هيمنت مناهج وأدوات التحليل الكمي على نشأة وتطور دراسات وبحوث الإعلام لفترة طويلة، إذ عنيت برصد تكرار أفكار أو أشكال إعلامية في الرسالة الإعلامية، مما عرّضها لكثير من الانتقادات حول شكلية التحليل وتفتيت النص الإعلامي وتحويله إلى مجرد أرقام وبيانات إحصائية لا تكشف عن معنى النص وعلاقات القوى داخله، ومنظور الفاعل، فضلاً عن عدم الاكتراث بالمعاني الضمنية أو غير الظاهرة في النص. من هنا بدأت تظهر- وعلي استحياء - محاولات لاستخدام مناهج وأدوات للتحليل الكيفي في دراسة النصوص الإعلامية، ثم ظهرت وبقوة منهجية تحليل الخطاب المعاصرة إلا أنها تثير رغم انتشارها العديد من الإشكاليات، بداية بالمقصود بالخطاب؟ وماذا يعني تحليل الخطاب؟ وما هي أهدافه، وما أهم أدوات تحليل الخطاب؟ وهل الخطاب أداة للتحليل أم نظرية تفسيرية؟ وأخيراً هل هو أداة محايدة أم أداة ومنهج يرتبط بنظرية عامة أو نظريات في إدراك وتفسير الواقع؟ تجدر الإشارة بداية إلى أن مفهوم الخطاب نشأ في إطار دراسات اللغة والألسنية وعلم اللغة الحديث، لكن النقلة الألسنية الكبيرة في مسائل الخطاب جاءت علي يد بنفنست 1902-1967، كما ارتبطت الأعمال الأولى للبنيويين الفرنسيين- أمثال كلود ليفي شتراوس، ورولان بارت، وجان لاكان وميشيل فوكو - بأشكال واستخدامات مختلفة من تحليل الخطاب. ومنذ منتصف الثمانينات وحتى الآن أصبحت نظرية الخطاب هي التي تقود عمليات تحليل النصوص الإعلامية، ولقد دفعت نظرية الخطاب الباحثين إلى إعادة التفكير في العلاقة بين المعنى والبنية الاجتماعية، من خلال التركيز على السلطة من داخل نظام المعنى وليس من خارجه، فنظم المعنى نفسها تعتبر سلطة، وهي لا تظهر بسهولة كنظم مثل بنية اللغة، بل من خلال ممارسات ذات دلالة، إنها ليست ببساطة المعاني المرتبطة بالممارسات الاجتماعية كما يقول ألتوسير في نظرية الأيديولوجية، بل إن المعني والممارسة لا يمكن التمييز بينهما فهما مترابطان، أي أن المعنى هو الممارسة في نظرية الخطاب. وإذا بدأت بالمقصود بإشكالية ما هو تحليل الخطاب الإعلامي فإن فان ديك، أحد رواد تحليل الخطاب، لا ينظر إليها بوصفها إشكالية بل يقول إنها مجرد سؤال بسيط في ظاهره معقد في حقيقته؟ ويقرر فان ديك بأن السبعمائة صفحة بأكملها التي يتكون منها كتاب له هي عبارة عن إجابة تفصيلية على سؤال: ما هو الخطاب؟!! إن الخطاب ليس هو اللغة، كما توجد اختلافات عميقة بين الخطاب والنص، وذلك رغم نشأتهما التقليدية من الدراسات اللغوية. إن الخطاب والنص يبحثان في البناء والوظيفة لوحدات اللغة الكبرى، وتطورا في نفس الوقت تقريباً، لذلك هناك من يعتبرهما متطابقين، لكن لا شك في وجود فروق كبيرة بينهما على مستوى المفاهيم والمناهج والوظائف. فالخطاب يركز على اللغة والمجتمع، بالإضافة إلى أن الخطاب متحرك ومتغير، وله جمهور وهدف وقصد معين، ويتشكل من مجموعة من النصوص والممارسات الاجتماعية. وفي كلمات بسيطة فإن الخطاب هو طريقة معينة للتحدث عن فهم الواقع كما أنه مجموعة من النصوص والممارسات الخاصة بإنتاج النصوص وانتشارها واستقبالها مما يؤدي إلى إنشاء أو فهم الواقع الاجتماعي. ويخلص فيركلاو إلى أن الخطاب هو أحد أشكال الممارسة الاجتماعية، ثم يستخدم فيركلاو الخطاب بمعنى أضيق حين يقول:"الخطاب هو اللغة المستخدمة لتمثيل ممارسة اجتماعية محددة