عن دار "مصر المحروسة" صدر كتاب حوار الشرق والغرب ... الرشدية اللاتينية في إيطاليا، للدكتور عصام عبد الله. وعلى رغم الحجم المحدود للكتاب إلا أنه شديد الأهمية، إذ يسلط الضوء على فترة زمنية في تاريخ أوروبا، تشبه - في مظاهرها - تلك التي نعيشها الآن. وإذا كان التخلف يمثل مأزقاً تاريخياً، فإن الخروج منه يمثل - في المقابل - ضرورة وجود، تستلزم استيعاب تجارب الآخرين في مواجهة الإشكاليات القائمة. وبداية، يشير المؤلف إلى أن هذا الكتاب ليس استجابة لحدث أو أحداث طارئة، وإنما هو استجابة لهم مزمن ومقيم، يتعلق بعلاقتنا بالغرب، أو - بالأحرى - بالآخر هو الذي يقابل الذات ويعارضها، بقدر ما هو قائم فيها. وإذا كانت الذات في بعد دائم عن نفسها حتى تستطيع أن تفهم ذاتها، فإن الآخر ليس إلا هذا الابتعاد. وبالتالي، فإن للآخر وظيفة معرفية ذات بعد تاريخي واجتماعي، تتمثل في أن فهم الآخر هو مقدمة ضرورية لإعادة فهم الذات من خلاله. وكأن الكتاب حين يصنع الذات والآخر داخل هذا الإطار المعرفي، يتبع - بتصرف - مقولة ابن رشد:"الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له". فالآخر - حتى في تضاده مع الذات - هو سبب وجود تلك الذات، بل ويمثل البرهان العملي على تحققها. لذا، فإن المؤلف - من خلال هذا الكتاب - يسعى إلى البحث عن بعض الأسئلة التي أسقطت عمداً، وربما بفعل فاعل، عن جدلية العلاقة التاريخية بالغرب، وأهمها: كيف استطاع الخطاب الرشدي - بمضامينه الإنسانية والعالمية - التسرب والتغلغل في التحصينات الأوروبية للقرون الوسطى، التي سممتها أجواء الحروب الصليبية، والعداء الشديد لكل ما هو عربي وإسلامي. وبالتالي، فإن المؤلف يستدعي - ضمنياً - السؤال غير المطروح: كيف قبل الغرب أفكار ابن رشد للخروج من إشكالياته التاريخية، في الوقت الذي تجاهلنا تلك الأفكار، بل ورفضناها؟ إن الكتاب يناقش أثر أفكار ابن رشد على أوروبا عامة، وفي إيطاليا على وجه الخصوص، وكيف كانت تلك الآراء بمثابة قوة دفع هائلة في تخطي الغرب لعصوره المظلمة، دخولاً إلى عصر النهضة، ووصولاً إلى العصر الحداثي. لذلك، فإن ما هو مسكوت عنه يظل حاضراً بين ثنايا الكتاب، من خلال إشارة خفية إلى أهمية إعادة إنتاج آراء ابن رشد داخل بيئتها الأصلية، خصوصاً أنها تتميز بقدر من المرونة التي تجعلها قابلة للتطبيق في عصورنا المظلمة الراهنة، خصوصاً مبدأ"ثنائية الحقيقة". فاستطاعت أوروبا أن توجد نوعاً من التطبيع بين المتناقضات: بين الفلسفة من ناحية، والدين من ناحية أخرى، وبالتالي قدمت فرصة تاريخية لكل من العلم واللاهوت لكي يتعايشا معاً. لقد رافقت الرشدية اللاتينية - إذن - عصر النهضة الأوروبية، وشكلت أهم روافده الأساسية منذ القرن الخامس عشر، حيث بدأت إيطاليا الدخول في هذا العصر، وكانت"بادوا"هي معقل الرشدية اللاتينية في هذا القرن والذي يليه، كما كانت جامعتها قائدة لثورة التنوير في أوروبا كلها، كما يؤكد ذلك ارنست رينان. ولقد