الذكرى الأولى لرحيل محمود درويش كانت الفرصة الملائمة لإصدار ديوانه الأخير"لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"في طبعة جديدة، خالية من الأخطاء التي اعترتها، عروضية كانت أم طباعية. فهذا الديوان الذي لا يحمل صفة"الديوان الأخير"يستحق أن يُقرأ في منأى عن السجال الذي دار حول أخطائه ومَن ارتكبها وكيف. هذا ديوان ليس ب"الأخير"، بحسب ما جاء على غلافه الأول، وإن كان صدر بُعيد رحيل شاعره. وقد لا يكون أصلاً ديواناً إذا قورن بمفهوم محمود درويش للديوان، لا سيما في الأعوام الأخيرة عندما كان الشاعر ينصرف الى بناء ديوانه أو تشييده، لغة ومناخاً ورؤية، حتى ليمسي أشبه بالمعمار الذي لا يمكن المسّاس به. هذا ديوان ناقص إذا تم وصفه وفق العيار"الدرويشي"أو انطلاقاً من نظرة الشاعر الى الديوان، ديوان"مركّب"من قصائد كانت مبعثرة في الأدراج وبين الأوراق، وكان الشاعر، على ما بدا، يؤجل النظر فيها، مرة تلو مرة، مع أنه لم يكن يخفي حبه لبعضها. ولعله كان يحدس أن هذه القصائد كتبت كيلا تجمع في ديوان، أو لتبقى مبعثرة في الذاكرة وعلى الورق بخط يده. بل لعله كان يحدس أن هذه القصائد كتبت لئلا تنتهي، أي لتظل قصائد مفتوحة على الصدفة التي هي قدرها المجهول. لم يتخيّل محمود درويش قصائده هذه، التي كتبها في فترات وظروف وأحوال شديدة الاختلاف، تجتمع في ديوان لم يمرَّ عليه قلمه، حاذفاً بضع مفردات هنا أو مضيفاً بضعاً هناك، ديوان لم يلق على صفحاته نظرة أخيرة، ثاقبة، تنم عن مراسه الصعب في"ترويض"القصيدة وبلورة اللغة. لكن الديوان صدر حاملاً اسمه وصفة"الديوان الأخير"وكان من المفترض أن يحمل صفة"ديوان ما بعد الرحيل"كما يحصل في الغرب عندما تُنشر الأعمال بعد موت أصحابها، لا سيما إذا لم يتسنّ لهم إكمالها ووضع اللمسات الأخيرة عليها. وبدت الصفة هذه على تناقضٍ مع جوّ القصائد التي ضمّها الديوان، وبعضها بديع حقاً ويستحق النشر. وكان العنوان كافياً ليدل على عدم اكتمال الشعر هنا أو المشروع الشعريّ الذي لم يرد الشاعر أن ينهيه ويغلق نوافذه التي تطل على اللانهائي. ومَن يقرأ القصيدة التي حمل الديوان عنوانها يدرك أن الشاعر لم يكن البتة أمام ديوانه الأخير، ولا أمام نهاية مشروعه الشعري الفريد. و هذا سرّ محمود درويش الذي كلما أحس أن النهاية تتهدده شرع في بداية جديدة. فهو شاعر البدايات الدائمة، البدايات التي تعقبها بدايات ولو اكتسبت طابع المغامرة الجريئة أو الخطرة في أحيان. لكن نشر هذه القصائد المتناثرة والمبعثرة لم يسئ اليها على رغم الهنات التي اعترت الديوان، بل هو أتاح لجمهور الشاعر أن يستعيد قصائد كان قرأها سابقاً أو سمع عنها أو يجهلها تماماً. وكان لا بد لهذه القصائد من أن تصدر فلا تظلّ رهينة الأدراج على رغم الصيغة المضطربة التي ظهرت فيها. وبعض هذه القصائد من أجمل ما كتب الشاعر وأعمق ما كتب، وفيها يبلغ القمم التي ارتادها سابقاً. وقد تكون بضع قصائد قصيرة أشبه ب"اللقى"الشعرية ذات الصوت الخفيض والوهج الخفي، ومنها على سبيل المثل قصيدة"كلمات"و"عينان"... ناهيك عن القصائد