من وجهة نظر معينة"، وتنتمي الخطابات بصفة عامة إلى المعرفة وإلى بناء المعرفة. فالخطاب هو كل الأشياء التي تكون العالم الاجتماعي، بما في ذلك هوياتنا، أو بعبارة أخرى الخطاب هو واقعنا الاجتماعي وإدراكنا لهويتنا، أي أنه من دون خطاب لا يوجد واقع اجتماعي، ومن دون فهم الخطاب لا يمكن أن نفهم واقعنا أو تجاربنا أو أنفسنا، ومن ثم تبدو أهمية تحليل الخطاب. فمن خلال منهجية تحليل الخطاب نستطيع تفسير الواقع الاجتماعي. وحتى نستكمل فهم المقصود بالخطاب تحديداً يجب أن نسلم بحقيقة عدم وجود خطاب واحد أو خطاب وحيد، فهناك عدد من الخطابات المتصارعة وغير المكتملة والملتبسة والمعارضة، وعبر صراع هذه الخطابات يتشكل الواقع الاجتماعي وتتشكل هوياتنا، من زاوية أخرى فإن تحليل الخطاب يمثل إطاراً نظرياً لمراقبة الواقع، عبر إجراءات دراسات تطبيقية. وبصفة عامة ترافق التوسع في استخدام تحليل وتحليل الخطاب النقدي مع عدم الاتفاق علي ما هو تحليل الخطاب، وكيف يمكن تطبيقه، وما هي حدوده وإمكانياته، ومثل هذه الحالة لا تقلق الكثير من الباحثين إذ يري البعض أن كثيرًا من المفاهيم والنظريات التي تستخدم في العلوم الاجتماعية على نطاق واسع مثل مفهوم الأيديولوجية، والوعي، والطبقة المتوسطة لا يوجد حولها اتفاق. فالمفارقة بين انتشار استخدام الخطاب وبين غموض مفهومه وأبعاده ليست أول المفارقات بل هي أول إشكالية تواجه دراسات وبحوث تحليل الخطاب النظرية والتطبيقية. والإشكالية الثانية تتعلق بالاختلاف والتباين الشديدين حول الطبيعة المعرفية للخطاب، فهل هو نظرية أم منهج في التحليل، إذ استخدمه بعض الباحثين والعلماء على أنه نظرية للتفسير، بينما استخدمه آخرون باعتباره منهجاً في التحليل، ولا يقتصر الخلاف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى صلاحية ومشروعية استخدامه وعلاقاته بالبناء الاجتماعي. فتحليل الخطاب يمثل منهجاً وليس فقط طريقة للدراسة. كما أن تحليل الخطاب ليس مجرد مجموعة من التقنيات لإجراء تحليلات كيفية للنصوص، بل يتضمن أيضا مجموعة من الافتراضات بشأن الآثار التفسيرية للخطاب. وخلاصة القول إن تحليل الخطاب لا يتعلق فقط بأسلوب التحليل، بل إنه يشكل منظوراً بشأن طبيعة اللغة وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية والواقع الاجتماعي، كما يتضمن الخطاب مجموعة من الافتراضات النظرية وما وراء النظرية. وبينما تعمل مناهج التحليل الكيفي على فهم الواقع الاجتماعي، يحاول تحليل الخطاب التعرف على كيف تم إنتاج هذا الواقع الاجتماعي، وهذه هي أهم مساهمة من جانب تحليل الخطاب، إذ يفحص كيف تقوم اللغة ببناء الظواهر وليس كيف تقوم اللغة بعكس وإظهار الظواهر، كما يفترض تحليل الخطاب أنه لا يمكن التعرف على العالم منفصلاً عن الخطاب. الإشكالية الثالثة التي تواجه الباحثين في مجال تحليل الخطاب تتعلق بالاختلاف حول طريقة استخدام تحليل الخطاب والإجراءات المتبعة في تحليل المادة العلمية التي تتعلق بمجال عمل أصحاب الاختصاصات المختلفة في العلوم الاجتماعية، فالإجراءات التي يتبعها باحثو الإدارة لتحليل خطاب الإدارة تختلف مثلاً عن تحليل خطاب الدردشة عبر الانترنت، كما تختلف ولاشك عن تحليل علم النفس الخطابي، ويبدو الاختلاف بصورة أوضح في تحليل الخطاب الإعلامي، إذ أن الخطاب الإعلامي المقروء يختلف في طريقة تحليله عن الخطاب الإعلامي المرئي، وكذلك عن الخطاب الإعلامي المسموع. الإشكالية الرابعة ترتبط بعلاقة الخطاب باللغة وبالواقع الاجتماعي، فالخطاب ينتمي إلى عالم اللغة أو العلامات باعتبار أن اللغة هي مجموعة من العلامات، لكن كل علامة لها علاقة بالواقع الاجتماعي، من هنا تثور إشكالية هل اللغة تصنع الواقع أم أن الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد اللغة؟ بعبارة أخرى هل الأشياء المادية الواقع قائمة أم أنها لا تكتسب معنى إلا من خلال الخطاب. ومن هذه الإشكالية تثور أسئلة بالغة الأهمية حول من يصنع الخطاب وكيف يتغير، ومتى ولماذا؟ وما هي آليات تغيير الخطاب؟ لكن المتفق عليه أن الخطاب لا ينتج من فراغ، بل في إطار سياق اجتماعي وثقافي وتاريخي محدد، من هنا لابد من تحليل الخطاب في إطار الممارسة الاجتماعية، ولكي نفهم أي خطاب من الضروري أن نربط بين الخطاب والسياق الاجتماعي والثقافي، بل ينبغي أن نربط بين هذا الخطاب ومجمل الخطابات التاريخية والمعاصرة. الإشكالية الخامسة تتعلق بوحدة وتنوع الخطابات، وطبيعة العلاقات بينهما، بمعنى هل يوجد خطاب واحد لحقبة زمنية واحدة كما ذهب ميشيل فوكو؟ أم أن هناك خطابات متصارعة .. ثم هل يختلف الخطاب السياسي عن الخطاب الاجتماعي عن الخطاب الإعلامي؟ وما هي العلاقات بين هذه الخطابات النوعية؟ وهل هي علاقات تنافسية أم صراعية أم تكاملية؟ الإشكالية السادسة تأتي كمحصلة نهائية للإشكاليات الخمس السابقة، إذ لا يخفى أن كل إشكالية مما أشرت إليها في عجالة سريعة تعكس اختلافات فلسفية ومنطلقات متباينة لأصحابها، ومن ثم رؤى للعالم ومناهج مختلفة، الأمر الذي يشجع على دراسة هذه المنطلقات النظرية والمنهجية بحيث يرد الباحث كل اختلاف أو تباين حول مفهوم الخطاب وعلاقته باللغة والواقع الاجتماعي وآليات تغيير الخطاب إلى الجذور الفلسفية والمنطلقات التي يعتمد عليها أصحاب المدارس والاتجاهات المختلفة في دراسة واستخدام الخطاب، لكن الإشكالية هنا أنه لا يوجد نقاء معرفي بين نظريات ومدارس واتجاهات تحليل الخطاب، بل هناك أنواع من التداخل والاستعارات المعرفية والمفاهيمية بين هذه المدارس والاتجاهات بمعنى أنه من الممكن العثور على اختلاف في الأسس المعرفية والمفاهيمية لنورمان فيركلاو أحد رواد تحليل الخطاب، ورائد آخر هو فان ديك، ومع ذلك فهناك ثمة مشتركات معرفية ومفاهيمية بينهما، ثم أخيراً يمكن القول إن أغلب مدارس واتجاهات تحليل الخطاب خرجت من معطف ميشيل فوكو، ونقلت عنه أو تأثرت بأعماله، ومع ذلك اختلفت معه. خلاصة القول إنه يمكن تحديد الملامح الرئيسية لمدارس تحليل الخطاب، بما في ذلك مدارس تحليل الخطاب الإعلامي والتي قد تعكس سمات معرفية ومنهجية مختلفة لكنها في الوقت نفسه غير متصارعة بل تنقل عن بعضها البعض وتستخدم مفاهيم مشتركة، تؤلف بينها، وتطورها، دون أن تعترف بسيادة أحدها أو اندماجها في منظومة واحدة، ولعل هذا المشهد يعكس أحد ملامح عصر ما بعد الحداثة، والخاص بنزع الطابع الثابت والجامد للمدارس المعرفية والنظريات الكبرى في العلوم الاجتماعية، في هذا الإطار يمكن رصد محاولات التكامل في الرؤى بين اتجاهات وتيارات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، ومحاولات التلاقي بين النظرية النقدية ونظرية ما بعد الحداثة. * كاتب وجامعي مصري.