كانت إيطاليا - في ذلك الوقت - تموج بثلاثة تيارات رئيسية: الحركة الإنسانية، والفلسفة الأفلاطونية، والفلسفة الأرسطية التي سيحمل لواءها ويطورها الرشديون في"بادوا"تحديداً. ويشير المؤلف إلى أن ما يجمع بين هذه التيارات الثلاثة، على ما بينها من اختلافات، هو إيمانها الشديد ب"الفردية"، في مقابل جماعية القرون الوسطى. وانطلقت الفلسفة الأرسطية من التقليد التعليمي للجامعات في القرون الوسطى، وتركيزه الأساسي على المنطق والمنهج والفلسفة الطبيعية والميتافيزيقا. وكان هذا التقليد ظهر في إيطاليا منذ أواخر القرن الثالث عشر مع جان دي جاندون والرشديين اللاتينيين. واعتبر الأرسطيون في الجامعات الإيطالية - في شكل عام - أن ابن رشد هو"الدليل الهادي"و"المفسر الأوحد"لأرسطو. وفي نهاية القرن الخامس عشر صارت الرشدية دارجة لدى الطبقة الراقية في البندقية، وأصبح من دواعي التباهي، والافتخار للمثقفين أن يتمسحوا بها. وفي هذا التوقيت كان ابن رشد هو نجم الحياة الفكرية والعقلية في بادوا، حيث كان هو الفيلسوف الأكثر تقديراً، إذ اعتبرت آراؤه وكأنها نوع من"الوحي الإلهي"، كما كان الأكثر شهرة بسبب موقفه من"وحدة العقل". وتمثلت رشدية بادوا - آنذاك - في مفاهيمها المفارقة عن القضاء والقدر، والطبيعة الإنسانية التي قللت من قدر كل ما هو شخصي وفردي، بتأكيدها على الخلود الجماعي. وحدث نوع من التحول في الأفكار الرشدية السائدة، حين ظهرت سمات جديدة ومغايرة لخصائصها، حيث أصبحت الرشدية التقليدية تعني - فقط - رؤية بدائية للمعرفة، وإن ظلت مستقلة عن الحل اللاهوتي في الوقت نفسه. وعلى حين كانت"الطبيعة"و"العالم"في السابق هما محور اهتمام معظم الرشديين، أصبحت"النفس"- في مرحلة لاحقة - بؤرة الاهتمام الذي أيقظ الجدل في إيطاليا كلها في نهاية القرن الخامس عشر. كانت هناك تفرقة جذرية أقامها ابن رشد بين الفلسفة والدين، فكل منهما يشكل طريقاً إلى الحقيقة مبايناً للآخر، وأن الفلسفة في مرتبة متميزة عنده، حيث كان من الممكن شرح ذلك من خلال مشكلة"النفس"وخلودها، وهي من أعوص المشاكل الفلسفية، كما يتبين من كتاب"تهافت التهافت". وأشار ابن رشد في هذا الكتاب إلى أن"الكلام في أمر النفس غامض جداً"، حيث كان يدرك أن نظرية العقل الأرسطية تتعارض مع العقائد السماوية، وإنها تهدد مشكلة الحياة الأخرى أو البعث. إن مشكلة العقل، والتفرقة بين الروح والمادة، وخلود النفس، هي مسائل متشابكة حرص ابن رشد على الفصل في ما بينها، ثم حلها. ولذا، فإنه عارض التأويل المادي الذي ابتدعه"الاسكندر الأفروديسي"أحد شراح أرسطو. لقد رأى أرسطو أن العقل العام غير قابل للفساد، وأنه قابل للانفصال عن البدن، وأما العقل الفردي فهالك ينتهي مع البدن ويفنى بفنائه، وهكذا، أدرك ابن رشد هذا الرأي، فالعقل الفعال وحده هو الخالد، وهذا العقل ليس سوى عقل البشرية العام، فالإنسانية - وحدها - هي الخالدة. وتابع الراشديون رأي المعلم الأول وشارحه الأكبر، فرأوا