في إحدى القاعات المخصصة لمؤتمر"العولمة والتمريض"Nursing & Globalization الذي نظمته"نقابة الممرضين والممرضات في لبنان"، لمناسبة"اليوم العالمي للتمريض"، اختلف المشهد عن كونه طبياً بحتاً، وعن المعلومات العلمية الموجّهة الى ذوي الاختصاص حصرياً. في هذه القاعة اختلطت التجربة بالطب. وخرجت جلسة عمل محمّلة بكثير من المشاعر والعواطف التي تحمل جزءاً كبيراً من الدراما الإنسانية. لم تتطرق ورشة العمل إلى مرض معين وكيفية التعامل مع المصابين به، أو آخر اكتشافات الطب أو مناقشة الأعراض الايجابية والسلبية لدواء معيّن. فقد تناولت ببساطة المرحلة الأكثر دقة من حياة المريض والمشرفين على حياته، وهي المرحلة الأخيرة من هذه الحياة وكيفية التعامل معها بإنسانية قبل أي شيء آخر. مفهوم العناية التلطيفية في المؤتمر، تلاقت على منصة المتحدثين ممثلات عن جمعية"سند"اللبنانية وملهمتها جمعية"الملاذ"الأردنية. قد تكون صدفة أن القيّمات على هاتين الجمعيتين من النساء، ومقدم الشهادة عن حسن عملهن وأهميته رجل فقد والده. هو جراح تجميل، وابن جراح ويتحدر من عائلة فيها أكثر من طبيب. لم يدم التماسك الذي أبداه بصعوبة خلال حديثه عن تجربة والده وصراعه مع مرض السرطان إلى أن تعرفوا كعائلة الى جمعية"الملاذ"في الأردن، أمام عرض الصور المريعة لحالات بعض المرضى الذين يتآكلهم المرض، وهم قابعون في أسرّة المستشفيات، أو بعد فقدان الأمل وإرسالهم إلى منازلهم، وذرف دموع أخرى حين قدّمت ممرضة شابة قصيدة كتبتها عن مريضتها التي توفيت وهي تمسك بيديها، خلال فترة تقديمها العناية التلطيفية Palliative Care لهذه المريضة. طغت المشاعر على الجلسة من خلال الشهادات التي قدمها ممرضون وممرضات من يومياتهم في المستشفيات، وعن أوقات عايشوها من دون أن يتمكنوا من الحكم على صحة أفعالهم أو التحكم بقراراتهم، خصوصاً مع الضغوط المتأتية من الإشراف الإداري أو من وطأة العمل المضني نفسياً وجسدياً. قدمت السيدة رنا حمّاد، مديرة جمعية"مؤسسة الملاذ للرعاية الإنسانية"في الاردن، شرحاً وافياً عن تاريخ العناية التلطيفية، ونشأة"الملاذ"والصعوبات التي واجهتها خلال مسيرتها. وأوضحت أن"الملاذ"انطلقت في التاسع من تشرين الاول اكتوبر 1992، تحديداً في اليوم الوطني للتبرعات من أجل بناء مركز"الأمل للشفاء من السرطان". وحينها، كانت الفكرة الأولى التي خطرت في بال حمّاد هي:"ماذا إن لم يكن هناك من أمل؟ ماذا إن وصل المريض إلى نقطة اللاعودة"؟ تفاقمت الأسئلة. وأدى التمحيص بمصير هؤلاء إلى اكتشاف أن معظمهم يقضون الأيام الأخيرة من حياتهم في عذاب ينتهي بموتهم بعد معاناة مزدوجة من المرض والإهمال أو قلة الرعاية. بدت قاسية تلك الصور التي عرضتها ورشة العمل عن حال بعض المرضى قبل أن تبدأ"الملاذ"عملها، خصوصاً بالنسبة الى مَن هم خارج الجسم الطبي. لم تلقَ الصدى المفاجئ نفسه عند الآخرين، وكأن تلك الصور هي"مشهد سبق رؤيته"dژjˆ vu. ما لبث التفاوت في ردود الفعل أن تبلور في الأسئلة والشهادات التي قدمها المشاركون ومعظمها من ممرضين أو ممرضات. وتمحورت الأسئلة حول كيفية التعامل مع بعض الحالات، أو التأكد من صحة تصرّف مارسوه، أو الاستياء من عدم وجود سياسة متّبعة في المستشفيات من أجل طرح الخيارات أمام أهالي المرضى الذين يقفون عاجزين أمام عبارات تشبه"يمكنكم إبقاءه هنا ولكن لا أمل في شفائه"، أو"يمكنكم نقله إلى المنزل". هذا النوع من"التخيير"بين شيء ملموس وعدمه، يدخل أهل المريض في دوامة الخوف من التقصير تجاهه أو حتى حرمانه فرصة العلاج. وعمدت رئيسة جمعية"سند"لبنى عز