على رغم الثورة التقنية، والانفجار المعلوماتي، وتحول العالم إلى قرية صغيرة، وانفتاح الثقافات وامتزاج الأيديولوجيات وفتح أبواب المعرفة والتجربة أمام شباب القرن الحادي والعشرين، ما زال ثالوث ال"ج س د"مطبقاً على زمام الأمور الفكرية لدى كثيرين. ثالوث الجنس والسياسة والدين، على رغم الانفتاح الظاهري في تداول الكثير من جوانبه المحظورة، ما زال واقعاً تحت وطأة الممنوع المرغوب. قد يتناول الشباب مسائل التكيف الجنسي من خلال قنوات شرعية متاحة لهم إعلامياً أو حتى أكاديمياً، وقد يسمح لهم بالتعبير السياسي عن ميول واتجاهات ذات هوى غير مرغوب فيه رسمياً، وقد تتاح لهم فرصة التحلل الجزئي أو حتى التطرف الكلي في شؤون الدين، ولكن أضلاع المثلث الحقيقية ما زالت تختبئ تحت أطنان من العيب والحرام والممنوع، وهي الأسباب نفسها التي أعطت المدونات الشبابية في هذه المسائل صبغة خاصة بها تميزها عن كل ما عداها من وسائل تعبير كلاسيكية أو حديثة، شرعية أو محظورة، مقبولة أو مستهجنة. والمقصود بهذه المدونات ليست المدونات التي تتحدث عن رغبات جنسية مكبوتة، أو رغبة في التخلص من نظام الحكم القائم، أو مناقشة لما يفترض أن يكون ثوابت دينية غير خاضعة تاريخياً للنقاش، لكن المقصود ما هو أكثر من ذلك وأغرب منه بالنظر إلى الخصوصية الاجتماعية والثقافية والدينية في مصر والعالم العربي. هدأت نسبياً موجة الصدمة ثم النشوة والفرحة بأداة التعبير الحرة الجديدة المعروفة ب"المدونات"، وهي الموجة التي استمرت ما يقرب من عامين وكانت من أبرز العوامل المحركة لموجة أو"هوجة"التعبير السياسي العلني التي شهدتها شوارع القاهرة وعدد من المدن المصرية. هدأت الموجة - أو بالأحرى اضطرت إلى أن تهدأ - بعدما نجح الأمن تماماً في إيصال الرسالة واضحة:"نترككم تصيحون وتصرخون ولكن بحدود، وإن تعديتموها فمقاليد الأمور ما زالت في أيدينا". بضع قضايا وحفنة اعتقالات ومجموعة مناوشات"قرص ودن"كانت كفيلة بأن تخفض غالبية المدونين المصريين الشباب من أصحاب الاتجاهات السياسية غير المرغوب فيها أصواتها، ومن ثم خفت أثرها في الشارع. لكن أثر المدونات كأداة فعلية لكسر"التابوهات"المجتمعية والحكومية والأسرية، ولو كان ذلك مشروطاً ب"التجهيل"ظاهر جداً. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن المثلية الجنسية في مصر والعالم العربي"عيب وحرام"ومجرد النطق بأحد الألفاظ التي تعبر عنها مدعاة لاحمرار الخدين. أحداث القاهرة الشهيرة والمعروفة ب"قضية كوين بوت"التي تم خلالها القبض على عدد من الشباب المثليين، وأثارت الرأي العام الذي طالب بعضه بإعدامهم أو رجمهم في ميدان عام ما زالت حاضرة وتبث القشعريرة في أذهان من يتذكرها بسبب منظر"الرجال المثليين"، فما بالك بالحديث عن نساء مثليات؟ هو شعور أبعد ما يكون عن الإحساس بالهدوء والسكينة الذي لا يخلو من حرية غير محدودة وثقة بالغة في النفس تكتب بها كلماتها صاحبة مدونة"يوميات امرأة"التي تصف نفسها بأنها"امرأة مثلية من مصر"وتكتب عن أحاسيسها ومشاعرها وأحياناً مذكراتها اليومية بسلاسة تهيئ للمتصفح أحياناً أن المثلية الجنسية النسائية باتت مسألة عادية. زار مدونتها منذ بدايتها قبل عامين ما يزيد على 25 ألف متصفح، ولا تمر تدوينة لها من دون أن يعلق عليها العشرات بين مؤيد لما تكتب وبين شاتم لكلماتها وداعياً عليها بالموت والحرق والعذاب. وعلى الوتيرة ذاتها، هناك كذلك العشرات من المدونات التي يبوح فيها أصحابها وصاحباتها بخبايا عديدة عن حياتهم أو معاناتهم الجنسية، سواء المثلية أو غيرها والتي يشوبها شكل من أشكال"العيب"أو"الحرام"المجتمعي أو الديني أو كلاهما. فهناك من يعرف نفسه ب"أنا غاي"أي"أنا مثلي"ويتحدث عن رغبته في أن يتخلص من هذه المثلية، ويصبح قادراً على توجيه مشاعره وعواطفه تجاه فتاة، لكنه غير قادر على ذلك. وهناك من هو مثلي، لكنه فضل أن يجعل زيارة مدونته حكراً على من يقوم بتسجيل معلوماته ثم السماح له أو منعه من دخولها. هذا الحرص الزائد في التعامل