أن المعرفة ليست وظيفة شخصية على الإطلاق، لكنها الحقيقة التي تعرف ذاتها مرة في هذا الإنسان وأخرى في إنسان آخر. على أن الرشديين استطاعوا أن يجدوا حلاً لتلك الإشكالية، من خلال تبني نظرية"الحقيقة المزدوجة"، أي القول بوجود حقيقتين: فلسفية ودينية، وهي الحيلة المثلى التي اتبعها معظم المفكرين الأحرار، حتى عصر التنوير في القرن الثامن عشر وما بعده. وهكذا، استقر المبدأ الذي رفضته الكنيسة من قبل، حيث كانت تتبنى نظرية الحقيقة الواحدة في القرون الوسطى، لأن العقل والإيمان - طبقاً لتلك النظرية - لا يتعارضان أبداً. ويشير المؤلف إلى أن إيمان الرشديين بنظرية الحقيقة المزدوجة كان حيلة توفيقية، تحايلوا - عبرها - للإفلات من قبضة محاكم التفتيش. وذلك، أصبح الرشديون اللاتينيون هم أصحاب الفكر القويم من وجهة نظر الكنيسة، في مواجهة الفكر المنحرف لاتباع الاسكندر الأفروديسي، بل إن من الرشديين خرج منظرو الكنيسة والآباء البطاركة. ونتيجة لذلك، أصبح اسم ابن رشد يعلو فوق أسماء المفكرين الآخرين في إيطاليا عصر النهضة، ولم يعد الانتساب إلى فكر"الشارح الأكبر"مجرد وسيلة للتباهي، بل أصبح هدفاً لنيل رضاء الكنيسة. وبذلك، فإن قبول الكنيسة لآراء ابن رشد، إنما كان يعني اعترافاً ضمنياً بالتفرقة بين النظامين: الفلسفي والديني وهو أبرز المبادئ الرشدية، والذي أدى - لاحقاً - إلى ظهور الحداثة الغربية. ويشير المؤلف إلى أن كثيراً من الرشديين قد تخلوا عن نظرية"وحدة العقل"والقول ب"الخلود الجماعي"في عصر النهضة، ليس لأسباب دينية وإنما لدوافع إنسانية وفردية وشخصية، تتعلق بطبيعة هذا العصر. ومن ثم، لجأوا إلى كتاب"تهافت التهافت"لابن رشد، الذي قال فيه بنوع الخلود الفردي، حتى لا يصدم العامة في معتقداتهم، ويحرج مركز الفلسفة أمام خصومها. لقد كان تراجع الرشديين"تراجعاً تكتيكياً"، باعتباره الرأي الأصوب المتوافق مع روح عصر النهضة، ما يؤكد مرونة الأفكار الرشدية وقابليتها للتكيف مع المتغيرات السوسيو تاريخية. وهكذا، صارت مبادئ ابن رشد - ابن عصر النهضة - بمثابة النصير للكنيسة، في مواجهة العدد الجديد المتمثل في الفكرة الإلحادية، بعد أن كانت تلك المبادئ يوماً عدواً لنفس الكنيسة. ومع نهاية القرن السادس عشر لم تعد الرشدية اللاتينية تمثل مذهباً، وإنما منهجاً يقوم على أهم مبدأ من مبادئ ابن رشد، وهو التفرقة بين الفلسفة والدين. وبذلك، لم يعد تدريس أرسطو من خلال شروح ابن رشد محل معارضة من رجال الدين، حيث أصبح هو صمام الأمان للعقيدة المسيحية الكاثوليكية. وخلاصة الأمر أن الرشديين في عصر النهضة الأوروبية في إيطاليا ظلوا أوفياء لمبدأ أو أكثر من مبادئ ابن رشد، وأهمها جميعاً الفصل بين الفلسفة والدين، أو استقلال الفلسفة عن اللاهوت. ومن دون هذا البعد لا يمكن فهم حقيقة الدور الذي لعبته الرشدية في التاريخ الحديث، وكيف كانت نقطة التحول الفاصلة في الفكر الأوروبي، دافعة إياه باتجاه العصر الحديث. * كاتب مصري