أثار انتباهي ما ورد في المحاضرة التي ألقاها توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق ومنشئ"مؤسسة توني بلير للعقيدة، في جامعة ييل، حول موضوع"العقيدة والعولمة". وقد نشرت"الشرق الأوسط"ملخصاً وافياً لأهم الأفكار التي وردت في هذه المحاضرة التي تعد فريدة من نوعها، بما اشتملت عليه من آراء جريئة لم يكن صاحبها يعبر عنها خلال وجوده على رأس الحكومة البريطانية. يقول بلير:"إن الاعتقاد الديني له أهميته، سواء شئنا أم أبينا، وتنبع دوافع مليارات من البشر من العقيدة الدينية، ويمكن أن تلعب العقيدة دوراً إيجابياً في مساندة على سبيل المثال الأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة، من أجل الحدّ من الفقر وتحقيق التنمية، وقد بذلت كنائس ومساجد ومؤسسات دينية هندوسية ويهودية، جهوداً رائعة في هذا المجال، ويمكن أن يكون للدين دور سلبي يظهر في الحركات الأصولية أو المتطرفة، ومن أجل العمل بفعالية، تحتاج العولمة إلى ترسيخ قيم مثل الأمانة والثقة والانفتاح والعدل، والاعتقاد الديني ليس هو الوسيلة الوحيدة، ولكنه أهمّ وسيلة لتقديم هذه القيم، إذا كان الدين ذاته منفتحاً وليس منغلقاً، وإذا كان معتمداً على التعاطف ومساعدة الآخرين، وليس على أساس هوية استبعادية، وحتى تزدهر العولمة، نحتاج إلى رأس مال اجتماعي، وهو تبادل الثقة مع بعضنا بعضاً حتى نستطيع أن نثق بالمستقبل، ويعد المصدرُ الروحانيُّ جزءاً مهماً من رأس المال الاجتماعي، ولكن في عصر العولمة والمجتمعات متعددة الأديان، يتطلب إيجاد ذلك المصدر الروحاني، التسامحَ، بل وأيضاً احترام أتباع الديانات الأخرى، ومفتاح الاحترام هو التفاهم، ولذا تظهر الحاجة إلى أن نتعلم وندرس أديان وعادات بعضنا بعضاً، ويجب أن تساند المنظمات الدينية هذه العملية، وتسمح من خلالها بتطور الاعتقاد الديني، ليتمكن من أن يصبح قوة إيجابية وبناءة وتقدمية". هذه الأفكار التي عبر عنها توني بلير في محاضرته، تَتَوافَقُ مع فحوى المبادرة الرائدة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، للحوار بين الأديان من أجل استتباب السلام في العالم. كما تلتقي هذه الأفكار، مع مضمون حوار الثقافات وتحالف الحضارات اللذين يهدفان إلى تعزيز قيم التسامح والتعايش والتفاهم بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات. فتعزيز القيم الدينية السمحة والمتسامحة والعمل على نشرها وإشاعتها وتمكينها في القلوب والعقول، من شأنهما أن يساهما في التخفيف من وطأة الأزمات التي تحل بالإنسانية في هذا العصر، وفي جميع العصور، من جراء هيمنة السياسات التي لا تراعي هذه القيم، وممارسة الاعتداء على كرامة الإنسان والنيل من حقوقه المشروعة وانتهاك القوانين الدولية تحت غطاء العولمة المتوحشة التي تكتسح العالم. ولذلك نقول إن القيم الدينية السمحة والمتسامحة، إذا ما ترك لها المجال مفتوحاً لتنتشر وتسود، في جو من الحرية وتكافؤ الفرص، يكون من شأنها كبح جماح العولمة. وقد عبر توني بلير عن هذا المعنى بقوله :"في كل من السياسة الاقتصادية والسياسة الخارجية، من الواضح أننا لا نستطيع أن نجعل العالم آمناً من أجل الحفاظ على ترابطه، إلاَّ إذا كانت لديننا قيم قوية ترشدنا، ولا يمكن أن نغرس جذوراً للتعايش السلمي، إلاَّ إذا كان لدينا تحالفات قوية، ليس فقط بين الدول، ولكن بين الأديان، من خلال القيم المشتركة بيننا". فالتحالف بين الأديان وهو مصطلح جديد يُحسب لتوني بلير هو عين التحالف بين الحضارات، وهو من صميم الحوار بين أتباع الديانات، لأن التحالف بين الأديان، هو في الحقيقة تحالفٌ بين أتباع الديانات، على أساس أن القصد ليس هو"التقريب"أو"الاندماج"بين دين وآخر، ولكن المقصود هو التقارب والتفاهم والتعايش بين أتباع الأديان، أو بالتعبير القرآني"التعارف". يقول الله تعالى :"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". إنَّ جموح السياسات التي تمارسها القوى العظمى والتي يذهب ضحيتها الآلاف