لم يكن الصبي المغولي تيموجين يتخيل أن اسمه سيظل محفوراً في تاريخ الإنسانية بعد وفاته بمئات السنين، ولم يكن يعرف ان اسمه هذا تيموجين سيختفي عن الأذهان تماماً، لصالح اللقب الذي سيُعرف به في النصف الثاني من حياته. ولد تيموجين بن يسوكاي، الملقب في ما بعد بجنكيز خان، لأبٍ مغولي من زعماء القبائل، وأم مغولية قوية اسمها يولون عام 1155 ميلادي 549 هجري. ولم يكن تيموجين هو الاسم الذي اختارته له أمه، إذ ان أباه يسوكاي اختار له هذا الإسم، وكانت لهذا الاختيار قصةٌ ملخصها ما يلي: عاشت القبائل المغولية التترية حياة رعي واقتتال وتناحر، فكانت حياتها تشبه حياة عرب الجزيرة قبل ظهور الإسلام. وكان يسوكاي زعيماً محلياً لإحدى القبائل المغولية المتصارعة، ولديه طفلٌ واحد من زوجته يولون اسمه قسار، وأطفال آخرون من زوجاته الأخريات، منهم ابنه المسمى بكتار الذي سنذكره بعد قليل. خرج الأب، يسوكاي، لحرب قبيلةٍ تترية مغولية أخرى، وكانت زوجته يولون حاملاً... ولما عاد الأب وجد امرأته قد وضعت طفلاً ذكراً، وليس الذكر كالأنثى عند المغول. فالذكرُ كان عند القبائل المغولية، أهم وأعلى وأدعى الى فرح الأب وسعادته، لأنها كانت قبائل عنفٍ وقتال، والعنف حين يهيمن على ثقافة انسانية، فلا بد لهذه الثقافة من أن تحتفي بالذكورة وتضطرب تجاه الأنوثة... المهم، فرح الأب بالوليد، وسماه تيموجين لغايةٍ في نفسه، كانت الأم تدركها، كما سيأتي بيانه. وعندما صار تيموجين في التاسعة من عمره، ذهب مع أبيه في رحلة لزيارة بعض أقاربه المنتشرين في سهول منغوليا الواقعة بقلب آسيا، شمال الصين، وفي طريقهم مروا على قبيلةٍ مغولية من جماعة القنقرات فأُعجب زعيم هذه القبيلة بالصبي تيموجين، واتفق مع أبيه على المصاهرة، بتزويج الصبي لابنته بورته التي كانت في حدود العاشرة من عمرها، ومع أن الفتاة كانت أكبر سناً بقليل من تيموجين، إلا أنه أحبها بشدة أثناء تلك الزيارة، وراح يحلم باليوم الذي سيتزوجها فيه، بعد عامٍ أو عامين. وكانت الأيامُ تخبئ للصبي فواجع كثيرة، فبعدما ارتحلا تيموجين وأبوه يسوكاي من مضارب قبيلة الصبية المحبوبة، على وعدٍ بإتمام الزواج بعد حين... مات الأب فجأة! والمؤرخون يقولون ان أعداءه من التتار دسوا له السمَّ في الدسم، فمات الأب وابنه صبي في التاسعة وقيل: بل كان في الثالثة عشرة وأخوه الأكبر في حدود الحادية عشرة، والأم المسكينة في حال بؤس شديد، لأنها تعلم قسوة الأحوال عند موت الآباء في هذه الثقافات الذكورية، والجماعات القتالية العنيفة. وتحققت هواجس الأم، حين بدأت الغارات تُشن عليهم من القبائل الأخرى، فرحلت مع بقية زوجات زوجها الميت وأطفاله منهن، وتقوقعوا جميعاً عند ناحية بعيدة على ضفاف نهر أونون... وفي يوم حزين، تعارك الأخوة الأشقاء وغير الأشقاء، فانقض تيموجين وأخوه قسار، على أخيهما غير الشقيق بكتار فنهشاه نهشاً حتى مات. وانفجرت الأم في ولديها غاضبةً، وفي غمرة غضبها أخبرت ابنها تيموجين بالسبب الذي من أجله سُمي بهذا الإسم، حين قالت: أيها القتلة، أنتم كالذئاب التي تنقض على فريستها في غمرة العاصفة، وكالنمور والأسود، وأنت يا تيموجين حينما وُلدت كنت تقبض على قطعة دم متجمدة، ولذلك اختار لك أبوك اسم الزعيم تيموجين الذي سفك أبوك دمه في اليوم الذي ولدتُك فيه... كان الأب يتفاءل بذلك ويظنه سيطيل عمر الوليد، وكانت الأم قلقة من هذا الاسم الدموي المرتبط بواقعة قتل! فلما قتل تيموجين أخاه غير الشقيق، عرفت