أمس هاتَفَتني المناضلة الفاضلة فدوى البرغوثي. وصلَ صوتُها عبر جهاز التلفون دافئاً حنوناً مثل صوت أختٍ كبرى يحلو لها أن تكون الأم لا الأخت فقط،"أَتصلُ لأطمئنَ عليكم" قالت لي"مُضيفةً انها تتابعُ الأخبار، ولديها قلق على لبنان وأهله. يا الله، ما أنبل هذه السيدة تتصل من خلف الأسلاك الشائكة ومن جوف النار والبارود ومن رام اللهالمحتلة، ومن فلسطين التي ابتلاها الزمان بأقذر أنواع الاحتلال، كي تطمئن علينا، كأنها لا تكتفي بهمومها وهموم أسرتها ومدينتها ووطنها، بل تريد إضافة همّ جديد هو الهمّ اللبناني!... لتزيدَ طينَ يومياتها بلّة. كان الاتصال فرصةً للسؤال عن زوجها المناضل مروان البرغوثي، المعتقل منذ سنوات في زنازين الاحتلال الإسرائيلي، وفرصة أيضاً لقول: مبروك إطلاق قسّام، نجلها الأكبر الذي بقي في المعتقل ذاته أكثر من سنة، وجاءني صوته عبر المسافات واثقاً طيباً نضِراً مثل غصن زيتون من تلك الزيتونات المباركة في تربةفلسطين، لم تنل منه سياطُ الجلادين ولا وحشية السجّانين، فصحَّ فيه المثل: هذا الشبل من ذاك الأسد. والكلام على أُسرة مروان البرغوثي لا يُعود مجرد كلام، أو شعار أو عبارات إنشائية، فكلُّ كلمة هنا تعني نفسها تماماً. لقد عرفتُ هذه الأسرة الكريمة إثر اعتقال مروان، ونشأت بيني وبين أفرادها مودةٌ، مثلما نشأت بيني وبين"مُعيلها"المُعتقل صداقةٌ ملحُها حبرُ الرسائل التي تبادلناها. لكن الأجمل من هذه الرسائل التي يكتبها مروان البرغوثي لأصدقائه ولمحبيه، أو التي يُوجهها لأبناء شعبه، هي تلك التي يكتبُها لرفيقة حياته ونضاله، زوجته فدوى التي انتظرته طويلاً إبان خطوبتهما ليخرج من السجن فيتزوجا ثم سرعان ما يعود اليه، الى حدِّ أن لحظة ولادة جميع أبنائه كانت وهو بعيد عن أسرته، أسيراً أو مُبعداً خارج وطنه. بحكم الأخوّة التي تجمعني بفدوى، تسنى لي الإطلاع على بعض الرسائل الشخصية التي كتبها مروان لزوجته، بل قُل لحبيبته، إذ انها خُطّت من خلف القضبان، عبر الوَلَه والاشتياق، وما أدهشني لدى قراءتي لها ليس اكتشافي لمروان كعاشق ولهان وزوج وفيٍّ ووالدٍ حنون، فهذه صفاتٌ أتوقعها من مناضل مثله. ولعل صفات كل مناضل حقيقي، لأن غيرة المناضلين حيال أوطانهم وشعوبهم إنما تكون، أولاً، حيال أوطانهم وشعوبهم الصغيرة، بيوتهم وأسرهم. وما وقعت عيناي قط على محبٍّ لزوجته وأولاده كما مروان البرغوثي الذي قرأته في رسائله الى فدوى. ربَّ قائل وما شأنك وشأننا برسائل يتبادلها زوجان بين الأَسر والحرية. له أقول: ما يعنيني هو تلك النفحاتُ الأدبية العالية التي تتصاعد من كتابات مروان وتلك اللغة الشعرية التي صاغ بها اشتياقه وحنينه وخوفه على أحبته، زوجة وأبناء، وليت فدوى ومروان يبادران الى نشر تلك الرسائل، لَقَرأنا نموذجاً مضيئاً ومُعاصراً من"أدب المراسلة"لا يقل شأناً عن تلك النصوص التي خطّها يوماً قلمُ مناضل كبير آخر وعاشق كبير أيضاً هو غسان كنفاني في رسائله الى غادة السمّان. ما تُعلِّمنا إياه مجدداً أمثولةُ مروان، وقبله غسان، أن كلَّ مناضلٍ كبير هو، حتماً، عاشقٌ كبير، وربما شاعرُ كبير أيضاً.