غلبت التكهنات على طبيعة مشاركة سعوديين في المواجهات بين الجيش اللبناني وتنظيم"فتح الاسلام"في مخيم نهر البارد، حتى بالنسبة الى المتابعين ملف التطرف. لكن الوقائع مع استمرار المواجهات ما لبثت أن ظهرت لآباء وأمهات... ومنظمات وهيئات وجهات أمنية، مع ظهور الأجساد"المتفحمة". وجاء السؤال من بيروت مفزعاً: هل غاب لكم ابن في الفترة الماضية؟ إن كانت الاجابة"نعم"، فإن الأجهزة الأمنية هناك في حاجة الى"عينة"لمقارنة الحمض النووي الريبي دي ان ايه، فلربما كان ابنكم أحد القتلى! لم يكن السؤال جديداً على عدد من الآباء السعوديين، ومثلهم آخرون في نواح شتى من العالم العربي المحاصر بالمحتلين والمتطرفين، لكن وروده من لبنان هذه المرة أضاف عنصراً من الدهشة جديداً. المواطن علي الوهابي 50 سنة الذي وارى ابنه عبدالله 21 سنة الثرى قبل أسبوعين في مقبرة النسيم شرق الرياض، بعدما استقبله نعشاً من بيروت، الى معاناته النفسية، يصر على أن يفهم لماذا اتجه ابنه الى بيروت؟ يقول بمرارة أب خسر لتوه ابنه البكر:"إنه لقي ربه، لكنني حتى الآن أطرح ثلاث مسائل تهمني جداً، أولاً: كيف اقتنع ابني الوديع المحبوب مِن كل مَن حوله وهو في عمر الزهور بأن يتركنا من دون أن تظهر عليه أي ملامح تطرف، أو أن يخضع لغسيل مخ وهو الذي نثق جميعاً في عقله ورشده؟ ثانياً: لماذا تسمح السلطات الرسمية في بلادنا بالسفر لشاب صغير كهذا الى أي بلد من دون إذن ولي أمره، في ظل هذه الأوضاع المزعجة؟ ثالثاً: ماذا يصنع ابني في نهر البارد؟". ... لماذا في بيروت؟ ولأن التكهنات لم تشف غليله من تساؤلات لم يلق لها جواباً، يرجّح هذا الأب أن يكون الخطاب الديني"السري"في بلاده هو"الصنّارة"التي تلتقط، بحسب تعبيره، فلذات الأكباد من أحضانها الآمنة! أما السلطات فيكتفي بمطالبتها بأن تمنع بحزم من عمره دون ال25 من السفر الى خارج البلاد إلا بإذن من ولي أمره أو بصحبة عائلته،"خصوصاً إذا كان يظهر عليه التدين". ويضيف:"المصيبة الكبرى أن هؤلاء الذين يصطادون أبناءنا الى مواطن الموت يركزون على أفضلهم وأنفعهم لأسرهم". ويماثل لغز الموت في لبنان، هذه المرة، الحسرة على الفقيد. إذ لم تزل"التفسيرات"في قضية"فتح الاسلام"مجرد تحليلات، فهناك مصادر زعمت أن عصابات تنشط في سورية باعت الأبناء، وساقتهم الى نهر البارد بعد أن صادرت جوازاتهم. وهناك رواية أخرى تزعم أنهم ذهبوا الى هناك، بقصد المشاركة في حرب مقبلة ضد إسرائيل". جميع التأويلات، يقول الوهابي،"تندرج تحت إطار البحث عن اللغز لا أكثر". وكانت مشاركة سعوديين في معارك"البارد"، غيرت في نظرة المواطنين العاديين إلى المتطوعين"للجهاد"، ذلك ان الذين تنعاهم وسائل الإعلام في المعارك ضد المحتل في العراق، كانت عبارات الشجب لفعلهم ممزوجة بنبرة من التعاطف والترحم، بل التأييد أحياناً. لكن الوضع اختلف جداً بالنسبة إلى المشاركين في معارك نهر البارد. وحين كتبت صحيفة سعودية خبراً عن وصول جثمان أحد القتلى من لبنان، كان بين التعليقات:"إلى جهنم وبئس المصير، هذا مصير كل إرهابي، ومن ضيع بوصلته واتجه لمحاربة بني جلدته"."