الأم ان لابنها نصيباً من دموية اسمه. ويحكي لنا د. السيد العريني في كتابه المغول وكون إيجلدن في روايته ذئب السهول أن الأم هربت بأبنائها الى الجبل الحصين كنتاي الذي كانت القبائل المغولية تقدسه، فشب تيموجين معتقداً بأنه محمي من الجبل المقدس الذي لجأوا اليه، حين كان في العاشرة من عمره... إلا أن قداسة هذا الجبل لم تمنع القبائل من الإغارة على هذه الجماعة الضعيفة، وسلبها ما كانت تملكه من متاعٍ فقير. غير أن الفتى اليافع تيموجين، كان يُظهر لأعدائه شجاعةً فائقة، ما جعله حين قارب البلوغ معروفاً عند أهل النواحي القريبة بالقوة والبأس الشديد، فمالت اليه قلوب بعض المغول وصار مؤهلاً عندهم للزعامة، على رغم صغر سنه. أما هو فكان يفكر في الفتاة التي خُطبت له قبل سنوات، ولم تحن الفرصة لإتمام الأمر بسبب موت أبيه المفاجئ. ولما استقرت أمور تيموجين، وكفَّ عنه ? الى حين ? الطامعون والموتورون من الجماعات المغولية المحيطة، أسرع الفتى الى مضارب محبوبته بورته فأتم الزواج بها، وهنأ بذلك حيناً من الدهر... وبعد بطولات عدة أظهرها في قتال القبائل، شاعت نبوؤةٌ تقول ان زعامة المغول ستؤول الى تيموجين، وكان هو أول المؤمنين بهذه النبوءة، فلم يدخر جهداً لتحقيقها. انتصر تيموجين على عدد من القبائل، وصار زمامها بيده. وأقام صلات طيبة مع زعماء المغول الآخرين، فانتخبوه ملكاً على سائر القبائل، وجعلوا لقبه جنكيز خان أي إمبراطور العالم... غير أن المؤرخ الفارسي الشهير، رشيد الدين، يشرح هذا اللقب وفقاً لألفاظه المشتقة من الكلمات الصينية المغولية القديمة، مؤكداً أن معناه الحرفي، هو الخان الملك القوي. لكن الظاهر من الأمور، أن جنكيز خان فهم من لقبه الجديد، المعنى المشهور إمبراطور العالم فسعى لامتلاك العالم في قبضته الحديدية. وامتلاك العالم، بالطبع، هدف بعيد المنال لا بد لتحقيقه من إراقة دماءٍ غزيرة، وارتكاب فظائع تليق بالشخص الطامح الى امتلاك العالم... وهو ما جرى بالفعل، كما سيأتي بيانه. استجمع جنكيز خان قواته، عام 1188 ميلادي بجيش قوامه مئة وثلاثون ألف مقاتل، على جموع التايجوت وهم من القبائل المغولية المناوئة له، فأنزل بهم هزيمةً ساحقة، وبالغ في قتل الأسرى لإشاعة الرعب في نفوس القبائل المغولية التي لا تدين به بالطاعة والولاء، فانصاع بعضهم وتمسك البعض بالمناوءة وتجمعوا لحربه، فغلبوه في الكرة الأولى بعدما تحالفوا تحت قيادة جاموكا كورخانا ولما انهزم أمامهم جنكيز خان، انفض من حوله الأتباع والمستشارون، عدا جماعة من المخلصين له كان من بينهم ثلاثةٌ من المغول المسلمين: حسن ودانشمند الحاجب وجعفر خوجه... وكان الأخير منهم نسيباً لجنكيز خان، إذ كان أخاً لزوجته. ولا بد لنا هنا من وقفة مهمة، حول ارتباطنا نحن بهذه الأحداث الكبرى، التي قد تبدو بعيدة عنا. إذ الصلة قائمة، حتى من قبل خروج المغول التتار لتدمير بلاد المسلمين، إذ ان الصلات أسبق زمناً من هذا، وتعود الى أيام النشأة الأولى لجنكيز خان تيموجين بل ومن قبل ذلك بزمنٍ طويل. وعلى ذكر الصلات القديمة بين ثقافتنا والثقافة المغولية، فلعل من المدهش أن نعرف أن هذه القبائل التترية المغولية والتركية، كان بعضها يؤمن بالمسيحية النسطورية نسبة الى الأسقف الشهير: نسطور وبالمانوية، وكان بعضها يؤمن بالإسلام، أيضاً، من قبل ذلك بقرونٍ من الزمان. وقد أشار لذلك الباحث الإيراني الكبير عباس إقبال في كتابه تاريخ المغول حين قال: كان شعب الإيغور