بمشاركة 18 دولة.. انطلاق الفعالية التقنية الأكثر حضورًا في العالم «ليب».. غدًا    «السالمي» يتوَّج بكأس خادم الحرمين الشريفين للقدرة والتحمل    لبنان أمام فجر جديد: حكومة مكتملة بعد جمود طويل    المملكة تشارك في تمرين «أمان» بباكستان    بعد لقائه بالشرع.. أرياس: نضع الأساس لإغلاق ملف الأسلحة الكيميائية في سورية    هل تتأثر هدنة غزة بتناقضات المعايير الإسرائيلية    فارس الجنوب يغير بوصلة الصدارة    ربع مليون طالب وطالبة في 1700 يحتفلون بيوم التأسيس بالطائف    القبض على (6) إثيوبيين في عسير لتهريبهم (95,070) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    الأحساء تختتم ملتقى الحرف والفنون    الاتفاق يواصل الانتصارات في الدوري    محمد مروعي مجيري حاصد جائزة الإعلام بمنطقة جازان .. يضع العسل السعودي على خارطة التميز العالمية ..    400 مشارك بالمعرض السعودي للاختراعات والابتكارات    مفوض الإفتاء موجهًا رؤساء الجمعيات اللحمة الوطنية من القيم الأساسية التي تعزز من تماسك المجتمع    وزير الرياضة يستقبل رئيس الأولمبية الدولية في الرياض    العلاقات السعودية - الأمريكية: احترام التاريخ والتعاون    جامعة خالد تكرم الجامعات العربية المدرجة في تصنيف 2024    إنطلاق مؤتمر السمنة السنوي الدولي الثامن بالخبر    جوارديولا يسخر من حكام الدوري الإنجليزي بعد إصابة نيكو جونزاليس    الصين تعلن اكتمال بناء أكثر من 30 ألف مصنع ذكي    شركة اليسر راعيًا ذهبيًا في مؤتمر ليب 2025    1383 حالة ضبط للمنوعات بالمنافذ خلال أسبوع    برنامج ماجستير لتمكين الكوادر الوطنية من قيادة القطاع السياح    وزير التعليم يكرم المعلمة اللحياني    تخصصي تبوك يكرّم الموظفين والأقسام المميزة    هل تنجح المساعي الأفريقية في حل أزمة الكونغو الديمقراطية؟    القتل تعزيراً لأمير زاده لتهريبه الهيروين    الأمير تركي بن هذلول يفتتح مهرجان «الرقش النجراني» لعام 2025    روسيا: تخفيض سعر صرف الروبل أمام العملات    ترمب: سأفرض رسوماً جمركية على دول كثيرة    ترقية م. بخاري في هيئة الإذاعة والتلفزيون    «الداخلية»: ضبط 21 ألف مخالف للأنظمة في مناطق المملكة خلال أسبوع    الدكتوراه ل«السهلي»    المنتدى السعودي للإعلام يستقطب شخصيات عالمية في نسخته الرابعة    ماتياس: لهذا السبب استبعدت «فيرمينيو»    انخفاض درجات الحرارة ورياح نشطة مثيرة للأتربة على عدة مناطق في المملكة    الأردن.. مقتل عائلة كاملة إثر استنشاق غاز مدفأة    تحويل منزل فيروز «القديم» متحفاً في لبنان    24 مليون مشاهدة تجسد تأثير كريستيانو رونالدو    الهلال يُحافظ على سالم الدوسري    انطلاق بطولة VEX IQ لصُنّاع المستقبل في تصميم وبرمجة الروبوتات    جوجل تضيف علامات مائية خفية للصور للكشف عن التعديلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طوباويات الحداثة ورهاناتها الخائبة
نشر في الحياة يوم 29 - 03 - 2009

اتسمت الحداثة منذ بدايات عصر النهضة الى الآن بالتعاقب الدوري بين الطوبى والخيبة، بين الاندفاع والانكسار، التقدم والتراجع. ينطبق ذلك على السواء على الطوباويات الأنوارية والماركسية والليبرالية في صيغتها الأقرب والأكثر حداثوية. فبعد قرون وسطى مظلمة سادتها رؤية مأساوية للعالم كبَّلت الإنسان بما لا يطاق من الأغلال، وبما لا حصر له من القيود على العقل والفكر والإرادة، صاغ علماء عصر النهضة وفلاسفتها رؤية جديدة انسانية تقدمية للعالم كان من نتائجها الحاسمة الإيمان المطلق بالعقل والعلم والعمل وحقوق الإنسان الطبيعية وحرياته الأساسية التي لا تقبل التفويت أو المساومة، ما أفضى الى فك ارتباط بينه وبين اليقينيات القروسطية المتعالية والمستبدّة التي تحيله الى تابع لا قرار له ولا خيار.