الدين، المستشارة في مجال التنمية الاجتماعية، إلى بلورتها. وقالت:"المشكلة انه حتى اليوم لا توجد الثقافة العامة التي تدفع المستشفيات إلى الكلام عن الرعاية التلطيفية كخيار يمكّن المريض من الاستمرار في العلاج، ضمن ظروف عائلية أفضل، وفي الوقت نفسه يخفف العبء عن المستشفيات". والمعلوم أن"سند"جمعية لبنانية غير ربحية، أنشأتها عز الدين بعد أن خبرت أهمية الرعاية التلطيفية من خلال تجربتها الشخصية مع والدتها الاردنية التي قضت في حضانة"الملاذ". وتتشارك الجمعيتان الاهداف والمبادئ نفسها. ويقوم مبدأ الرعاية التلطيفية على مبدأ أن لكل مريض الحق في المعاملة الجيدة والعيش بأقل ألم ممكن، حتى حين يصارع الموت في الساعات الأخيرة من حياته. وقدمت هيلين سماحة نويهض وهي ممرضة متخصّصة في شؤون التمريض إدارياً وأكاديمياً، مداخلة عن أهمية هذه الرعاية التي تترافق مع إشراف من طبيب متخصّص في طب الشيخوخة "جرياتريك ميدسن"Geriatric Medicine. بعد الاطلاع على الملف الكامل لحال المريض، خصوصاً ما يتصل بالتعامل مع الألم وتخفيفه، يبدأ رسم الخطوط التفصيلية للرعاية التلطيفية التي تركّز على التعامل مع التكامل في التعامل مع المريض كإنسان، بمعنى اهتمامها بالنواحي النفسية والمرضية والعائلية وغيرها. ما بعد العلاج: مبدأ الإنسانية المنسي تبدأ الرعاية التلطيفية في التعامل مع المريض في المرحلة الأخيرة من حياته، أي بعد أن يصبح العلاج غير مجدٍ عملياً. وتعمل على أن يقضي لحظاته الأخيرة بين عائلته وأهله، وعلى أن يختتم حياته بكرامة. كما تشتغل هذه الرعاية على الشق النفسي والمعنوي للمريض وعائلته، بمعنى تحضير الأهل لمرحلة ما بعد غياب المريض، ثم متابعتهم خلال هذه المرحلة نفسها أيضاً. ويؤكد القيمون على الجمعيات المتخصصة بالعناية التلطيفية أنهم لا يتدخلون بتاتاً في ما هو محتوم. إذ يوضحون أن عملهم جزء مما يقوم عليه مبدأ الإنسانية، ومن رسالتهم كأطباء وممرضات و"هو الشق الذي نسيه أو تناساه الكثيرون ممن يمتهنون هذه المهنة"، وفق كلمات وردت في المؤتمر. ويعتبر التوجيه في المنزل، ورفد العائلة بما يمكن أن يريحها، من أهم ما تقدمه الرعاية التلطيفية. إذ غالباً ما تقف عائلة المريض الموشك على مفارقة الحياة، عاجزة عن التعامل مع الموقف. يدرّب القيّمون على جمعيات الرعاية التلطيفية العائلة على تقديم المساعدة، عِبر تعليم من يرغب منها بكيفية إعطاء جرعة الدواء اللازمة، ومساندته إذا حدث أمر مفاجئ. إذ غالباً ما يمرّ المريض في انتكاسات متعددة، تؤدي إلى أن تسوء حالته يوماً بعد آخر. وتعمل هذه الجمعيات بتنسيق تام مع عائلة المريض، من دون تقاضي بدل مادي لقاء ما تقدمه من خدمات، مثل المتابعة الطبية على مدى 24 ساعة، والعمل على تأمين الأدوية والحاجات اللازمة للعائلة التي تفتقر إلى القدرة على ذلك. وعندما تكون أسرة المريض مقتدرة لجهة تأمين حاجاته علاجياً ولوجستياً، ينصرف فريق"سند"أو"الملاذ"إلى تأمين الدعم النفسي والرعائي والمعنوي للمريض وعائلته. خلُصت ورشة العمل إلى أن الكثير من الاسئلة والاستفسارات حول الرعاية التلطيفية، تأتي نتيجة خلط في الامور، وعدم الإلمام بالثقافة اللازمة في هذا المجال، خصوصاً في مجال الطب الرعائي. وأكدت الاستمرار في العمل والتعاون مع مراكز القرار، مثل الجامعات ومعاهد التمريض ونقاباته ووزارة الصحة، بواسطة دراسات ومؤتمرات، تساعد على تثبيت الرعاية التلطيفية كثقافة، وهو ما تقوم به"سند"من خلال العمل والتنسيق مع لجنة وطنية للعناية التلطيفية والسيطرة على الألم، منبثقة من وزارة الصحة اللبنانية.