المغولي يدين بالمسيحية والبوذية والمانوية، وكان أول قوم يعتنقون الإسلام من بين شعوب الترك في شرق سمرقند، هم طائفة القرلق التي ساعدت الإيغور على فتح منغوليا الشمالية، وأنزلت بإمبراطور الصين هزيمة نكراء عام 134 هجري، واستولت على ولايات كثيرة، وأقامت دولة، ودخلت الإسلام في القرن الثالث الهجري. وحرصتُ على نقل هذه الفقرة السابقة، لبيان أن الأديان كانت متداخلة في قلب آسيا في ذاك الزمان، وأن العنف المروع الذي سنراه في هذه المقالة، وما بعدها، لم يكن يرتبط بالضرورة بواحد من هذه الأديان الكثيرة المتجاورة... المهم الآن، أن هناك شواهد تاريخية عدة، تؤكد أن التجار المسلمين كانوا يختلطون بالقبائل المغولية، بكثافة، قبل جنكيز خان بعشرات السنين، وكانت لهم تعاملات وعلاقات وثيقة بالجماعات المغولية التي نظرت نحوهم بتقدير خاص، لأن هؤلاء التجار المسلمين كانوا متحضرين، وكانوا أهل علم ودين ومشورة، وكانت لهم الى جهة المغرب من ارض المغول، مملكة عامرة راسخة البنيان، هي المملكة الخوارزمية التي كانت تعدُّ واحدة من القوى الدولية الكبرى في العالم آنذاك... وكانت هناك قوة دولية كبرى، أيضاً، لا يستهان بها في ذاك الزمان القديم، كما لا يُستهان بها في زماننا الحالي، هي الصين ذات السور العظيم الذي كان يحميها من هجمات قبائل المغول. نعود الى جنكيز خان الذي عاد الى قلب الأحداث الدولية آنذاك حين استطاع القضاء على منافسيه، وظفر بعدوه اللدود جاموكا فقتله قتلةً شنعاء ومثَّل بجثته، وبقي أمامه من بعد ذلك، فرض سلطانه على قبائل النايمان المغولية، القوية، ذات الديانة المسيحية النسطورية. وهو الأمر الذي تحقق لجنكيز خان، حين انتصر عليه في حرب ضروس جرت بينهم عام 1204 ميلادي، استطاع بعدها جنكيز خان أن يغزو الشطر الغربي من منغوليا، ويضم كافة القبائل المغولية تحت لوائه. وهكذا صار جنكيز خان ملكاً عظيماً، وتزوج بإبنة امبراطور الصين، وأصدر قانوناً شريعة للمغول عُرف باسم الياسا أو اليسق طُبق بصرامة. ثم جمع تحت قيادته جيشاً هائلاً، استطاع به أن يدك سور الصين العظيم، فاستسلمت الصين له وأسلمته العاصمة بكين بعد حصارٍ طويل، عام 1215 ميلادي... وبهذا كاد جنكيز خان يصير بالفعل، حسبما يدل على ذلك لقبه: إمبراطور العالم. واستقر الفاتح المغولي العظيم، بعد عشرات السنين التي قضاها في قتالٍ ونزالٍ ومؤامرات وأهوال، في عاصمة ملكه الواسع بكين الذي يشمل منغوليا ومعظم أنحاء الصين... كان السن قد تقدم به، ولم يكن يعلم أن الزمان لا يزال يخبئ له ويلاتٍ جساماً، واصطداماتٍ مروعة مع ذلك الرجل المسلم، صاحب اللقب الذي سنتوقف عنده لاحقاً: خوارزمشاه... أما الآن، فلنختتم كلامنا عن جنكيز خان، بذكر السطور الأولى من ترجمته التي أوردها لنا الذهبي، المؤرخ الإسلامي الشهير، في كتابه سير أعلام النبلاء حيث قال: جنكيز خان، ملك التتار وسلطانهم الأول الذي خرب البلاد وأفنى العباد، واستولى على الممالك، وليس للتتار ذكرٌ قبله، وانما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين، فقدموه عليهم، فهزم قبائل الخطا، واستولى على ممالكهم، ثم على تترستان وإقليم ما وراء النهر، ثم إقليم خراسان وبلاد الجبل، وغير ذلك، وأذعنت بطاعته جميع التتار وأطاعوه في كل شيء، ولم يتقيد بدين الإسلام ولا بغيره، وقتلُ المسلم أهون عنده من قتل البرغوث، وله شجاعة مفرطة وعقل وافر ودهاء ومكر. نشر في العدد: 16759 ت.م: 21-02-2009 ص: 25 ط: الرياض