يرصد الدكتور رضوان السيد، في كتابه"المستشرقون الألمان - النشوء والتأثير والمصائر"الدار الإسلامي، 2007، البدايات المبكرة للاستشراق الألماني، ويدوّن جهود وأعمال أبرز رموزه، وتأثيراته في الدراسات العربية والإسلامية في القرن العشرين، ولا ينسى الخوض حول مصائر الاستشراق بشكل عام، حيث يرى بأن الاستشراق مضى وانقضى، وأننا في صدد مخاض يوشك أن تتشكل بدائله لغير صالحنا، إذا لم يشهد حقل الدراسات العربية والإسلامية إسهامات عربية وإسلامية جدية وكثيفة في العقد الحالي واللاحق. وشكّل الاستشراق الألماني، بحسب"فرتز شتبات"، نافذةً جيدةً على الشرق، تمّ التعرف من خلالها، وطوال قرن ونصف القرن، بالعرب والإسلام، وحضارتهما، بطرائق موضوعية وودودة في أكثر الأحيان. فيما يُعرّف رودي بارت الاستشراق أنه"علم يختص بفقه اللغة، وأقرب شي إليه أن نفكر في الاسم الذي أطلق عليه، فكلمة استشراق مشتقة من كلمة"شرق"، وكلمة شرق تعني مشرق الشمس، وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي". ثم أخذ مفهوم الاستشراق يتغاير، حتى بات يحتضن مختلف مركبات الاهتمام بما يحويه الشرق من علوم ومعارف وسمات حضارية متنوعة. وينحاز رضوان السيد إلى الجهود المعرفية في سياق تحديده لبدايات الاستشراق، رافضاً الجهود التبشيرية، ومعتبراً جهود الكنسيين المتنورين التي حدثت في الفترة بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر لتجاوز المرحلة الأسطورية في مكافحة الإسلام، جزءاً من الحروب الدائرة بين المسيحية والإسلام. لكن بداية التعرف الأوروبي على عالم الإسلام الثقافي، حدثت بعد أن ترجم الفرنسي أنطون غالان أقاصيص وحكايات ألف ليلة وليلة التي سحرت مجموعات كبيرة من المثقفين الأوروبيين في القرن الثامن عشر، وأصيب العديد من الرومانطيقيين الأوروبيين بسحر الشرق، فقاموا بترجمة أشعار الشرق وحكاياه. والفضل يعود إلى الرومانطيقية في إخراج النظرة إلى الشرق الإسلامي من دائرة الجماليات اللاهوتية، فيما كانت التاريخانية السلف المباشر لعلم التاريخ الأوروبي الحديث، وللاستشراق الذي ناضل طويلاً لكي يكون جزءاً من ذاك التقليد التاريخي الإنسانوي، نظراً لأن التاريخانية تعتبر معرفة فقه اللغات السامية وغير السامية، الأساس الموضوعي للمعرفة التاريخية للأمة، واللغة لدى التاريخانيين هي الطريق لاكتشاف عقلية الأمة، وعليه بدا"الطريق اللغوي"السبيل الأنجع للمضي في اتجاه معرفة الشرق. ويعتبر رضوان السيد أن ارتباط الإسلام الوثيق باللغة العربية، أوجد إشكالية عسر الاندماج بالعلوم التاريخية، والتحول إلى الاختصاص المنفصل كعلم خاص، وهذه هي الخصوصية التي وقع بها الاستشراق، أو آل إليها، هي التي جعلته موضع شبهة دائمة لدى المسلمين باعتباره معادياً للإسلام، ولدى السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين باعتباره يفتقد شروط العلم الدقيق، ولدى نقاد ثقافة الاستعمار، باعتباره يمارس هيمنة واستلاباً على ثقافة العرب والمسلمين، وعلى صورتهم التاريخية والمعاصرة. وينتقل رضوان السيد من القول النظري إلى قراءة وتبيان الوقائع والمساعي المبكرة لتكوين المجال الذي عُرف في ما بعد بالاستشراق. ومن قراءته تظهر ضخامة الجهود المبذولة في نشر النصوص العربية الكلاسيكية التي صارت مصادر في الدراسات العربية والإسلامية، ويظهر كذلك تركيز المستشرقين الألمان في عروضهم الدراسية على وضع الحضارة الإسلامية في السياق العالمي، حيث كانت تلك العروض شاملة ومتخصصة في التاريخ السياسي والثقافي العربي والإسلامي، وفي دراسات التاريخ الديني، والنظام الديني، وتطورات الحضارة الإسلامية في عالم ما بعد العصور الكلاسيكية، وصولاً إلى نهايات الدولة العثمانية. واهتمّ المستشرقون الألمان بالتراث العربي والإسلامي من خلال الكشف والجمع والمحافظة