يكاد يختفي في المدونات ذات الاتجاهات السياسية المغايرة للاتجاه الرسمي والتي استمرت بعد"قرصة الودن"التي وجهها الأمن لعدد من المدونين الشباب خلال الأشهر القليلة الماضية. الغالبية من الشباب، ونسبة قليلة من الشابات، تدون تدوينات سياسية أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها"جريئة"، بعضها ينتمي إلى تيارات يسارية مثل أحدهم الذي يصف نفسه بأنه"يحلم بيوم تتحقق فيه العدالة من بوابة الاشتراكية"، أو من يدون من أجل"الثورة الاشتراكية"، وتتنوع أطياف التدوينات السياسية بين شيوعي وليبرالي ومجرد هادف إلى تغيير الوضع القائم، مثل صاحبة مدونة"جبهة التهييس الشعبية"التي يبدو من تدويناتها والوصلات التي تستعين بها في المدونة أنها تهدف إلى مناهضة التعذيب، ووقف بيع مصر وغير ذلك وتصف نفسها بأنها"واحدة مهيسة زي كل المصريين". وبالطبع لا تخلو المدونات الشبابية المصرية من خلطة الدين والسياسة الأكثر شهرة، سواء كانت خلطة إسلامية أو مسيحية أو الخلطة الحديثة التي أفرزتها الشبكة العنكبوتية وأعطتها صوتاً كما لم يحدث من قبل. مدونات الأعضاء والمتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين"المحظورة"نظرياً والنشيطة والمتواجدة بشدة واقعياً، كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، مدونة"أنا إخوان"وهو الاسم الذي لا يحتاج إلى توضيح ويعرف صاحبها نفسه بأنه"صحافي مصري من الإخوان المسلمين ودايب في حب مصر وبيكره الفساد والاستبداد"، وهو صاحب تجربة حديثة في الاعتقال. كذلك مدونة"بنات العريان"وصاحبتها ابنة الدكتور عصام العريان وهي"فتاة إخوانية تنتمي لأسرة إخوانية تعشق مصر". وهناك كذلك مدونات لشباب مسيحيين مثل"كلمات"و"راء وميم"وهي"راء وميم في سين وجيم عن النصارى والمسلمين"وتوصيفها أنها"مدونة مصرية بطابع مسيحي مصري عام"، ويبدو في أغلب هذه المدونات شعور الأقباط المصريين بالكبت والقهر ومطالبتهم بمزيد من الحقوق والحريات الدينية. وكما هو متوقع، فإنه كثيراً ما تحفل المدونات ذات المحتوى الديني المائل إلى السياسة أو ربط الانتماء إلى الوطن بديانة معينة دون غيرها بالكثير من التعليقات الحادة التي يصل بعضها إلى حد الشتائم والسباب. ولا تقف حدود المدونات المصرية الشبابية الدينية عند حدود الديانتين المسيحية والإسلامية، بل تمتد كذلك لتشمل أبناء ديانات أو انتماءات دينية لم تكن ليعلو صوتها من قبل، منها المنتمون إلى المذهب الشيعي أو البهائيون الذين تكثر مدونات شبابهم على الشبكة العنكبوتية، ومنهم"بهائي مصري"و"شمس الحياة"وغيرهما. وهكذا، فإذا كان التدوين على الشبكة العنكبوتية يحقق أهدافاً تتنوع بين مشاركة الآخرين في الخبرات الحياتية، أو البحث عن أفراد يشاركون المدون أفكاره أو حتى يختلفون معه بغرض التواصل الإنساني والاجتماعي، أو التنفيس عن قدر من الكبت أو التعبير في شكل جديد لم يكن متاحاً من قبل، أو البحث عن دور ما مفتقد في الحياة على أرض الواقع وغيرها من الأسباب التي تدعو الملايين من الشباب حول العالم للتدوين، فإن التدوين بالنسبة إلى البعض من الشباب من الجنسين في مصر هو قناة للتعبير والبحث والإفصاح والمجاهرة المجهلة عن أفكار وأحاسيس ومعتقدات تؤمن الغالبية ممن حولهم بأنها - في حال الإفصاح عنها - تعد فضيحة، وأن مدارتها ومحاولة وأدها أو دفنها هو الأسلوب الأمثل للتعامل معها، سواء كان ذلك بسبب الرعب من المجاهرة بالانتماء الجنسي المغاير للغالبية أو الذي يعبر عن قهر وكبت لا تصح المجاهرة بهما، أو بسبب الخوف من العقاب على التجرؤ بالمعارضة السياسية، أو خوفاً من مخالفة روح المعتقدات الدينية السائدة أو فتح أبواب نقاشات دينية لا يتوقع من ورائها إلا المشاكل. إلا أن العالم العنكبوتي لا يعترف بالخوف أو المشاكل الكلاسيكية، حتى وإن خضع لمحاولات الرقابة والتوقيف والحذف، لأنها غالباً ما تقتصر على اللف والدوران في دوائر مغلقة، والغلبة في النهاية للأعلى خبرة والأحدث علماً في عمليات الكر والفر العنكبوتية.