اللافت في حفلة تسليم جائزة نجيب محفوظ للرواية لهذه السنة، وهي تقدمها الجامعة الأميركية في القاهرة منذ ثلاثة عشر عاماً لعمل روائي من مصر أو العالم العربي، هو حديث الروائي جمال الغيطاني عن العلاقة التي قامت بينه وبين الروائي العالمي نجيب محفوظ، وكان الغيطاني دون السابعة عشرة من عمره. ففي المحاضرة السنوية التي تسبق كل سنة منح الجائزة جاء حديث الغيطاني عن تلك اللحظات الصغيرة من حياة نجيب محفوظ ممتعاً حقاً"وقد فاض الغيطاني قبل أعوام عدة بعدد من الكتب التي تخلّد لحظات من حياة محفوظ التي لولا جمال الغيطاني لذهبت بالفعل أدراج الرياح. جائزة نجيب محفوظ كانت أيضاً مناسبة لمكافأة عمل جديد مختلف لا يتوافق مع ما سبقه من أعمال نالت الجائزة. فرواية حمدي أبو جليل"الفاعل"دار ميريت تركز عدستها على عالم جديد في الرواية المصرية، والعربية بعامة. إنها لا تهتم بعالم الطبقة الوسطى الذي كان بصورة من الصور مادة روايات نجيب محفوظ الذي تمنح الجائزة باسمه وفي يوم عيد ميلاده من كل عام. ما تسعى رواية"الفاعل"، للروائي المصري الشاب حمدي أبو جليل إلى تصويره، هو الطبقة الدنيا في المجتمع، أي عالم عمال المياومة الذين يبحثون عن لقمة عيشهم من خلال العمل في مهن غير ثابتة، كالبناء والمهن المصاحبة له من حمل للإسمنت ومواد البناء المختلفة، وحفر الحفر والدهان وحراسة المباني. هذه عوالم قلما نعثر عليها في الكتابة الروائية العربية التي تنشغل بقضايا الطبقة الوسطى وتصوير حياة المثقفين وتأملاتهم لهذا العالم، لأن معظم كتّاب الرواية يغرفون من حيواتهم والبيئات التي يعرفونها. أبو جليل، الذي كتب من قبل رواية واحدة قبل"الفاعل"، لا يبتعد كثيراً من سيرته الشخصية، فهو نفسه عمل في مهنة"الفاعل"أعواماً عدة. وقد جاء إلى الكتابة من عالم المسحوقين الباحثين عن لقمة العيش. وقد مزج في روايته بين تصوير حياة العمال وإعادة كتابة السيرة الذاتية للكاتب. ثمة في الرواية نوع من التخييل لحياة بدوي مصري آت إلى القاهرة، المدينة الكبيرة التي تسحقه وتدفعه للعمل في مهن بسيطة متغيرة بالكاد توفر لصاحبها لقمة عيشه اليومي. والكاتب يستخدم لتصوير هذا العالم لغة متقشفة، تهدف إلى الإشارة والكشف، من دون اللجوء إلى نوع من العاطفية المفرطة التي غالباً ما نقع عليها في عدد كبير من الروايات العربية. إنها فعلاً رواية لا عواطف فائضة فيها، لا رغبة في كسب التعاطف أو إثارة الشفقة، بل محاولة لتصوير ما هو جار في عالم هؤلاء الفعلة الساعين إلى لقمتهم وعرقهم يتصبب على أجسادهم المعروقة الضامرة. إن عالم أبو جليل، وهو واحد من الكتاب المصريين الشباب الذين حققوا حضوراً واضحاً في الحياة الثقافية المصرية منذ نشر أولى مجموعاته القصصية، هو عالم فريد بالفعل، لا من حيث الموضوع والمضمون، بل من خلال الأسلوب كذلك. الكاتب يمزج هنا بين شكل القصة القصيرة، بحيث تبدو فصول"الفاعل"كأنها قصص قصيرة يتبع بعضها بعضاً في تواتر الأحداث، وأسلوب تطوير الحبكة وتتابع الأحداث والعوالم الذي هو سمة الكتابة الروائية. وهذا أمر مفهوم على خلفية كون أبو جليل جاء إلى الرواية من كتابة القصة القصيرة. ولعل هذا ما منح هذا العمل الروائي المكثف الموجز فرادته وأهميته، وجعله يستحق بالفعل جائزة نجيب محفوظ لهذه السنة، فاتحاً أمامه إمكانات منظورة للترجمة إلى اللغة الإنكليزية ولغات أخرى أظن أنه سيكون اكتشافاً فعلياً لها. نشر في العدد: 16702 ت.م: 26-12-2008 ص: 24 ط: الرياض