من الناحية العلمية، توصف المعلوماتية بأنها ثورة علمية جذرية. ماذا تعني "ثورة جذرية"؟ المقصود أنها تغيير يَمسّ طُرُق العمل والتفكير في العلوم كافة. ولعلها مناسبة للإشارة إلى أن الثورة العلمية التي رافقت الكومبيوتر والانترنت هي من الأشياء التي تُُثبت أن التطوّر التقني، بمعنى التقدّم في الوسائل العملانية التي يستعملها العلماء، يحمل من الأبعاد أكثر مما يوحي به الاسم. وأنّى تلفتت الأعين، تجد أن العلوم لم تعد تستطيع، أو تطيق، أن تُفكر وتعمل راهناً بالطرق والمنهجية والنسق التي كانت رائجة قبل ثورة المعلوماتية. يمكن الاعتراض بصورة فورية على الكلام السابق والقول إنه يتضمن الكثير من التعميم. وبقدر ما يبدو الاعتراض مقبولاً من الناحية المبدئية، فإنه يُحفّز أيضاً على التفكير في أن التعميم السابق ربما كان مُبرّراً أيضاً. ويصلح هذا الأمر مجالاً لنقاش طويل. وفي السياق عينه، فمن بين الأسئلة التي يمكن أن تطرح في هذا السياق أيضاً يبرز السؤال عن أثر المعلوماتية في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويزيد في دقة السؤال وحرجه وجود نقاش عميم عن مدى انطباق وصف"العلوم"على تلك المجالات. والأرجح أنها تختلف كثيراً عن العلوم الصريحة، مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك"لذا تجدر ممارسة الكثير من الحذر العلمي قبل القفز إلى استنتاجات مباشرة بشأنها. والأرجح أيضاً أن يد التطورات الجديدة الحاصلة في مجالات إنشاء المعلومات وتحليلها قد مستها أيضاً. وشرعت العلوم الإنسانية والاجتماعية بالتعامل أكثر فأكثر مع الوثائق الرقمية، ما يعني أنه يجب إعادة النظر في كثير من المسائل التجريبية المتعلقة بهذه العلوم، وكذلك الأخذ في الاعتبار أثر هذا التغيير في النظرة إلى المادة التي تراقبها تلك العلوم عينها وطريقة التعامل معها. التحوّل الرقمي وآثاره تشير التجربة مع المعلوماتية إلى أن رَقمنة Digitization المواضيع العلمية"أي كتابتها باللغة الإلكترونية الثنائية Binary على هيئة ملفات رقمية"تدفعنا للتفتيش عن طرق جديدةٍ للتعامل معها وفهمها وتفسيرها. وبقول آخر، فإن العلاقة بين الفكر ومادته تتغيّر عندما تُصاغ المعلومة في صورة رقمية يمكن التعامل معها عبر الآلات الذكية مثل الكومبيوتر، وباستخدام التقنيات التي تتضمنها برامج المعلوماتية وتطبيقاتها. فهل إن الطرق الجديدة لخلق الوثائق والطرق الحديثة لمعالجتها وقراءتها تدفع الى التفتيش عن أشكال جديدة لبناء المعرفة، وبالتالي للعثور على طرق جديدة يسلكها العقل أثناء اشتغاله على المواضيع التي يتصدى للتفكير فيها؟ وباختصار، ما هو أثر أساليب الآلات، التي تعتمد على المُعالجة المؤتمتة للمعلومات، على العقل البشري وفهمه لتلك المعلومات أيضاً؟ الأرجح أننا لم نصل إلى هذا الحد من التطوّر في مجالات المعالجة المؤتمتة للمعلومات والرقمنة في عالمنا العربي"بمعنى عدم وجود تقنيات متطورة في المُعالجة المؤتمتة للمعلومات باللغة العربية. وفي المقابل، هناك بعض المحاولات التي بدأت تعتمد على التحاليل المؤتمتة للمعلومات في مجالات الاتصال والتاريخ والجغرافيا والآثار والأدب وما يُشبهها. وبدأنا نلجأ إلى الحاسوب للمساعدة في البحث والكتابة والتفتيش والمقارنة. إن هذا التغيير يطرح أسئلة عدّة حول الوثائق الرقمية والعمل عليها، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً تفاعل تلك المجالات مع الألسنية أيضاً. ثمة عملية، إذاً، شرعت في التبلور قوامها تجميع المعلومات ثم تحويلها إلى اللغة الرقمية، ما يجعلها قابلة للخضوع للوسائل والتقنيات المؤتمتة. وفي المقابل، فإن التفكير البشري يُراقب تلك العملية ويحاول أن يفكر في العلاقة بين الشكل الجديد الرقمي ومعطياته من جهة، وبين"الموضوع"الذي جاءت منه المعلومات أصلاً. والمقصود بالموضوع هنا هو المادة التي تصفها المعلومات وتُحاول تفسيرها. وتدفع الرقمنة أيضاً الى التساؤل عن عملية الكتابة الإلكترونية بحد ذاتها، ودورها في تغيير النص وبنائه وسياقه، وهي عوامل تؤثر في بناء المعنى الذي تحمله المعلومات أصلاً. والأرجح ان الشكل الحالي للوثائق الإلكترونية يغيّر في طبيعة النصوص. ففي زمن المطبوع، كان يمكن النص أن يكون صفحة أو جملة أو عموداً أو فقرة أو اقتباساً أو إشارة على الهامش. ومع زمن الوثائق الالكترونية، صار"النص"قابلاً لأن يجمع بين الكلام المكتوب والصورة والصوت، بل أضيف إليه البعد الزمني الذي يُشار اليه بالديناميكي والتفاعلي والتبادلي في الوقت الحي وغيرها. وتندغم تلك الأشياء عبر ما يسمى بالنص المتعدّد الوسائط"ميلتي ميديا". ما الذي ينجم عن هذا التغيّر التقني؟ لقد تغيرت أجزاء النصوص، ما أدى أيضاً الى تغييرات في عملية القراءة. فلم تعد علاقة القارئ بالنص علاقة بسيطة، بل صارت خليطاً من أشياء كثيرة، كما باتت عُرضة للكثير من الانتقائية أيضاً. والحق أن النص قد انفك من جموده السابق، في الشكل المطبوع، إلى مجموعة من المُكوّنات التي يمكن التعامل معها كوحدة، كما يمكن التعامل مع كل مُكوّن منها الصوت، الصورة، النص... على حدّة أو مزجها بالطريقة التي ينتقيها القارئ. في زمن النصوص المطبوعة، قيل كثيراً ان كل قارئ يصنع نصه الخاص"والمعنى المقصود أن القارئ يُعطي للشكل المطبوع الواحد معنى بحسب ذائقته. ومع النص الرقمي، باتت العلاقة متعددة وأكثر تشابكاً. لقد تفكك شكل النص فبات أجزاءً، ويمكن كل قارئ أن يُنشئ علاقة مع كل جزء أو مع مجموعة من الأجزاء أو مع الأجزاء مجتمعة"ما يعني أن المعاني الممكنة للنص عند كل قارئ صارت فائقة التعدّد. فالقراءة هي أيضاً عملية فهم للنص وتأويل له أيضاً. ويقود التبدّل في طريقة القراءة إلى صنع سياقات مختلفة للكلام تغير في العلاقة الدلالية للنص. الأرجح أن النص الرقمي يعطي الكلمة المفردة معاني كثيرة، لأنه يقدر على وضعها في سياقات مختلفة، تتنوع بتنوّع طُرق القراءة نفسها. فإذا سلمنا مع بعض علماء الدلالة: أنه ليس للكلمة معنى وإنما استعمال معين المقصود أنها تكتسب معناها من السياق الذي تأتي فيه، فإن الرقمنة وسرعة البحث عن الكلمة يقدمان كل المعطيات لمعرفة كيفية استعمال هذه الكلمة، بمعنى إمكان الإحاطة