تتجمل العاصمة الصينيةبكين، ترتدي ثوباً قشيباً من الأشجار والزهور، "تنتسب" الى حزب الخضر البيئي، بصفة عضو متدرّج نحو مراكز القرار، تفتح ذراعيها للألعاب الأولمبية الصيفية المقررة في ربوعها بدءاً من 8 آب أغسطس المقبل. تحتفي مزهوة بتاريخها العريق وحاضرها المشرق ومستقبلها الواعد. تدب الحركة في أوصال بكين بإيقاع غير معهود في "ربوع الشرق". هذا ما لمسناه خلال جولتنا "الخاطفة" في بعض شوارعها وساحاتها ومعالمها. ما جعلنا نقارن ما قرأنا عنه وأطلعنا على صوره بمشاهد على الطبيعة، تركت أثراً وانطباعات وربما مقارنات. لكن، لا بدّ من وضع التاريخ جانباً والاستمتاع بالجولة، والتفرّس ملياً في وجوه كثر جاؤوا من الأقاليم الصينية، للسياحة في عاصمتهم، تتملكهم دهشة اللقاء الأول... والنظرة الأولى. بكين هي المركز في كل شيء، قصور وساحات أسوار ملفتة، ومبنى عملاق لمطار جديد على شكل تنين، يوحي للقادم أن كل شيء كبير في هذا البلد المترامي الأطراف، مناظر مبهرة وأخرى تثير الفضول وتولّد حب الاكتشاف والاستعلام، ألوان مزركشة ومنمنمات دقيقة وتناقضات بين القديم والحديث، لعلها لسان حال غالبية مدن العالم. والجولة في بكين لا تقتصر فقط على معالم أثرية - سياحية، وأماكن طبقت شهرتها الآفاق. المدينة "المتمددة" تبدي ارتياحاً تجاه التحول من النسق المعماري المميز للحقبة الشيوعية الحديثة الى التوجه العمراني الجديد، لكن لا ينبغي اعتبار ذلك أمراً مثيراً للدهشة في مدينة شهدت تحولاً ثورياً أكبر من أي حاضرة أخرى في التاريخ الحديث. هكذا تبدي العاصمة الصينية رغبة نحو التصاميم الجديدة المتمثلة بالمباني الكبرى، أكثر من أي مدينة أخرى في البلاد بخلاف شنغهاي. فمثلاً، أنجزت شركة "سوهو" أربعة مشاريع من الأعمال المعمارية الدولية الحديثة، ومنها مبنى "البيضة" الخاص بالمسرح الوطني الكبير الذي صممه الفرنسي بول أندرو، والأستاد الأولمبي "عش الطيور" الذي وضعت تصاميمه شركة هرزوغ السويسرية، ومبنى مقر رئاسة التلفزيون المركزي تصميم ريم كولهاس. وكشفت وكالة "زينهويا" العقارية ان خطة التطوير شملت 17 قطاعاً رئيساً. واستصلح 90 مليون متر مربع، لتصبح مساحة بكين 120 مليون متر مربع. الوجه الشاب للعاصمة يقود مثلاً الى شارع وانغ فويننغ أو ساحة الثقافة في كزيدان. بعد جولة صباحية وقبل شمس الظهيرة المتوقدة، من المفيد ارتياد مطعم "ياونكون" في قلب حي الأعمال شاويانغ، المتخصص في تقديم طبق البطّ وفق أساليب الطهي ومدارسها في سيشوان "المنكوبة حالياً بالزلزال" وشاوندونغ وكوانغ دونغ وهوايينغ، وطبخ عريق يعود تاريخه الى عام 1864. وبعد الوجبة الشهية والراحة قليلاً، يصبح التزود بغذاء فكري - فني واكتشاف التاريخ غنى في حدّ ذاته، لا تعوّضه رؤية المباني الشاهقة بواجهاتها الزجاجية البراقة. انها دعوة مغرية للتنزه في الحدائق ومنها حديقة القصر الصيفي الرابض على ضفاف بحيرة كونمنغ الهانئة أول حديقة في الصين، ويعود تاريخها الى عام 1153، فتنعم بأحلام المساء ومعاينة فن العمارة القديم. مكان فريد أدرج على لائحة الأونيسكو للأبنية التراثية، قصر بناه الإمبراطور كيانلونغ كمركز لإقامة والدته. عاصمة السلالات الحاكمة عمر بكين أكثر من 3 آلاف سنة، وكانت على مدى 800 عام عاصمة أكثر من سلالة حاكمة. وحي القصور ومنها القصر الملكي حيث المدينة المحرّمة الأكبر في العالم، "ترقد" خلف جدرانها حكايات 24 إمبراطوراً من أسرتي مينغ وتشينغ، حكموا على مدى 570 عاماً... وما ان تطأ قدماك الساحة الداخلية حتى تتذكر تفاصيل من الفيلم الساحر "الإمبراطور الأخير" للمخرج برناردو برتولوتشي بطولة جون لوني ويوان تشن وبيتر أوتول.... وحوّل المكان 720 ألف متر مربع و8707 قاعة الى متحف تعرض فيه نحو مليون قطعة فنية وأثرية. وفي الطرف المقابل، ساحة تيان ان من الشهيرة، الأكبر في العالم، حيث يمكنك رؤية المنصة التي أعلن منها ماوتسي تونغ قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ومبنيي متحف تاريخ الصين ومتحف تاريخ الثورة. ومن الروائع "معبد السماء" حيث كان يكرّم الإمبراطور الملقب ب "ابن السماء"، لأنه كان يمثل بحسب المعتقدات الصينية القديمة الصلة بين السلطتين السماوية والأرضية. "زونغ غوو" هو اسم الصين باللغة الصينية ويعني الدولة الوسطى. وتشترك حالياً في حدودها مع 14 دولة. والسور العظيم "من معبر جيونغ الى حائط بالادنغ" 60 كلم جنوب غربي بكين، هو أحد أروع المعالم ومدرج على لائحة عجائب الدنيا. بُني لحماية الصين من غزوات الشعوب القادمة من الشمال، ويبلغ طوله 6700 كيلومتر، ويقصد مواقعه المفتوحة أمام الزوار 85 ألف شخص يومياً، في الفترة بين أيار مايو وأيلول سبتمبر. ودخل كتاب "غينيس" للأرقام القياسية نسبة الى عدد الزوار الذين قصدوا معالمه على مدى فصول السنة المتلونة بالزهور والثلوج وروائح الأشجار الحرجية. بعدما وحّد الإمبراطور شي هوانغ جي سلالة كين أقاليم الصين عام 221 قبل الميلاد، عمل على وصل أقسام السور الدفاعي الذي بناه أمراء كين ويان وزهاو... وأصبح السور على ما هو عليه في أعقاب الأعمال التي أنجزتها سلالة مينغ 1368 - 1644، وبات يتلوى كأفعى على قمة الجبال مبرزاً عظمة البلد المترامي الأطراف، مستحقاً اسمه وصفته. وتعرّفك أزقة هو تونغ على ثقافة الصين عن كثب، انها زيارة مفيدة سيراً أو بواسطة العربات الصغيرة "توك توك"، لكن عليك، مفاصلة سائقيها. كما تستقبلك حالياً في شارع كيان، القريب من ساحة تيان ان من، تسعة مشاريع للإرث الثقافي، تعيد الى منازل ومحلات بنيت ما بين 1920 و1930 رونقها الحقيقي، فضلاً عن 41 مطعماً ومخزناً قديماً. وتشمل الورشة أيضاً ترميم "الممر الإمبراطوري" الذي يعود الى 570 عاماً خلت. عام النجاح انه عام "الفأر" وفق التقويم الصيني، وتقول الأسطورة ان بوذا عندما شعر باقتراب ساعته، دعا كل أصناف الحيوانات الى زيارته، لكن لم يلبِ الدعوة سوى 12 حيواناً هي: الثور، الفأر، الأرنب، الماعز، القرد، الكلب، الخنزير، الحصان، الديك، التنين، النمر والثعبان. عندها، كرم بوذا هذه الحيوانات بأن تسمى كل مرحلة من الزمن باسم حيوان منها. عام 2008 أو السنة الأولمبية هو عام الفأر، عام رجال الأعمال والنجاح. وهذا ما تأمله الصينوبكين تحديداً حيث تصادف شباناً وشابات ودودين ومرحبين بالآخر. وحيث بات التواصل باللغة الإنكليزية متاحاً في صورة أكبر. واللافت، أن كثراً من الجيل الجديد اتخذوا أسماء إنكليزية، تسهيلاً للتقارب والتفاهم، فمثلاً تعرّف لي جين الطالبة الجامعية عن نفسها باسم ليز، وهاوورد ليس سوى الاسم الثاني لغونغ لي الموظف في قسم الترويج في إحدى شركات العلاقات العامة. طقوس العولمة "تغزو" بكين والمدن الصينية الأخرى بهدوء، والتغيير مرحّب به بجرعات "لا تؤذي". انه طموح باحتلال الريادة قريباً و "من دون عقد"، كما يقول هاوورد وتوافقه ليز وفق ما كشفاه لنا خلال عشاء جمعنا في أحد مطاعم منطقة تيخاو السياحية. وقد اختلطت الأطباق الصينية بالعالمية على غرار معالم البارك العالمي في "الضفة الأخرى"، التي تبرز أجمل صروح الدنيا وأشهرها وقد وزعت بعناية وسط متنزهات وسواقي ومجاري مياه.