والتقويم والتحقيق والفهرسة والدراسة والترجمة والنشر والتصنيف والتأليف، وشيّدوا لنشره ودراسته وتدريسه المعاهد والجامعات والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات. وهناك آلاف المخطوطات العربية والإسلامية التي وجدت طريقها إلى المكتبات الألمانية في الجامعات والبلديات. وحقق المستشرقون الألمان عدداً كبيراً من أمهات التراث العربي، مثل"الكامل"للمبرد و"تاريخ الطبري"الذي استغرق تسعة عشر عاماً من العمل المتواصل، ومؤلفات البيروني و"بدائع الزهور"لابن إياس و"طبقات المعتزلة"لابن المرتضى و"مقالات الإسلاميين"لأبي الحسن الأشعري، و"الفهرست"لابن النديم، ومؤلفات ابن جني، وعدداً كبيراً من دواوين الشعراء العرب والمسلمين القدامى. ويخالف رضوان السيد إدوارد سعيد الذي ذهب إلى القول بأن المستشرقين الألمان ما كانوا فاعلين أقوياء في المؤسسة، فضلاً عن أن"المؤسسة"ما كانت رئيسية في الحركة الاستعمارية في العالمين العربي والإسلامي، معتبراً أن كلا الأمرين غير دقيق. ذلك أن الألمان في عهد الدولة القيصرية كانوا يملكون مشروعاً توسعياً و"رغبات"استعمارية شرهة وشرسة، فاندفعوا بعد الوحدة الألمانية عام 1870م إلى ايجاد"مجال حيوي"في أوروبا، وبحثوا عن مستعمرات في إفريقيا، وعن إستراتيجية صداقة مع الدولة العثمانية في مواجهة الروس والبريطانيين والفرنسيين على حد سواء. ومنذ السنوات الأولى لإستراتيجيتهم العثمانية استعانوا بالمستشرقون وعلماء الدراسات العربية والإسلامية. لكن المشروع الإمبراطوري الألماني تلقى ضربة قاسية في الحرب العالمية الأولى، فكانت التقليدية الاستشراقية الألمانية العاملة في خدمة الدولة قصيرة الأمد، وعاد الاستشراق إلى الأحضان العريقة للأكاديمية الألمانية. ومع صعود النازية أُهمل الاستشراق والمستشرقين، لكن رضوان السيد يرجع ذلك إلى أن النازية أعطت الأولوية لسياسات المجال الحيوي، أي التوسع في أوروبا، والمستشرقون لا شأن لهم بذلك، إضافة إلى أن النازية كانت تحتقر الثقافات والشعوب الأخرى. ويرصد رضوان السيد متغيرات ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تجلت بتحول الدراسات الشرقية من التاريخانية إلى التاريخ الثقافي، وتجسد التحول في اتجاه الدراسات السوسيولوجية التاريخية، والأنثربولوجيا / السوسيولوجيا التاريخية، التي اهتمت بكتابة تاريخ ثقافي للإسلام، وعرّجت على المسائل المعرفية والإبستمولوجية. لكن في الوقت الذي تجاوز الاستشراق الألماني موضوعة"عدم أصالة الإسلام"، ودينه لليهودية والمسيحية، فإنه وقع في أسر فرضية تقول بأن الدين الذي تدين به الحضارة الإسلامية هو للتراث الهيلليني، ويبدو أن القصد منها كان التقريب بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية عبر القول بأن جذورهم الحضارية واحدة. ويسلّم رضوان السيد بضخامة وعظمة ما حققه الاستشراق وأنجزه طوال أكثر من قرن ونصف القرن، لكنه يعتبر أن الاستشراق يواجه اليوم هجمات من طرف فريقين: فريق النقديين الجذريين، وفريق أنثروبولوجيي الإسلام، حيث ينقسم النقديون الجذريون والمراجعون الجدد إلى مجموعة تفكيكية ذات نزوع أنثروبولوجي، ومجموعة أخرى تتوسل طرائق التفكيكيين والانثروبولوجيين كي تحطم الصورة السائدة في الدراسات الاستشراقية عن ماضي المسلمين وحاضرهم. وبدأت نتاجات المجموعتين بالسواد في سائر المجالات العلمية، بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001. أما فريق أنثروبولوجيا الإسلام فينطلق من ظواهر الإسلام المعاصر، ليوجه هجومه الساحق إلى سائر الاستشراق. ويخلص رضوان السيد إلى أن الاستشراق بالمعنى المتعارف عليه انتهى، لتستمر التطورات والتطويرات التغييرية كما في سائر مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث تغيرت المضامين، ومعها تغيرت الأطر والقوالب.