر الكلي، والإفادة والاعتبار، والمساءلة والكُلِّية، والحفر الواعي، بعيداً من الذاتية والانتقائية والترداد والعبث والاستنتاج والتجزيء والسطحية، إذ إنه بذلك نخرج بالتراث من الإسقاطات والمحاكمات والأحكام المسبقة والجاهزة. ولن يكون التأسيس إلا من خلال إثارة أسئلة، بعضها مما يُظَنُّ أنه قريب، لكن أقرب الأشياء إلينا قد تكون أخفاها عنا، وبعضها مما لا تملك إلا أن تعترف بأنه إشكالية كبيرة وعميقة، على أن النوعين هما من الأسئلة المراوغة التي تختلف الإجابة عنها، تبعاً للأفكار والتوجهات للمسؤول عنها أو المتصدي لها، ومن هذه الأسئلة: ما هو مفهوم التراث؟ وما هي حدوده؟ وهل التراث هو المخطوط الوعاء أم هو المحتوى النص أم شيء آخر؟ وهل التراث جزء من الثقافة، أم أنها جزء منه؟ أم أن كلاً منهما رأس بنفسه؟ وهل قرأنا - حقّاً - تراثنا؟ وكيف قرأناه؟... إلخ. أسئلة تتطلب الإجابة عنها كثيراً من الشروط الضرورية لئلا نقع أسرى استقطاب من أيِّ نوع، ونُضحِّي بالدقة العلمية، وكي يكون العملُ التراثي عملاً يبدأ بالتراث، وينتهي به. ودعونا نثير هنا بعض الأسئلة، ونبدأ بما يتصل بمفهوم التراث: لم يتحرر حتى اليوم مفهوم جامع مانع للتراث يحظى بالإجماع أو شبه الإجماع عليه، وما زلنا حتى على صعيد المصطلح لم نخلِّص مصطلح التراث الفكري من المصطلحات الأخرى التي تشترك معه في كونها تراثاً، لكن مفاهيمها مباينة له، من مثل: الوثائق والآثار والموسيقى... وعلى صعيد الحدود المفهومية المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا واللغة، ما زلنا - أيضاً - مختلفين على المسائل البدهية من مثل: أين يبدأ التراث وأين ينتهي تاريخياً؟ وما هي الحدود الجغرافية التي يتحرك عليها؟ هل التراث العربي هو المكتوب بالعربية فقط، أم أنه يشمل المكتوب بالحرف العربي، أم أنه يتجاوز هذين ليستقطب ما فقدته لغتنا واحتفظت به اللغات الأخرى عبر الترجمة؟ إلى أن نصل إلى الإشكاليات المركبة من مثل: إشكالية الحاجة إلى نظرية جديدة لمفهوم التراث تتجسد فيها أبعاد التاريخ والجغرافيا واللغة والفكر جميعاً؟ ولا يتوقف الأمر عند المفاهيم وما يتصل بها، فهناك التشابكات التي تثير أسئلة عن طبيعة العلاقة بين التراث والثقافة، وعن جذور الأزمة التي يعيش فيها التراث والثقافة على السواء، وعن أسباب الانقسام النخبوي اليوم بين أهل التراث وأهل الثقافة. وعلى صعيد التشابكات لا بد من أن ننظر إلى طبيعة العلاقة - أيضاً - بين التراث والحداثة، التراث - الخصوصية، والحداثة التي يحمل لواءها الآخر، وهنا نجد أنفسنا في حالة مواجهة لا مفر منها مع أسئلة من نوع: هل الحداثة مفهوم كوني عالمي صالح للتطبيق داخل أي إطار فكري؟ وهل يمكن استيراد نسق فكري فلسفي من بيئة ما و"تنزيله"على نسق آخر؟ أهم من هذا وذاك: لماذا لم تتولَّد لدينا"حداثة"خاصة تنتمي إلى تراثنا وتستند إلى مرجعيته؟ إن الأسئلة السابقة جميعها تفرض علينا أن نراجع رؤيتنا لتراثتا، ونستكشف تضاريسها، ثم نوازن بين هذه الرؤية ورؤية الآخر لتراثه، وقد يكون علينا أن نعمق المراجعة بالبحث في الرؤية التراثية في اتجاهات أخرى، حتى نصل إلى غايات الإفادة والاعتبار والتوظيف. ومن الضروري أن نعترف بأن بيننا مَن يؤمن بأن وظيفة التراث انتهت، فقد عرَّته عوامل الزمن حتى انها لم تبق منه شيئاً، وفي مقابل هذا الفريق فريق آخر يحمل قناعة معاكسة تماماً. لدينا اليوم إذاً الكثير من المواقف تجاه التراث، مواقف معه، وأخرى ضده، فما حيثيات هذه المواقف، وما هي أنواع القراءة التي اعتمدها كل فريق، والمناهج التي طبقها. ومن الضروري في هذا السياق ملاحظة الحمولات الثقافية والفكرية التي وجهت هذه القراءات وأثرت فيها. إن هذه المواقف تعني أن التراث اليوم أصبح محل مساءلة، ولكن أي مساءلة هذه؟ وأيا كانت، فإن المساءلة في حد ذاتها ظاهرة صحية، وليس التراث مقدساً كي نقدسه، لكن الأمر أبعد من ذلك، فالمساءلة لا ينبغي أن تصادر صلاحية التراث، ولا يصح أن تقوم على إسقاط الحاضر عليه، بمعنى سلبه سياقه التاريخي وظرفه الزمني. والمساءلة سترجع بنا بالضرورة إلى القراءة أو القراءات التي اعتمدناها ونعتمدها للتراث. وثَمَّة قضايا أخرى مهمة تدخل في باب النقد الإيجابي، وتتمحور حول إشكالية كون التراث كله كتلة فكرية ومعرفية على مستوى واحد، لا تفاوت فيها، أم أن فيه الأصيل الثابت، وفيه الدخيل المتحول. ثم إن الحديث عن التراث مرتبط بالضرورة ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة، فما هي العلاقة بين التراث والذاكرة؟ أسئلة كبيرة تتطلب الكثير من الجهد للإجابة عنها، فمن يقوم بالمهمة؟ * منسق برامج"معهد المخطوطات العربية"في القاهرة