من منطلق استحساني الدائم لكل ما يتعلق بالتطوير والحداثة في جميع الوجوه وقناعتي الراسخة بأن مستوى الحياة المدنية التي نعيشها اليوم هي حصيلة طبيعية للتطورات التي بدأت قبلنا والتي أوصلتنا الى ما نحن عليه الآن، أحيي الحكومة التركيبة لسماحها لعلماء الدين ومشايخ الأتراك الأكاديميين ببدء مشروع تنقيح وإزالة الشوائب التي أُلصقت بالحديث النبوي الشريف واعادة تنقيته وتفسيره بعقلية ومنظور مختلفين كما جاء في موقع محطة البي بي سي. وتقول محطة بي بي سي أيضاً التي عنونت الموضوع"تركيا لإعادة نظر جذرية في النصوص الإسلامية"أن المقصد الحقيقي من وراء هذا السعي ليس فقط رغبتها التقارب في المقاييس الأوروبية لتسهيل دخول تركيا الى السوق الأوروبية المشتركة، بل أيضاً أخذ سبق الريادة في تحديث الإسلام. وقد اعتبرت المحطة على لسان القائمين عليها بأن هذه هي خطوة جريئة في الرجوع الى منابع الدين الأصلي وفضائله وأخلاقياته الصافية الخ. وحيث ان الأعمال بالنيات اذاً يمكن قراءة المبادرة المذكورة أعلاه بأنها ليست إلا عملاً وسعياً مشكوراً. والمتابع للشأن التركي لا تغيب عنه ملاحظة سعي الدولة التركية أيضاً للارتقاء وازدهار البلد وشعبه في شتى مجالات الحياة وفي الشأن العام من الأمور السياسية والعلاقات الدولية وتطوير الاقتصاد وحقوق الإنسان نسبياً وحقوق المرأة الديموقراطية ومستوى المعيشة للفرد التركي الى آخره مما يرفع من شأن الأتراك داخلياً وفي المحافل الدولية. لكن نفس المتابع الذي يرى جميع هذه التطورات في تركيا يرى أيضاً وباستغراب، وهذا ما يعنينا اليوم، عدم نضوج الأخلاقية الحضارية التي يجب أن يتمتع بها أي شعب يريد أن يصل الى مصاف الدول المتمدنة العصرية التي من أهم مقوماتها ومتطلباتها أيضاً سداد الديون المترتبة عليها أولاً وإبراء الذمة واعطاء كل ذي حق حقه دون مواربة أو انكار. وطبعاً الديون المقصودة هنا ليست التزامات مالية أو اقتصادية بالمعنى المجرد بل واجبات ومستحقات ناجمة عن تراكمات أفعال أسلافه القدامى حيال كثير من الشعوب والقوميات في المنطقة عبر حروب ومآسٍ منها المذابح الأرمنية أثناء الحرب العالمية الأولى وبالتحديد سنة 1915 على الحدود الشرقية للإمبراطورية العثمانية. وقد راح ضحية تلك الأعمال 1.5 مليون أرمني ومثلهم تشردوا حول العالم، وهذا بالإضافة الى الاستيلاء على أراضي أجدادهم وعلى ممتلكاتهم والقضاء على حضارتهم الممتدة ثلاثة آلاف سنة، وأبرزها احتلالهم وسلبهم جبل آرارات في غرب أرمينيا، وهو جبل الأرمن المقدس الذي يقف مع بقية الكنوز القومية سجيناً حزيناً شامخاً مهيباً من الطرف الآخر للحدود يدعو العالم وكل ضمير حي لمساعدته على فك قيده والإفراج عنه من نير المحتل الغاصب واعادته الى حضن الشعب الذي يحبه ويجله. وآرارات معروف الانتماء منذ أن حطت عليه سفينة سيدنا نوح عليه السلام وهي حكاية معروفة للجميع ومسجلة في أكثر من مرجع تاريخي ولا داعي للدخول الى تفاصيلها أكثر من ذلك. فهذه المقالة ترغب في الدعوة الى ضرورة تنقية المعتقدات والموروثات والسوابق التاريخية ودمجها بالخطط المستقبلية معاً ضمن حزمة واحدة، أي تناغم الماضي مع المستقبل. ومن أهم شروط ذلك حل القضية الأرمنية واعادة حقوق الارمن كاملة عبر حاضر نزيه ومستقيم. هذا بالإضافة الى انه لا يجوز الوصول الى نمذجة كيان ضداً على تاريخه وقياس الحقائق بمكيالين أو أكثر بحسب هواه: فهو مثلاً من طرف يؤيد حق تقرير المصير لأتراك قبرص ويتدخل عسكرياً لحمايتهم كما يدعي ويقسم البلد الى نصفين، ويمتنع من طرف آخر عن الاعتراف باستقلال اقليم ناغورنو غاراباغ وحقه في تقرير المصير في محيط غير متجانس على الحدود الأذربيجانية ويطبق حصار اقتصادي وسياسي ومعيشي جائر على حدوده وعلى الحدود الدولية لأرمينيا المجاورة له عملاً بمبدأ صديق عدوك عدوك، في حين يؤيد استقلال كوسوفو بحجة أحقيته في تقرير المصير في محيط صربي غير متجانس. إذاً كيف ستستطيع تركيا دخول المجتمع العالمي المتمدن إن لم تستو بيقينها قناعة بأن الاعتراف بالخطأ فضيلة واعادة الحق لأصحابه واجب وفاء؟ ماذا ينفع الإنسان بأن يدعي التقوى والورع ولا ينظف دفتره القديم من الشوائب العالقة بسطوره التي يقرأها كل العالم ولا يراها هو. ماذا ينفع الإنسان اذا امتلك أقوى البصر وافتقد البصيرة. الأتراك يعولون على مبدأ الاعتقاد بأن الزمن كفيل بنسيان القضية الأرمنية ويستغلون المصالح الدولية الآنية وحرب العراق والظروف السياسية في الشرق الأوسط لصالحهم معتمدين على الموقع الاستراتيجي الذي هم عليه، ولكن هيهات أن تظل الظروف الدولية هكذا! * كاتب أرمني