الله لا يرد من ذهب يفتن في بلد عربي"،"ما نبغى منهم أحد يرجع"،"يا ناس وش موديكم لبنان؟والعراق؟ احنا وين وهالبلاوي، نحن بريئون منكم ليوم الدين!". بضائع في سوق العصابات والإرهاب! وأثارت أنباء مقتل سعوديين في مخيم نهر البارد جدلاً على الساحة المحلية. وصارت المسألة قضية رأي عام. وعلمت"الحياة"من مصادر مطلعة ان جهات حكومية أطلقت تحقيقاً في معلومات تحدثت عن"بيع"مقاتلي نهر البارد السعوديين من جانب عصابات، بمبالغ لا تتجاوز 3000 دولار للشخص! وكانت هيئة حقوق الإنسان الحكومية السعودية التي نقلت هذه المعلومات عن مصادر"لا تصدقها ولا تكذبها"، تحركت على خط الأزمة، على نحو لافت وأرسلت وفداً إلى كل من سورية ولبنان، قابل الجهات المسؤولة في البلدين وعاد بتقرير ضاعف قلق المواطنين، وقادهم إلى مزيد من التساؤلات. وفيما لم ينشر التقرير بعد، أبلغ المتحدث الرسمي باسم اللجنة الدكتور زهير الحارثي،"الحياة"في اتصال هاتفي رد عليه من خارج السعودية، أن"الوفد وجد أن عدد السعوديين في لبنان ليس بالحجم الذي تردد في الإعلام". لكنه أكد استغلال عصابات التهريب لبعض السعوديين، وأن بين تلك العصابات والتنظيمات الإرهابية تنسيقاً بوجه من الوجوه". وأكد ان اللجنة التقت أشخاصاً أدلوا بمعلومات تفيد بأن مجيئهم إلى لبنان كان خدعة، وپ"المعلومات على هذا الصعيد متضاربة، غير أن المهم تعاون المصالح الحكومية في الداخل والخارج من أجل السيطرة على هذا الوضع الخطير، مشكلة التطرف تجنيداً وتحريضاً وعملاً مسلحاً لا تزال مزعجة في بلدنا ومقلقة". خوجة: الإعلام ضخم الأمر وظهرت مع أزمة نهر البارد، نقاشات تأخذ طابع الحدة أحياناً بين المثقفين والسياسيين، عما إذا كانت المشكلة في السعوديين أم الانحياز ضدهم، بتضخيم دورهم السلبي حتى لو كان ضئيلاً. وعلى هذا الصعيد يتهم السفير السعودي في بيروت عبدالعزيز خوجة الإعلام بالإساءة إلى بلاده ? عمداً أو جهلاً ? في شأن تورط بعض مواطنيه في مواجهات المخيم. ويقول:"الإعلام صور المقاتلين السعوديين بأنهم قادة المعركة، وأنهم الأشرس والأشد بأساً، وأن أعدادهم كبيرة، لكن بعد أشهر من المواجهات اتضحت الحقيقة، وهي أن المشاركين مجموعة من الشبان الصغار المساكين الذين غُرر بهم". ويضيف:"وجدنا بين المعتقلين والمتوفين شباباً لم يخضعوا لأي تدريب أو لتجربة قتالية سابقة. استغل المجرمون قلة مداركهم وحداثة أعمارهم في تجنيدهم، ومن ثم وضعوهم في الميدان ليواجهوا الموت، وبعضهم حاول الهروب بعد أن تحقق من المأزق الذي وقع فيه، لكن