لكن الحروب القومية في اوروبا القرن التاسع عشر واندلاع كومونة باريس 1871 وما أعقبها من خراب في قلب باريس، فضلاً عن القهر الذي أصاب الفقراء، على رغم كل ما تحقق في عالم الاختراع والصناعة والانتاج، أحاط بالشك والريبة طوبى الأنوار في المساواة والحرية الإنسانية والتقدم والعقلانية، حتى ان النهضوي العربي فرنسيس المراش الذي وقف في ستينات القرن التاسع عشر مبهوراً بعقل الغرب وتمدنه وحرياته، ما لبث أن ارتد خائباً مندِّداً بما آلت اليه الحضارة الغربية من تناقض بين الطوبى والواقع. وهو ما جعل أيضاً النهضوي الآخر فرح أنطون يُعرب عن تمنياته أول القرن العشرين بأن يكون ذلك القرن خيراً من سلفه فيحقق لبني البشر ما أخفق القرن التاسع عشر وطوبى الأنوار في تحقيقه.
ازاء هذا الإخفاق الذي عرفته طوبى الأنوار تقدمت طوبى الماركسية مبشرة بعالم آخر جديد يضع حداً نهائياً للصراع الطبقي واللامساواة بين البشر، ليتحول الصراع الى العالم المادي لتطويعه من أجل سعادة الإنسانية أجمع. وقد لقيت هذه الطوبى أصداءً واسعة في فكرنا العربي الحديث.
وبدورها لم تلبث الطوبى الماركسية أن بانت خيبتها وانكسارها المدويان، إذ عوض أن تحقق"ديكتاتورية البروليتاريا"رفاه المجتمع ورخاء الفقراء، تحولت الى"ديكتاتورية على البروليتاريا"لتضيف الى بؤسها التاريخي، بؤساً وقمعاً جديدين. وعوض أن تؤمن الماركسية الحرية للجميع، بوصفها، كما صاغها وأرادها ماركس، فلسفة الحرية الشاملة، والفكر الليبرالي الأكثر تقدماً، غدت هي الأخرى عقيدة دوغمائية متخشبة.
بيد ان انكسار الطوبى الليبرالية وخيبتها يبقيان الأشد دويّاً والأكثر إرباكاً للعقل الإنساني في دأبه التاريخي من أجل حياة أفضل وأقل تناقضاً مع مسلماته وبداهاته ومقتضياته. ففي نهاية الثمانينات من القرن الماضي صدرت أطروحة"نهاية التاريخ"لصاحبها فرنسيس فوكوياما. وليس بالإمكان الإنكار أن ثمة تطوراً فعلياً باتجاه الديموقراطية والاعتراف بحقوق الإنسان قد تحقق في عالمنا. فوفقاً لتقرير التنمية البشرية لعام 2000 كان 33 بلداً فقط قد صدقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1975، وبحلول عام 2000 ارتفع هذا العدل الى 144 بلداً، وهو في اطراد مستمر الى الآن. وكان من التطورات الرئيسة في التسعينات ازدهار المنظمات غير الحكومية وشبكاتها العالمية التي ارتفع عددها من 23600 منظمة عام 1991 الى 44000 عام 1999. إلا أن ذلك لم يحل دون حرمان فئات واسعة في عالمنا من حقوقها الإنسانية، السياسية والاقتصادية والمدنية، التي نصَّت عليها مواثيق حقوق الإنسانية، السياسية والاقتصادية والمدنية، التي نصَّت عليها مواثيق حقوق الإنسان، منذ الإعلان العالمي لهذه الحقوق عام 1948.