بسياقاتها المتنوعة، وخصوصاً بفضل استعمال قواعد المعلومات التي تعتبر بمثابة"بنوك"للنصوص. وبالاختصار، لقد أمّن لنا الحاسوب أيضاً، وفي الاتجاه المُعاكس تماماً، سهولة التعاطي مع النص من أجل تحليله. ولنأخذ مثالاً على ذلك يدخل في نطاق الوثائق والنصوص وعلم الخطاب وتحليله. فمن الممكن حالياً استعمال أنظمة معلوماتيه لتحليل خطاب سياسي. وقد أُنجز هذا الأمر عملياً من خلال نظام"إكس كوم"EXCOM الذي صنعه"مختبر اللغات والمعلوماتية"في جامعة السوربون. وبفضل هذا النظام، يستطيع المواطن معرفة السياسة التي سينتهجها أحد المسؤولين من خلال استعماله بعض الكلمات"فمثلاً يستعمل جان ماري لوبن، رئيس"الجبهة الوطنية الفرنسية"في خطاباته كلمة"الأجانب"أكثر من غيره. وفي سياق متصل، من المستطاع القول إن الحاسوب هو آلة للتوثيق والتنقيب، ما يعني أيضاً أنه يقدر على وضع الأشياء"على المحك"، بمعنى وضعها موضع المساءلة، ما يسمح لنا بإجراء تجارب على البراهين واستخلاص نتائج منها. ويُشير المتخصصون إلى تلك الميزة بمصطلح"الوظيفة الاختبارية". يُمثّل الحاسوب أيضاً أداة مؤتمتة للاستكشاف النصي"إذ يمكننا من تحديد معنى اقتباس ما أو نص منقول بسهولة عبر الرجوع إلى الأصل ومعرفة المعنى الحقيقي للجزء المقتبس في سياقه الأساسي. إن الكومبيوتر يلعب هنا دور"المُحقّق"في دلالة النص المنتزع من سياقة فعلياً، ذلك أن الاقتباس يلعب دوراً توضيحياً ويعتمد عليه غالباً لدعم وجهة نظر معينة. إذاً، تستطيع الأدوات المؤتمتة أن تلعب دور"الأداة الفكرية"المُساعدة في عمليات القراءة والتجربة والقرار، ما يساعدنا على الفهم والتحليل. لا يكتفي الكومبيوتر باحتساب عدد الكلمات في وثيقة معينة، بل يمكن تطويعه واستخدامه في معرفة معنى الكلمة، بحسب نسبة استعمالها في وقت معين. وأخيراً، فإن المعلوماتية غيّرت أيضاً في عمليات الفهرسة وإعداد الجداول والكشوفات وما إليها. فبعد ان كانت تلك العمليات تسير بصورة انتقائية"بمعنى اهتمامها ببعض الجوانب في النص مثل أسماء العلم والمصطلحات"باتت تلك العمليات عينها ذات طابع تكاملي بمعنى قدرتها على فهرسة النص بأكمله. ويعتمد الكثير من محركات الإنترنت راهناً على تلك الخاصية في عملها. تؤمن المعلوماتيه أنظمة للاستكشاف ولوجود السهل من الكلمات والمصطلحات وملاحقها. وتُساعد تلك الأمور في صنع بنوك من الأمثلة أو البراهين المتصلة باستعمال كلمات معينة في سياقات محددة. ولعل أبرز ما يستعمله الكومبيوتر في التعامل مع النصوص وتحليلها، هو قدراته على الإحصاء. وثمة الكثير من البرامج المعلوماتية المخصصة للصحافة تعتمد على تلك الميزة في تحليلها للمواد الصحافية. في خلاصة القول، لا شك في أن المعلوماتية غيّرت كثيراً من الأمور في حياتنا اليومية، وضمنها كيفية تعاطينا مع المعرفة وفهمها وتمثلها. ولهذا يجب علينا مواكبة المعلوماتية على كل الصعد، بما في ذلك الخدمات التي يقدمها لنا الحاسوب وبرامجه، والنظريات المرتبطة بالمعلومات بما فيها تلك المتصلة بمجالات العلوم الإنسانية وعلوم اللغة. * استاذ جامعي لبناني