أنجز علي نيسين ابن الكاتب التركي الكبير الراحل عزيز نيسين، كتاباً من أوراق أبيه، يقع في نحو 600 صفحة، صدر في اسطنبول وفيه يعمد نيسين الى تقييم زملائه من مثقفي تركيا الذين عاصرهم وكانت له معهم علاقات صداقة أو خصومة أو نفور، وكذلك عدد من الكتّاب الأجانب. ولم يشأ الكاتب أن ينشر تلك الأوراق في حياته، ربما تجنباً لما يمكن أن تثير من حساسيات، لكنه لم يحرم معدّي الكتاب من مسودة مقدمة حاول أن يبرر فيها عمله. ويسوغ نيسين حديثه عن جوانب لم يحبها في أشخاص أحبهم، فيقول:"من السهل الحديث عن أشخاص ماتوا، لكني، لا أعني بذلك أنني ما كنت قادراً على كتابة ما كتبته بعد مماتهم، حين كانوا على قيد الحياة، فسبق أن قلت في وجوههم أكثر مما كتبت وأشد قسوة. كنت أحبهم جميعاً على وجه التقريب. ليس من السهولة أن تكتب عن الجوانب السلبية لأشخاص أحببتهم ورحلوا، ولا هذا بالمستحب، فالأمر يشبه الغيبة. وهذا ما أفعله في هذا الكتاب". وينأى نيسين بنفسه عن الحديث عن أعمالهم الإبداعية، مقتصراً على شخصياتهم، ذلك أن الأولى هو من شأن الناقد ومؤرخ الأدب، وهو ليس هذا ولا ذاك. ينهي نيسين مسودة المقدمة بملاحظة تنم عن يقظة شديدة:"ستكشف نصوص هذا الكتاب، ليس فقط شخصيات المثقفين موضوع الملاحظة، بل أيضاً شخصية الكاتب الملاحظ. وهذا في رأيي ليس بالأمر السيئ". نقرأ كثيراً من أفكار نيسين وآرائه، مبثوثة هنا وهناك، في سياق كتابته عن الشخصيات الثقافية لبلده. في نص مخصص لعبد الله جودت، مثلاً، نقرأ عن حنق نيسين من مجتمعه الذي يغمط المبدعين حقهم بجهلهم وجهل قيمتهم. يقول إنه سأل الكثير من الشباب ومن مثقفي الجيل المتوسط عن عبد الله جودت، فلم يجد واحداً سمع به، هو الذي طرح الأفكار التحديثية الرائدة التي انطلق منها كثير مما يدعى"ثورات مصطفى كمال أتاتورك". لقد شكك جودت بالقيم السائدة في عصره واتخذ الاتجاه النقيض لما هو سائد، فلم يكن من مثقفي جيله إلا أن حاربوا أفكاره بقسوة، لأنهم اعتادوا على بيئة فكرية مألوفة"كالجنين في رحم أمه"وفقاً لتعبير نيسين، ولأنهم يشعرون بالقلق والخوف من أي تغيير أو أفكار مختلفة عن مألوفهم. مجلة"الاجتهاد"التي كان يصدرها عبد الله جودت، هي الفكرية الأطول عمراً بين زميلاتها، وواظب الرجل على إصدارها بصبر وعناد ومن غير دعم أي شخص أو جهة."أعتقد أنه لا يمكن فهم أسس الجمهورية التركية الحديثة، ما لم تدرس محتويات مجلة الاجتهاد"يقول عزيز نيسين. وفي فصل خصصه للكاتب عدنان ولي ? وهو شقيق الشاعر الكبير أورهان ولي ? يتحدث نيسين عن العلاقة بين الشهرة وصاحبها، فيقول:"كنت شاهداً على ذيوع شهرة كثير من زملائي. أقول استناداً إلى ملاحظاتي الشخصية إن العلاقة بين الشهرة وصاحبها تشبه العلاقة بين المرء وظله. فثمة من المشاهير من يمشي ومصدر الضوء خلفه، فيبدو كمن يلحق بظله الذي يكبر ويتقدمه، ويبقى ضئيلاً جداً بالقياس إلى ظله. كلما كبرت شهرة هذا النوع من الناس كلما صغروا، إلى أن يتلاشوا تماماً، فتمحى شهرتهم مع ظلهم. في حين يمشي آخرون نحو مصدر الضوء، فيكبر ظلهم وراءهم من دون علمهم، ولا يلقون بالاً لشهرتهم التي تكبر. يظلون بعد الشهرة كما كانوا قبلها". من هذا النوع الأخير كان عدنان ولي في رأي عزيز نيسين. كان الكتاب الذي نشره بعنوان"صنبور السجن"حدثاً في الحياة الثقافية في بداية الخمسينات، وازدحم المكان أمام دار النشر التي أصدرته بطوابير القراء الذين جاؤوا لشراء الكتاب الذي تصدر قائمة المبيعات في عام صدوره. ويفسر نيسين لا