إن أمة يمثل الكتاب معجزة دينها، ويبدأ كتابها السماوي بكلمة "اقرأ"، ويصف ربها نفسه بالأكرم عندما يتحدث عن إعطاء فضيلة العلم والكتابة للإنسان: "اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". بينما يتحلى بصفة الكريم عند الحديث عن خلقه قائلاً: "ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك وعدلك". هذه الأمة لا بد من أن يكون للكتاب والعلم والتعقل عندها منزلة لا مثيل لها. لكنه وللأسف ينبغي القول إن مجموعة الدول الإسلامية تُصنّف اليوم ضمن التقسيمات العالمية في عداد الدول النامية. وفي هذا المجال والمقام لا أريد أن أناقش مفهوم التنمية في إطار رؤية فلسفية فذلك يتطلب بحثاً مترامي الأطراف، لكنني أقول باختصار إن الدول الإسلامية لا تعيش في ظروف مناسبة في مجال العلم والأبحاث العلمية وإفرازها الرئيس في عالمنا المعاصر أي التكنولوجيا. والفكر والعقل عندنا يعانيان من اضطرابات، كما أن داءنا الآخر يكمن في سوء التفاهم الناتج عن عدم التفكير أو اضطرابنا الفكري، والأسوأ من كل ذلك أن هناك من يسعى للتعويض عن انعدام الفكر وما يفرز من تخلف عبر التشبه بالغرب، ويحاول البعض الآخر أن يُخفي كل ذلك وراء ظواهر الدين مُعرضاً عن باطنه الذي يؤكد كل التأكيد على استخدام العقل والفكر مسيئاً بتقديسه الظواهر للدين وللمتدينين. والسؤال هو: لماذا أُصيب العالم الإسلامي بهذا الوضع وهو الذي أبدع في وقت مضى إحدى أبرز الحضارات الإنسانية؟ واليوم إذ تم التعرف على الداء، لماذا لا يفكر بالدواء ولا يستخدم طاقاته المادية والمعنوية الهائلة لمكافحة هذا التخلف والوصول الى مكانته المرموقة، بل لماذا أصابه التمزق مبدلاً بذلك الخلافات الجزئية الطبيعية في إطار الحضارة الواحدة الى عامل"للنقار"والنزاع بدل استخدامها لتفعيل الفكر والعقل والحياة وتحقيق التقدم والازدهار؟ أرى في هذه المسيرة أصابع أعداء يُضمرون الضغائن للإسلام ولا يتحملون أن يحقق المسلمون مجدهم وعزتهم. وليس من الصعب الإجابة على هذه التساؤلات، فذلك من أهم الضرورات في هذا الزمن، لكنه لا مجال لي أن أتطرق الى ذلك وقد أشرت إليه باختصار في وقت آخر. وفي هذا المكان أشير اليوم معرباً عن سعادتي للحضور في مكتبة الإسكندرية وبين أصحاب الفكر والفضيلة الى بعض النقاط، لأنتهز الفرصة للاستفادة من الأساتذة والعلماء وأصحاب الفكر والثقافة إن شاء الله. أولاً، سأشير الى مكانة الإسكندرية الرفيعة في تاريخ الفكر والثقافة والحضارة البشرية وخصوصاً في الحضارة الإسلامية. وثانياً، سأطرح تأملاتي باختصار حول الكتاب ودوره في تطور المجتمعات ومكانته الفريدة في مجال الفكر والثقافة. كما تعلمون، فإنني قدّمت أطروحة الحوار بين الثقافات والحضارات التي لقيت إجماعاً دولياً. واليوم أقول: ان الإسكندرية ملتقى الحضارات الشرقية والغربية وتمثل طيفاً ممتعاً من ألوان الثقافات اليونانية والإيرانية والمصرية والعربية التي تتلألأ في سماء الحضارة الإسلامية الزاخرة. فالحضارة التي أفرزتها الإسكندرية حضارة تركيبية. وعندما انطفأت شعلة العلم بعد سقوط المدينة ? الدولة في اليونان، فتحت الإسكندرية أحضانها لتستقبل الفلسفة اليونانية من دون أن تسد الطريق أمام إشعاعات سائر الحضارات والثقافات وأجزائها. وما برز في الاسكندرية في مجال الرياضيات وعلم الفلك لم يكن مجرّد إرث تركته الحضارة اليونانية القديمة، إنما لعب تراث الحضارتين البابلية والعيلامية الذي انتقل بعد فتوحات الاسكندر الى اليونان، دوراً مهماً في تكوينه. وفي عصر ازدهار مدرسة الاسكندرية منذ القرن الثالث قبل الميلاد حتى ظهور الإسلام، برزت مدارس فلسفية مهمة. ويكفي النظر في أسماء الفلاسفة والمفكرين الكبار في هذا العصر والمفسرين لآراء أرسطو وأفلاطون والتدقيق في جذورهم القومية ليعرف الإنسان مدى مساهمة المفكرين من الشعوب والقوميات المختلفة في إعادة قراءة فلسفة أرسطو وأفلاطون ونشرها. وعلى رغم أن يوحنا الدمشقي ويوحنا النحوي، ويامبليخوس وبولس الفارسي يصنَّفون ضمن الفلاسفة اليونانيين، لكنهم لم يكونوا من أصول يونانية وكانوا ينتمون الى إيران والشام ومصر والدولة البيزنطية. وفي هذه الفترة تحقق أول حوار حقيقي بين الفكر اليوناني والأديان التوحيدية، والذي مهد في ما بعد، وإثر التحاق الفكر الإسلامي الى دائرته مستقبلاً، حواراً متعدد الأطراف، مهد لتأسيس ما عرف بالفلسفة الإسلامية. والنشاط العلمي في المراكز العلمية والفلسفية العريقة التي كان جميعها يرتبط بالإسكندرية لم يكن دائماً على نمط معين ووتيرة واحدة. ولكن لا يشك أي باحث في أن حركة إحياء العلم والفلسفة انطلقت من تلك المنطقة الجغرافية التي كانت تُعدُّ مهد الحضارات الإيرانية والاسكندرانية والبيزنطية، وذلك في أواسط القرن الهجري الثاني من العصر الإسلامي، وكان للعلم والفلسفة في هذا العصر ميزة تركيبية، إذ لم يكن الفضل في ذلك يعود الى الحضارة الإسكندرية لوحدها على رغم أن إرثها الحضاري كانت له حصة الأسد في شأنهما. وعلماء الرياضيات في هذه الفترة كانوا يعتبرون أقليدس وأبولينس وبايوس من زملائهم، كما كان لفلاسفة هذا العصر من الكندي الى الفارابي وابن سينا والعامري وأبي علي مسكويه آراء مشتركة مع أرسطو وأفلاطون واسكندر الأفروديسي. فالإسكندرية ملتقى الشرق والغرب. والخط الفكري الذي يوصل أثينا بباريس وإيطاليا في عصر النهضة، يمرُّ عبر الإسكندرية وبغداد وري ونيشبور والقاهرة وقرطبة. وإلا لكانت هذه السلسلة تنقطع لولا هذه المراكز. والغرب اليوم لا يمكن اعتباره حصيلة الحضارة اليونانية لا غيرها، كما ان الحضارة التي تسمى الحضارة الشرقية أو الإسلامية لم يكن في إمكانها الحصول على هويتها ومكانتها التاريخية إن لم تكن تتمتع بتأثير الحضارة اليونانية. ويسرني أن أرى الجهود تبذل اليوم لتكون مكتبة الاسكندرية بما لها من أمجاد موقعاً لنشر المعارف وإجراء البحوث وإيصال المعلومات للمصريين وجميع المسلمين وللعالم أجمع باعتمادها على تاريخها الناصع. والكتاب هو أبرز معالم الثقافة والحضارة. وأما قصة الكتاب فهي قصة ممتعة ينبغي البحث عن فصولها المختلفة هنا وهناك. وفي الوقت نفسه، إن ما تتناقله الكتب عن"قصة الكتّاب"ليس ممتعاً جميلاً