الجماعة المتطرفة أحكمت سيطرتها عليهم. هم ضحايا فكر متطرف وعصابات مجرمة مخادعة". ويؤيد هذا الرأي الكاتب السعودي محمد الفال، الذي يتهم اطرافاً بمحاولة ترسيخ صورة مرعبة لپ"السعوديين":"هل هي أجهزة الاستخبارات الأميركية وحلفاؤها التي جعلت من بعض شبابنا طاقات متفجرة في حربها ضد الاتحاد السوفياتي على أرض أفغانستان أيام الحرب الباردة وفتحت لهم نوافذ كانت مغلقة وأدخلتهم في أجواء"روحية"أخرجتهم من ثقافتهم وتربيتهم القائمة على التمسك بخطى أسلافهم لأنهم ? في نظرهم ? الأعلم والأقرب الى الصلاح ومعرفة الحق ومراد الله من إنزال شريعته وفرض تعاليمه وأوامره؟". يستعرض الفال في مقالة أزمات عدة، يقال إن بين أطرافها سعوديين، ويقول إنه لا يدري"لماذا أصبحوا فجأة مصدر قلق للعالم بعد أن كان السعودي نموذجاً حياً للإنسان الوديع المسالم الذي يتحمل الأذى من الآخرين، ويكظم الغيظ، ويعفو عن ظالميه والمتجنين عليه، يفرغ شحناته النفسية وطاقاته الجسدية في شؤون الحياة والانصراف الى تفاصيلها اليومية، يفكر في زيادة ثرواته ورعاية أسرته؟". أرقام... وانطلقت قصة عدد المقاتلين السعوديين في نهر البارد، من تساؤل في البداية: هل بين المسلحين سعوديون؟ ثم تطور الأمر الى التساؤل عن كل الأرقام، ومن قتل ومن اعتقل، وتالياً من سُلّم الى أهله نعشاً، ومن لا يزال وسط المخيم يتوعد. هذا الى جانب أحاديث عن طريقة التجنيد والطريق الى بيروت. ومع أن المعلومات اليوم باتت أقرب الى التأكيد منها في السابق، إلا أنها حتى لحظة كتابة هذا الموضوع لا تزال غير نهائية. فبينما نشرت أرقام تتحدث عن مقتل 12 شخصاً، تم التعرف الى جثث خمسة منهم، تتوقع مصادر متابعة أن يكون الرقم أكبر من ذلك. لكن السفير خوجة الذي يطالب من جانبه بالتريث حتى تكتمل التحريات، يقول إن عدد المتوفين حتى الآن 8 أشخاص، والمعتقلين 13، والبقية لا يزالون داخل المخيم، مضيفاً أن العدد الإجمالي يتراوح بين 36 و40 شخصاً. لكنه، كما الحارثي، يحذر من اعتماد أي معلومات نهائية ما لم يصدر تقرير رسمي بذلك. إلا أن التحريات والتنسيق بين الجهات الأمنية في البلدين لا تزال جارية. وفي لبنان لا يزال إشكال تسليم القتلى السعوديين يعوقه التعرف الى هوياتهم، بينما يصر أطراف لبنانيون على عدم تسليم المعتقلين لأوطانهم إلا بعد محاكمتهم. لكن خوجة يؤكد أن هذا الجانب هو الآخر لا يزال قيد البحث. أما بالنسبة الى عدد السعوديين في السجون السورية، فإن الحارثي يقر بتلقي الهيئة التي يتحدث باسمها بلاغات من مواطنين فقدوا اتصالهم بذويهم في سورية، أما العدد الذي صرحت السلطات السورية للهيئة باعتقاله فهو 40 شخصاً فقط، منهم 29 صادرة بحقهم أحكام جنائية. غير أن أنباء تتردد عن احتجاز السوريين أضعاف ذلك العدد، وهو أمر لا يصدقه الوفد الذي ذهب... ولا يكذبه.