تحصل في سورية ثورة حقيقية. تتالي دخول المدن والبلدات إليها، من الجنوب إلى الشمال، دلالة أكيدة على أن كل الكلام عن سلفيين ومجموعات عربية ومؤامرات خارجية وعصابات مسلحة ومندسين، مجرد دعاية أيديولوجية للنظام، وقد سقطت كليّة، ولم تعد تقنع حتى أكثر الفئات استماتة في الدفاع عنه. مشكلة ثورة سورية، في استثنائية تصاعدها أيام الجمع، وندرتها خلال أيام الأسبوع، وهو ما أعطاها صبغة دينية ما، وترافق ذلك مع قلق أقلي واسع. عدم مشاركة مدن كبيرة كدمشق وحلب بشكل فاعل، رجّح هذا الميل. إلا أن عدم المشاركة لا يتأتى من هذا السبب، بل من أن هذه الثورة حدثت في ظل نظام أمني، يضبط المجتمع السوري في شكل قمعي منذ عقود وعقود، وباعتبار الجوامع المكان الوحيد المتاح أمام الناس للاجتماع. ذاك أن التظاهرات المتصاعدة خرجت منها، ومن المناطق الأكثر تهميشاً. غياب ذلك طيلة أيام الأسبوع، يوضح أن الصلاة في هذا اليوم ليست بنيّة الصلاة بل بنيّة التظاهر، على رغم أن ليوم الجمعة خصوصيته الدينية. ولهذا نميل إلى أن الخروج من الجوامع، لا دلالة دينية له بل دلالته مدنية، وتتمثل في محاولة الوصول إلى الحقوق الدستورية للأفراد كي يكونوا مواطنين، وتعبيراً عن شعور جارف بضرورة التغيير. الطرافة هنا، أن كثيرين من العلمانيين يذهبون إلى الجوامع، للمشاركة بالتظاهر. أما عدم تحرك المدن الكبيرة، فيُفهم بالسيطرة الأمنية المتشددة عليها، ووجود مصالح وامتيازات لكبار التجار، مرتبطة بفئات السلطة الحاكمة. يقلق البعض من خصوصية الثورة السورية، ويخاف من إمكانية فشلها، وهو بذلك يضع مصر وتونس واليمن في الذهن، حيث كانت الأحداث تتسلسل يومياً، ولم تمضِ بضعة أسابيع إلا وسقطت الأنظمة في مصر وتونس. هذا التفكير متسرع، وقلق، ولا يفهم أن الثورات ابنة شروطها المميزة، على رغم تشابه الأنظمة في ديكتاتوريتها. خصوصية الوضع السوري قد تؤدي إلى تباطؤ في حسم الثورة نحو نظام ديموقراطي، وقد يتم ذلك عبر إصلاحات عميقة من النظام ذاته، وسيؤيدها السوريون. أو حدوث انقسامات في النظام، تسرّع عملية الانتقال، وسقوطه في النهاية، والبدء بتشكيل الدولة من جديد، وهذا كلّه في طور الاحتمال، ولكنه ممكن، في حال استمرار تراكم أزمات النظام الاقتصادية والسياسية أو إطالة فترة التظاهرات، والاستمرار في الحل الأمني. هل يمكن الانتفاضة أن تنتكس؟ هذا احتمال هامشي. هل يمكن أن تنجح؟ الأمر ممكن جداً. فالثورة السورية حدثت في مناخ عربي ثوري، مناخ لا يرضى بأقل من إسقاط الأنظمة، والتخلص من عقود الظلم والإفقار والتهميش والإذلال وانعدام الحرية، وتحكم الأجهزة الأمنية، وبالتالي هناك أسباب مكينة ودفينة، هي ما يحرك الهبات الشعبية، وهو أمر لم يعه النظام حتى هذه اللحظة. يخدم هذه الهبات خروج مدن بأكملها عن السيطرة، وانعدام فاعلية مؤسسات الدولة بالكامل، وانفتاح الصراع مباشرة بين الأمن و"الشبيحة"من جهة وجموع المتظاهرين العزل ووقوف كل فئات المعارضة إلى جانبها من ناحية ثانية، عدا وجود حس سليم عند الشعب مفاده أن العودة عن الثورة غير ممكنة، وكل عودة ستؤدي إلى الملاحقة والقتل. هذا الإحساس، مدعوم بتاريخ من ممارسات أجهزة الأمن. ولأن الوضع كذلك، فإن الثورة السورية لن تتراجع، وسيكون على النظام حسم خياراته نحو الحل السياسي، الذي تأخر كثيراً، أو سيكون على الشعب إسقاط النظام. وهو على كل حال، الشعار المركزي في هتافات المتظاهرين منذ أكثر من شهر. * كاتب سوري