كله، فكم من حوادث مرّة ومؤلمة شهدها الكتّاب، وكم هي المعاناة التي تحملها الكتّاب في سبيل أسفارهم. إن ما تبقى منذ العصور الأولى من ورق البابيروس هارباً من الزمن ليكون اليوم في متناول أيدينا، وما يروى عن المكتبات التي كانت تحوي مئات الآلاف من الكتب في القرون البالية، كل ذلك يعبّر عن منافذ تعرّفنا على حقيقة ما جرى في هذا البستان الزاهر للأدب والثقافة والعلوم والمعارف البشرية. وكم يروي التاريخ لنا قصصاً مثيرة حول أحداث طريفة تدل على ألاعيب الدهر وما فيها من دروس وعِبَر. فهذا ابن سينا يعرض عليه في سوق الوراقين كتاب شرح ما بعد الطبيعة للفارابي، وهو الذي قرأ مرات كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو وبقيت بعض مفاهيمه غامضة عنده، حتى ان توصل الى حقائق فكر أرسطو بعد قراءة شرح الفارابي هذا الذي حصل عليه صدفة في سوق الوراقين. وهذا الحدث يدل على أن الكتاب يجذب قارئه، إذ يبدو أن الأمر غالباً ما يكون هكذا. فالمرء يتصور أنه يختار من الكتب ما يريد منها والحقيقة لو أمعنت النظر لرأى أن الكتاب يختار قارئه وليس العكس، فالكثير من الكتاب يختار قارئه وليس العكس، فالكثير من الكتب تبقى في ثنايا السر والكتمان على رغم محسّناتها وتظل مستورة على رغم انتشارها. فالكتاب كلما ارتقى فوق الزمان والمكان، يزداد الآمر صعوبة على الطالبين. وكم هي أعداد أولئك الذين غرقوا في الكتاب لكن أرواحهم بقيت معلقة بين الپ"نعم"والپ"لا". وربما يذكركم هذا التعبير بلقاء تم بين ابن عربي وابن رشد والذي يرويه ابن عربي، أن أباه أرسله يوماً الى ابن رشد في بيته فلما دخل عليه رأى الكتب حوله ولم يره هو. ولمّا رآه ابن رشد، اصفر وجهه وتوجه الى ابن عربي ? وهو في عنفوان شبابه - سائلاً: نعم؟ فأجابه ابن عربي قائلاً: نعم أولاً ثم لا. ويضيف ابن عربي أن ابن رشد توفي بعد أيام فحملت جنازته على طرف من الدابة وكتبه على الطرف الآخر فأنشد ابن عربي قائلاً: هذا الإمام وهذه آثاره/ يا ليت شعري هل أتت آماله والإنسان ربما لا ينال جميع آماله بعلمه وبحثه لكن جميع العلوم الطبيعية وجزء من العلوم الإنسانية والأخلاقية والروحية يمكن تعلمها عبر الكتاب والدرس. والمجتمع الذي يهتم بالكتاب والفن والثقافة، له معالمه، ومنها توفير الأمن لأهل العلم والمعرفة واحترام حرية أصحاب القلم والفن. وتوفير الحرية والأمان أمر ضروري وواجب للمجتمع بأسره لكنه أوجب الأمور وأكثرها ضرورة لأهل العلم والفكر والفن. لأنه من دون الأمن والحرية لن يتم الإبداع في الفن ولا في الفكر والمعرفة. فقضية الأمن والحرية لمن له يد في عالم الإبداع الأدبي والفني والفلسفي. إنما هي قضية الحياة أو الموت. وربما في هذه الإشارة العابرة إجابة مجملة على سؤال يطرح نفسه وهو: لماذا لم تحقق مجتمعاتنا الازدهار المطلوب بل أصابها التخلف والجمود. فالأنس بالكتاب، أنس يضاهي الصمت والتفكير في الخلوات الإنسانية، وإنني آمُل أن يكون الحظ حليفنا لنتذوق لذة هذا الأنَس. * الرئيس الإيراني السابق، والنص كلمة له ألقاها في مكتبة الإسكندرية مساء أول من أمس.