من الضحايا، وانحرافها عن جادة الحق والعدل والفضيلة، يأتيان من القرارات التي تتخذ من دون مراعاة لأي قيمة من القيم الدينية، من أجل تحقيق الأهداف التي تخدم مصالحها، مما يدفع إلى تنامي الصراع بين الدول وبين الشعوب والأمم، ويؤدي إلى اتساع الهوة التي تفصل بين دول العالم، والتي جاء ميثاق الأممالمتحدة في عام 1945، لردمها من خلال التقريب بين الدول المتساوية السيادة، وتحقيقاً للتقارب في العلاقات الدولية على أساس الندية والمساواة في الحقوق والواجبات طبقاً للقانون الدولي الذي لا يفرق بين دولة وأخرى. ولقد استند ميثاق الأممالمتحدة في جل مواده، على القيم الأخلاقية والإنسانية التي هي في أغلبها مستوحاة من القيم الدينية. كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948، يقوم على أساس تلك القيم، ما عدا مادتين اثنتين منه تتعارضان مع القيم الدينية، من وجهة النظر الإسلامية. ولا نملك إلاَّ أن نؤيد السيد توني بلير في قوله:"من أجل هزيمة قوى الاستبعاد والانقسام التي تؤدي إلى الإرهاب الذي تصل أيديه إلى جميع أنحاء العالم، يجب أن نتوجه إلى التعليم باعتباره مكوناً أساساً، وليس جهداً ثانوياً، في السياسة الخارجية، ونحن نحتاج إلى أن نتعلم من الأديان وأساليب الحياة الأخرى". ولكن من أجل أن نكون منطقيين مع أنفسنا، لابد أن نقول في هذا السياق إن القوى الكبرى المهيمنة على مقاليد السياسة الدولية، ليست بريئة من ممارسة الإرهاب، فهي تمارسه فعلاً في المناطق المشتعلة من العالم الإسلامي. كما أن إسرائيل مدعومة من تلك القوى الكبرى، تمارس إرهاب الدولة على مرأى ومسمع من العالم كلّه، متحدّية الشرعية الدولية، ومتجاهلة قرارات مجلس الأمن وفتوى محكمة العدل الدولية بخصوص الجدار العنصري. إنَّ الانطلاق من تطوير المنظومة التعليمية يرمي إلى نشر قيم العدل والسلام والتعايش بين الشعوب، لا إلى السكوت عن الجرائم ضدّ الإنسانية التي ترتكبها الدولة التي تصول وتجول في الساحة العالمية وتفرض هيمنتها على الدول، خصوصاً النامية منها، تحقيقاً لأهداف هي أيضاً ليست بريئة. يقول الدكتور أحمد فتحي سرور، في دراسة له حديثة،"إنَّ أساس الثقافة القائمة على القيم الدينية ترتكز على الإنسان، والحياة الإنسانية هي نقطة البدء في جميع الأديان السماوية: الإسلام والمسيحية واليهودية، وترتكز ثقافتنا في جوهرها على القيم الإسلامية، وقد أعطت الإنسان حقّ قدره". فالقيم الدينية إذن هي العنصر الأساس في حياة الإنسان، وهي جوهر الخصوصيات الثقافية والحضارية. وتعبّر الخصوصيات الثقافية والحضارية عن القيم الدينية. وممّا ينبغي الإشارة إليه هنا أن إعلان وبرنامج العمل الذي أقرّه المؤتمر الثاني للأمم المتحدة لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا عام 1993، قد أكد بوضوح مبدأ ضرورة احترام الخصوصيات الثقافية والدينية للشعوب مع التأكيد في الوقت ذاته أن هذه الخصوصيات لا تخلّ أو بالأحرى لا ينبغي أن تخلّ بعالمية حقوق الإنسان. كما أن قرارات وتوصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجنة حقوق الإنسان ثم مجلس حقوق الإنسان في جني÷، تبدو كلّها قد حسمت وجوب احترام الخصوصيات الدينية للشعوب لدى تناول موضوعات حقوق الإنسان. كما ذكَّر بذلك الدكتور سرور. وعلى هذا الأساس، فإنَّ القيم الدينية هي المعيار الذي ينبغي الاِستناد إليه في صياغة القوانين الدولية، لأنها قيم عالمية بحقّ. ولذلك فإنَّ العقيدة الدينية تقوم بدور عظيم الشأن بالغ الأهمية في ترشيد الحياة الإنسانية، وفي نشر القيم المثلى والمبادئ السامية التي تحرّك الإنسانية نحو تحقيق الأمن والسلام، وردع قوى الشرّ والعدوان والطغيان. وفي الجملة فإنَّ الأفكار التي طرحها توني بلير في محاضرته، تستحق التوقف عندها للمزيد من التأمل. ويبدو أن القادة الغربيين يصبحون أكثر حكمة وأقرب إلى الصواب، بعد مغادرة كراسي الحكم ومواقع صنع القرار. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو.