ما كتب محمد نور الدين، في "تركيا الصيغة والدور" رياض الريس للكتب والنشر في بيروت، يشكل تعريفاً ضرورياً، يضيء واقع "الجوار العربي"... وإضاءة كهذه، باتت ملحة، بعد التغيرات العاصفة التي شهدها مسرح السياسة العالمي، وسبحت في بحر إرهاصاتها، ولا تزال الشعوب العربية. يختار الكاتب مدخلاً ناظماً لكتابه، وصول"حزب العدالة والتنمية"إلى السلطة في تركيا، ويطل من منبر فوز هذا الحزب، على السياق التاريخي العام للحركة الإسلامية التركية، وعلى محطات ومراحل تشكل"هوية المجتمع"، وعلى خيار العلمانية، الذي، اختطته تركيا لذاتها، وعلى"تماسات التاريخ"وإشكالات الجغرافيا، المحيطة بمركز"الإمبراطورية العثمانية"، وارتباط كل ذلك بالخيار والدور المستقبليين لهذا البلد العريق... المنتظر عند نقطة تقاطع القلق السياسي، والمقيم في صلب"أزمة الدور"ومخاض توليد"الهويات"العسير!! يقرأ محمد نور الدين، في تولي"حزب العدالة والتنمية"مقاليد السلطة، جديداً... فالوزن"المفاجئ"الذي حصل عليه"الإسلاميون الجدد"انطوى على تصفية الحساب مع طبقة سياسية بأكملها، وألقى التحدي في وجه"المؤسسة العسكرية"التركية، الحاكمة باسم العلمانية، والحارسة الأمينة لهياكلها، متداعية كانت، أم آيلة إلى السقوط والانهيار. يأتي الجديد، بحسب الكاتب، من معاينة الكتلة الشعبية الناخبة، ومن الانتماء الجغرافي والطبقي لهذه الكتلة. تدل"العملية التشريحية"على أن فوز"الإسلاميين"لم تصنعه قاعدة الحركة الإسلامية التقليدية، بل ساهمت فيه أصوات واسعة من الأحزاب الأخرى،"اليمينية واليسارية"على حدٍ سواء، مثلما عملت على تحقيقه شرائح مدينية واسعة، بحيث لم يقتصر الأمر على الأرياف، التي تعتبر، تقليدياً، مصدراً للأفكار المحافظة!!... ولم يكن الأفراد بعيدين عن"الحفلة"، مع ما يعنيه ذلك في واقع التعقيدات التركية حيال مسألة الأقليات، وفي طليعتها المسألة الكردية. اختار الحزب الفائز،"اللمبة"شعاراً له، وجعل لها سبع شرارات ترمز إلى الأقاليم التركية... أما موجز اسمه"آق"أي الأبيض، فيقف على طرف نقيض مع كل مظاهر الفساد السياسية والاجتماعية. لقد أراد مؤسسو"حزب العدالة والتنمية"الإشارة إلى"الإنفتاح والتنوير والقطع مع العتمة"والتوجه إلى عموم الوطن... هذا طموح ينطوي على كثير من التفاؤل، ويتطلب قدراً عالياً من الحكمة والدراية، في الخطاب، وفي الموقف، وفي معالجة المشكلات الموروثة... عليه، تصير الأسئلة مشروعة، عن قدرة"الوافدين الجدد"إلى الحكم، وعن الاستجابة المجتمعية والسياسية الداخلية، لدعوتهم"التجديدية"، وعن فرص نجاح المحاولة"الأخرى"، في دفع تركيا قدماً على تطريق تحقيق طموحاتها... على صعيد"القول الذاتي"أكد مسؤولو"حزب العدالة والتنمية"، أنهم"خارج الإسلام وخارج كمال أتاتورك معاً"، وأن مرجعيتهم الفكرية"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان، والحريات الأساسية"... أما العلمانية"فضمانة الديموقراطية لا أساسها"وهي وإن كانت"المبدأ الأساسي للسلم الاجتماعي... فإنها تقيد الدولة وليس الأفراد..."هذا لأن"الحريات الفردية أساس التحرر الاجتماعي... ولأن الدين عامل توحيد للمجتمع وليس عامل تقسيم له...". هكذا، وفّر"الحزب"من خلال خطابه"الأولي"، مساحة لقاء مشتركة، بإيحائه أنه على"مسافة موضوعية"من الجميع، لكن ترجمة الخطاب هذا، أو عناصر تبلوره واقعياً، ستظل مرهونة بممارسة أصحاب الخطاب، في المجالات الداخلية والخارجية، وفي كيفية المواءمة بين أحكام الإرث التركي الثقيل، في المجالين، وبين الخروج المتدرج، الممكن، من هذه الأحكام. علمانية الداخل، موروث أول، وأساسي، يطرح نفسه على كل جدول أعمال جدي تركي. لقد أعطيت العلمانية هنا،"نكهة"محلية، جعلتها تتحول إلى"دين آخر"أحياناً، وإلى إدارة"للشؤون الدينية"بعدما ألغي الحيز المتعلق بالدين، وفقاً للدستور"الكمالي". إلا أن ذلك لم يمنع من استعمال السلطات للدين، كأداة لتجديد مدة بقائها في الحكم، واستعارة المشاعر المتعلقة به، لمواكبة بعض الأنزياحات التركية في السياسة الخارجية، بخاصة في عهد"الحرب الباردة"بين قطبي المعادلة الدولية الماضية، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. لم ينجُ من الاستخدام هذا، أي من الأحزاب التركية الرئيسية، مثلما لم"تترفع"المؤسسة العسكرية عن هذا الاستخدام. لسنا بصدد تحليل منفصل، يتناول بالتدقيق مسألة العلمانية عموماً، لكن بالإمكان القول، أن العلمانية على الطريقة التركية، خالفت مضامين نظيراتها، المعمول بها في الغرب عموماً، وفي أوروبا على وجه التدقيق. في سياق العلمانية"المشوّهة"التي اعتمدها"علمانيو تركيا المتشددون"، لم تتوافر الفرصة لحل أي من مشاكل الأقليات، مثلما لم توضع الأسس اللازمة للمصالحة مع بعض التاريخ. عليه، ظلت المسألة الكردية معلقة، واستمر الخلاف حول وضعية البطريركية الأرثوذكسية، حاملاً السؤال: أمسكونية هي؟ أم محلية؟ ولم يتوقف النقاش حول المسألة الأرمنية، وتعريف ما طاول هذه الفئة ذات يوم، وما إذا كان فعل"إبادة"، أم جريمة جاءت كرد فعل في سياق"حرب التحرير الوطنية"التي خاضتها تركيا بين الأعوام 1919-1923؟. الخيار الأوروبي، الذي تدق تركيا أبوابه، بدأ منذ منتصف القرن العشرين تقريباً، لكنه عرف زخم المطالبة به، مع نهايات هذا القرن، واكتسب دينامية خاصة مع وصول"حزب العدالة والتنمية"إلى السلطة. لقد احتدم السجال التركي حول معارضة"الأوربة بالأتاتوركية"، وكل جاهر بما لديه من هواجس حول الدخول إلى"هذا النادي المسيحي"، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الهوية والسيادة، أو البقاء خارجاً مع ما يثيره ذلك من إشكالات داخلية، يرفعها البعض إلى مرتبة"المصيرية". ثمة رأي جاهر بفوائد الانضمام المشتركة، على أصعدة السياسة والثقافة والاقتصاد، وبلورة العملية الديموقراطية، وحماية الوحدة الوطنية التركية، والتخلص من إرث المرحلة السابقة، التاريخية... وثمة من حذر من رفض قبول تركيا، في النادي الأوروبي، مع ما يستدعيه ذلك من إعادة إحياء للنزعات العدائية، ومن ارتداد على العملية الديموقراطية الداخلية، ومن سقوط للإدعاءات الغربية حول الاعتراف بالآخر، ومن خطر إحياء المقولة"صراع الحضارات"، التي ستجد في رفض عضوية تركيا، أوروبياً، أكثر من مبرر نظري وعملي لها. الخيار الأوروبي