مبالاة ولي بالشهرة السريعة التي اكتسبها بالنضج الذي بلغه في سنوات سجنه التي أمضاها تحت تهديد الإعدام. بعد كتابه الأول هذا لم ينجح ولي في كتابة شيء مهم. لأنه، دائماً وفقاً لنيسين، لم يكن شغوفاً بالأدب. كان شغفه الوحيد أن يحيا بصورة محترمة وجميلة. لاحظ نيسين الشغف نفسه بالحياة عند كتاب آخرين من أصدقائه ممن أمضوا زهرة شبابهم في السجون. لاحظ أنهم يتذوقون الحياة ويرغبون بالاستمتاع بكل لحظة فيها. ثمة"فصل"لا يتجاوز سبعة أسطر يحمل عنوان"ألبيرتو مورافيا"يعبّر فيه نيسين عن شعوره بالعار لأنه لم يقرأ للروائي الإيطالي الشهير أي كتاب."عليّ أن أقرأ أعماله في أقرب فرصة". ويتذكر بأنه التقاه في مؤتمرات دولية، لكنهما لم يتبادلا الحديث. الصورة التي احتفظ بها عن مورافيا تتمثل في وقوفه منتصب القامة ووحيداً على صحن الدرج المزدوج المصنوع من الرخام المؤدي إلى قاعة المؤتمرات في قصر الكرملين."رأيته دائماً في تلك الصورة: متوحداً مثل كائن بري، مثلي...". ويكتب نيسين عن الشاعر التركي أتيلا إلهان قائلاً:"عرفته للمرة الأولى من خلال مجموعته الشعرية"الجدار"التي قرأتها في سجن"باشا كابي". تحمست له كثيراً، وزاد من فرحتي معرفتي أن الشاعر في الثامنة عشرة من عمره. بعد ذلك التقيته في أحد المقاهي بضع مرات وتبادلنا الحديث. كان في سلوكه وملبسه ما يعلن بصخب عن كونه شاعراً. تلك اللقاءات القليلة والأحاديث القصيرة لم تترك لدي انطباعاً جيداً. كان من النوع الذي يقوم بالدعاية لنفسه". ثم يتحدث عن السيرة السياسية للشاعر، الذي انتمى إلى"الحزب الاشتراكي التركي"وأدار تحرير جريدة الحزب"الحقيقة"وكتب افتتاحيتها كل يوم بنبرة يسارية متشددة، ملقياً المواعظ على مثقفي اليسار الأكثر نضجاً منه، وأحكامه الباتة بحقهم متهماً إياهم بالجبن واحتراف الكلام. ثم جاء الحكم العسكري وحظر نشاط الحزب الاشتراكي ورفع دعاوى قضائية ضد أعضائه. وشهد أتيلا إلهان ضد رفاقه في الحزب، في اتهامات ملفقة، وكوفئ بحصوله على جواز سفر وغادر إلى باريس، في وقت حكم على رفاق أكثر اعتدالاً منه بالسجن سنوات. ويتضمن الكتاب فصولاً مخصصة ل 82 شخصية ثقافية، هي جزء من أوراق عزيز نيسين، ويعدنا محرر الكتاب بتوسيع الطبعات المقبلة بفصول إضافية. ونذكر من بين الشخصيات في الكتاب، زعيمة حزب العمال التركي في السبعينيات بهيجة بوران، الشاعر جمال ثريا، الكاتب القرغيزي جنكيز آيتماتوف، الصحافي التركي تشيتين آلتان، المفكر اليساري دوغان أفجي أوغلو، الروائي فقير بايكورت، الشاعر فاضل حسني، القاص والمسرحي خلدون تانر، الروائي الروسي إيليا إهرنبرغ، الروائي كمال طاهر، الموسيقي اليوناني ميكيس تيودوراكيس، الروائي أورهان كمال، الشاعر والمغني روحي سو، الصحافي أوغور مومجو، الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، الروائي يشار كمال، يلماز غوني، وغيرهم. جدير بالذكر أن عزيز نيسين مات في العام 1995 عن 78 عاماً، متأثراً بما لحق به من أذى جسدي نتيجة محاولة اغتيال جماعية تعرض لها مع نخبة من المثقفين الأتراك في مدينة"سيواس"شرق البلاد، قام بها أصوليون أحرقوا الفندق الذي يقيم فيه مع زملائه، فمات عدد منهم، ونجا نيسين في البداية، ثم ما لبث أن مات بعد فترة قصيرة. يذكر أن المستهدف الحقيقي كان نيسين نفسه بسبب نشره قسماً من الترجمة التركية لرواية سلمان رشدي الشهيرة"آيات شيطانية"في المجلة التي كان يشرف على إصدارها، فقد أطلق الجناة الذين قاموا بإحراق الفندق هتافات"الموت للشيطان".