انسحاب يخرج من باب السرايا ومعه ثلاثة جنود، يتجه نحو درب الآلام. والمدينة تستيقظ على المجهول. زوجته الأخيرة التي اصطفاها لنفسه منذ ثلاثة أعوام، تخرج من باب السرايا ومعها خادمتها التي تحمل صرة الثياب. يفكر في آخر رسالة وصلته من الباب العالي في اسطنبول: لا تتركوا المدينة تسقط في أيدي الأغراب! وهو يعرف أن التعليمات التي تأتي من بعيد لا تتطابق بالضرورة مع واقع الحال. والزوجة تقترب من حمام المدينة كعادتها كل صباح، تجده مغلقاً بإحكام. تعود إلى السرايا والحاكم يعود من مشواره اليومي. تدنو منه، تتلمس رقبته وجبينه وخديه. يتأمل قوامها الذي يتأود مثل غصن البان. قال لها لكي يختبر رغباتها هي أصغر منه بعشرين عاماً وهو يعتقد أنها امرأة لعوب: سترحلين قبلي إلى اسطنبول. قالت: لن أتركك هنا وحدك. قال: سترحلين. قالت: بل سأبقى معك. راقته كلماتها، لأنه لا يحتمل البقاء وحيداً في مدينة على وشك السقوط. انسحب الجيش المغلوب، ولم تفارقه لحظة واحدة حتى منتصف الطريق. وكان يمكنها أن تكمل الطريق معه، لولا أنه فرّ ذات ليلة إلى مكان مجهول. أرملة تتنفس الصعداء، إذ تفرغ من تقديم الخدمات لزبائنها الجائلين في الأسواق. زبائن لهم متطلبات كثيرة، وهي لا تستطيع تلبيتها كلها لأسباب خارجة عن إرادتها. فثمة غرباء يتولون أمور المدينة. والقدس حزينة، تجد نفسها في المساء خالية من الخلق. أسواقها مملوءة بالقمامة وأكياس النايلون المتراكمة هنا وهناك. وهي مثل أم لها سبعة أولاد. تسارع - بعد إطعامهم وإرسالهم إلى النوم مع القبلات - إلى الحمام بجسد متعرق مهموم. تنضو عنها ملابسها، وتغتسل، ثم تخرج من الحمام وهي تلتف برداء من قطن. تستلقي في السرير مثل أم لها...، يستبد بها إحساس مرير بأنها متروكة وحدها مثل أرملة لا أهل لها ولا أحباب. معطف جاءت المرأة بالخبر وهي تعود من زيارة لأبيها وأمها، والمطر كان يهطل على شكل رذاذ، وهي تمشي على مهل، لئلا تنزلق قدمها فتسقط في الوحل. قالت: رأيته عند طرف الوادي وهو يفرش على الأرض معطفه. ربما أحس بالضجر. ربما أرقه فراق الأهل. ربما ملّ الكتيبة وصحبة زملائه الجنود. اختلق سبباً ما، وغادر الكتيبة المكلفة حماية ما تبقى من المدينة، بعد أن أصبح نصفها الغربي مفصولاً عن نصفها الشرقي. قالت: رأيتها وهي تستلقي على المعطف. واعدها بعد مرور خاطف مرتين أو ثلاثاً بالقرب من البيت الذي تقيم فيه مع أمها وأخيها وأختها. مضت نحو الوادي ولم يكن ثمة مطر. جاء إلى موعده معها، وجاء معه المطر، فلم يخفف ذلك من حرارة اللقاء. وهو لم يلتفت نحو الطريق، ولم يستشعر أي خطر، لأنه ليس في جبهة الحرب الآن، والمرأة التي عادت من زيارة لأبيها وأمها، أمعنت في سرد التفاصيل، ونسوة الحي استبد بهن الفضول. واعترت بعضهن أحاسيس خارجة عن مسارها المألوف. والمدينة كانت تتهيأ لليل محفوف بالأسى، وهو عاد إلى الكتيبة بمعطف مبلول. ولد وبنت المدينة مشغولة بنفسها والولد يخاف. تلهّى بمنظر البنت وهي تتملص من يد أمها في السوق. والأم تغذ الخطى خلفها وتقبض عليها، والبنت تضحك من غير اكتراث. والولد يتخفف قليلاً مما يشعر به من خوف، ثم يغفو في حانوت عمه في انتظار أبيه. والبنت تأتيه. تجلس بالقرب منه وتضع يدها على شعره في حنان، ينحسر فستانها عن ركبتيها. يمد يده إلى الفستان ويشده إلى أسفل بلا سبب معقول، والبنت تقبض على يده وتقول: تعال. ينهض ويتبعها. تركض ويركض خلفها وإلى جوارها، ولا يعودان من جولتهما إلا قبيل المساء. الولد يفتح عينيه. يرى أناساً كثيرين لا يعرفهم. والمدينة مشغولة بنفسها، والولد يكبر بضعة أعوام. يتمنى لو أنه يرى البنت مثلما رآها في المنام. لو أنها تأتيه بتلك البراءة في ذلك الفستان.