لكن على رغم كل التطورات الإيجابية، ان العالم كما يبدو اليوم، يندفع في غير الاتجاه الذي تصوره فوكوياما لنهاية التاريخ مع الطوبى الليبرالية، وتأكيده أن الدولة العالمية الليبرالية لن تعرف تناقضات كبرى، ورغبات الإنسان ستعرف الإشباع الكلي، وأنه لن يكون هناك صراعات حول أسئلة كبرى تهم مستقبل البشرية، كما لن يحدث أي تطوّر نوعي في ما يخص القيم الأساسية المتحكمة في المجتمعات الليبرالية. فعلى الضد من هذه الطوبى المغرقة في التفاؤل، نرى أن عالم بداية القرن الحادي والعشرين يعاني من أزمات جوهرية تتفاقم تدريجاً، تهدده في الصميم وتنذره ب"الهبوط في هاوية التوحش"بتعبير لمراش في استشراف عبقري لأزمة المدنية المعاصرة منذ ستينات القرن التاسع عشر.
فعلى المستوى البيئي ينبِّه تقرير التنمية البشرية لعام 2008 الى أننا قد نكون على شفا كارثة فعلية في غضون السنوات القليلة القادمة، نتيجة التغيرات المناخية التي ستؤدي، إن لم تواجه بجدية، الى انتكاس التقدم الذي تم احرازه عبر الأجيال، والى التشكيك في أحد أهم المبادئ التنويرية، مبدأ أن الإنسان يتقدم بإطراد نحو الأفضل. وعلى المستوى الاقتصادي يبدو عالمنا وكأنه يصارع معضلات مستعصية ومصيرية، لدرجة أن رئيس البنك الدولي وصف سنة 2009 بالنسبة الى الاقتصاد العالمي ب"السنة الشديدة الخطورة"، فثمة مؤسسات مصرفية تُقفل، وثمة أسواق مال تتدهور قد تصل خسائرها الى ألف بليون دولار، وثمة 214 مليون عاطل من العمل في العالم، منهم عشرات الملايين في العالم المتقدّم ? 11 مليوناً في الولايات المتحدة و17 مليون وظيفة في الاتحاد الأوروبي ? وقد أعلنت منظمة العمل الدولية ان نحو 51 مليون وظيفة في شتى أنحاء العالم قد تتلاشى نتيجةً للتباطؤ الاقتصادي. فضلاً عن ذلك تتفاقم الفجوة بين أغنياء العالم وفقرائه، فقد زادت الفجوة بين هؤلاء من 30 الى 1 عام 1960 الى 114 الى 1 مطلع هذا القرن. وفي وقت لا زال فيه أكثر من بليون جائع وأمي في عالمنا تندلع الأصوليات المتشددة الرافضة لكل قيم الحداثة والتنوير، مهدِّدة إياه بإعادته الى القرون الوسطى الظلامية.
رأى اينشتاين عقب اكتشاف الطاقة الذرية أواسط القرن الماضي أننا سنحتاج الى أسلوب جديد وجذري في التفكير، إذا كان المراد للبشرية أن تبقى. ونرى الآن أنه لا بد من التفكير ملياً في ابتداع طوبى جديدة تطرح أمامنا أفقاً خلاصياً آخر غير ذلك الذي راهنت عليه طوباويات الحداثة المخفقة، والتي بدا أنها لم تُخرج الإنسان المعاصر من نفق إلا لتدخله في نفق آخر. وها هي تدعه اليوم مع رهاناتها الخائبة، ازاء مجهول محفوف بشتى أشكال المخاطر.
* كاتب لبناني.
نشر في العدد: 16795 ت.م: 29-03-2009 ص: 14 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.