التي تحمل في صميمها ما يشبه"البيان"الشعري الأخير الذي يندّ عن نظرة الشاعر الى الشعر واللغة كمرآتين يتجلّى الموت على صفحتيهما. ولا يمكن نسيان القصائد التي بدت تحلّق في فضاء الذات والأنا والجمال، متحرّرة من ثقل التاريخ، الشخصي والعام. واللافت في هذا الديوان الذي ليس بديوان تام، أن قصائده تخفي الكثير من المفاتيح التي لا بدّ منها لدخول عالم الشاعر، بأسراره وسماته الفريدة. يشعر القارئ الحصيف أن ملامح عالم محمود درويش تتوزّع القصائد هنا، متراوحة بين الغنائية العالية ونثر الحياة اليومية والتخييل والترميز والسرد والماوراء والواقعية المباشرة... كأن عالم الشاعر يتجلى كله هنا، متناثراً ومضيئاً مثل قطع البلّور: الحب والموت والمنفى الداخلي والخارجي، بؤس التاريخ، مأسوية الحياة، العبث واللاجدوى، الألم المجهول، السراب، الصمت، الغناء المجروح، الحلم... لو تسنّى للشاعر أن يصنع هذا"الديوان"وأن يهذّبه ويبنيه لكان حتماً من أجمل دواوينه! ولكن لا ضير أن يصدر بعد رحيله ليكون شاهداً له، شاهداً لشعرّيته الكبيرة. يكتب محمود درويش قصيدة بعنوان"عينان"قد تكون احدى أطرف القصائد التي كتبت عن"عيني"امرأة. والطرافة هنا تعني الغرابة ممزوجة بالجمال والسحر. انها قصيدة فريدة في لغتها كما في مقاربتها لصورة"العينين"اللتين تضفي عليهما ألواناً تشبه ألوان قوس قزح أرضي أو حلميّ. كأن درويش يهتك في هذه القصيدة، القاعدة التي قام عليها شعر"العينين"أو"غزل"العينين بالأحرى. فالعينان الأنثويتان هنا لا لون واحداً لهما بل هما"تائهتان في الألوان": عينان"خضراوان قبل العشب، زرقاوان قبل الفجر...". عينان"لا تقولان الحقيقة"، عينان"تكبران إذا النجوم تنزّهت فوق السطوح وتصغران على سرير الحب"... نادراً ما كتب عن"العينين"بمثل هذه الفتنة أو بمثل هذا الالتباس أو الغموض. العينان ليستا"غابتي نخيل"كما وصفهما بدر شاكر السياب ولا هما الأعجوبة التي سحرت الشعراء على مرّ العصور من المتنبي الى نزار قباني وأنسي الحاج، ولا هما مرآة الطبيعة البهية، كما تخيلهما الشاعر الفرنسي لويس أراغون، انهما بحسب محمود درويش،"تهربان من المرايا"، عينان"صافيتان، غائمتان، صادقتان، كاذبتان"، انهما عيناها... ثم يقول الشاعر خاتماً قصيدته بما يشبه المفاجأة الساطعة سائلاً:"ولكن من هي؟". كأن كل غزله بهاتين العينين هو غزل بعينين لا امرأة لهما، عينين هما كل العيون وليستا لامرأة يسميها امرأته. هذه القصيدة البديعة هي من المفاجآت التي حملها الديوان"الناقص"الذي يصعب وصفه ب"الأخير"ما دامت قصائده كُتبت لتبدأ ثم تبدأ ثم... وما أكثر القصائد التي تماثلها فتنة واغواء، في هذا الديوان الذي كان يستحق أن يقرأ في الذكرى الأولى لرحيل شاعره، في طبعة أخرى، خلو من الأخطاء، العروضية والطباعية التي ارتكبها سواه. عام على رحيل محمود درويش! ما أصعب الكلام عن هذا الشاعر في صيغة الغائب، هذا الشاعر الذي يحمل في قلبه"ثقباً سماوياً"والذي"يمشى على أطلاله... خفيفاً مثل أوراق الشحيرات". نشر في العدد: 16927 ت.م: 08-08-2009 ص: 24 ط: الرياض