لتركيا، يريده"حزب العدالة"مساعداً له في الحد من سطوة"الدولة المتجذرة"، ويطلبه بعض من المفكرين الاستراتيجيين، لتحويل تركيا إلى"دولة مركز"، تمتلك كل المعطيات المؤثرة في محيطها الإقليمي، وفي تماسها الجغرافي. التداخل بين"الطموحين"واضح في أذهان العديد من أفراد"النخبة التركية، والخياران، الأوروبي والإقليمي، متكاملان، ويعزز أحدهما الآخر، وإن كان"الخيار الحضاري الأوروبي"يحتل مركز الصدارة، في قائمة الأولويات الرسمية. مفهوم"الشرق الأوسط الجديد"الذي بشّر به"المحافظون الأميركيون الجدد"، شكّل واحداً من اهتمامات تركيا، في سعيها إلى الحضور الوازن ضمن المعادلة الإقليمية. تمتلك تركيا، بحسب الأميركيين، ميزة النطق باسم"الإسلام المعتدل"، لذلك يرى فيها، هؤلاء، نموذجاً"يمكن تقديمه للآخرين!!... لكن الأمر لا ينتهي عند حدود النظرة الأميركية إلى"النموذج التركي"، بل يتعداه إلى الواقع الداخلي الذي يضج بأسئلة كثيرة، حول الانتماء إلى هذه"المنظومة الاستراتيجية"، وفقاً للتعريفات الأميركية، التي تريد"إعادة تشكيل العالم الإسلامي في القرن الواحد والعشرين"!! لذلك بدا وفي الأمر الكثير من الحقيقة أن سقف تركيا، في مجال الشرق الأوسط، بتعريفه"الصغير"، أم بتعريفه"الكبير"، لا يستطيع تجاوز سقفين مسبقين مرسومين بعناية سياسية، هما المصالح الأميركية والإسرائيلية. في التجربة العملية، حاول،"حزب العدالة والتنمية"، تميزاً في الموقف من احتلال العراق، لكنه وجد بلاده متروكة لشأنها، عندما قرر الأميركي الذهاب إلى الحرب"وحيداً"، نتيجة لذلك خرجت تركيا بعد الحرب على العراق، بخسائر صافية، طاولت"قيمتها العسكرية"، كجناح للحلف الأطلسي، ونالت من"حقوقها"في التدخل في الشمال العراقي، وحرمت من وزنها الضاغط في الأبحاث الجارية حول مستقبل الأقليات العراقية، وأصيبت استراتيجيتها المتعلقة بالأكراد، في الصميم، بعد أن استطاع هؤلاء، أن يقيموا"دولتهم ضمن الفيديرالية العراقية"الموجودة بحكم الواقع، وليس وفقاً لأحكام السياسة الرسمية. في المقام نفسه، تأتي العلاقة مع العرب، لقد خطا"حزب العدالة والتنمية"، خطوات مهمة على صعيد إزالة الهواجس العربية، وكان تحسن العلاقات مع الجار السوري عنواناً بارزاً لهذا التحسن، لكن ذلك لم يصل، ولن يصل، إلى حدود صياغة دور جديد لتركيا في معادلة الصراع العربي ? الإسرائيلي. أغلب الظن، أن العقل التركي يذهب إلى"مفهوم تجميع الأوراق"، ليحسن صرفها في تشكيل دوره الجديد، في الساحة العربية، وما يحيط بها من أقطار، مع محاذرة الاستغراق في الشرق أوسطية، أو النهوض للعب دور البديل"السني في مواجهة إيران لملء فراغات القوة"، كما يرغب بعض العرب، في سعيهم إلى ردم عجزهم، والفشل في ذلك بقدراتهم الذاتية. تلك هي تركيا الناهضة إلى دور جديد، على حاملة"حراك الداخل"والقطع مع الماضي الذي"خلق تماسات الخارج"... ويبقى السؤال: هل من مكان مستقل فعلاً،"لنموذج إسلامي معتدل"تحت شمس"العولمة الأميركية"؟ وهل يمكن الوصول إلى معادلة"التبعية المتبادلة"التي ينادي بها بعض المفكرين الأتراك؟ أم أن الاستتباع الغربي"للشرق"سيظل سيد الأحكام؟؟ * كاتب لبناني